اذا كانت المعارك العسكرية بين الفيتناميين الشماليين والقوات البحرية الأميركية اندلعت بشكل يوحي بالخطر، وبأن ثمة في الأفق شيئا ما، اعتباراً من يوم الثاني من آب اغسطس 1964، فإن الهجوم الاميركي الكبير ضد العديد من المواقع الساحلية في فيتنام الشمالية جاء يوم الرابع من الشهر نفسه، ليعلن بكل وضوح ان واشنطن اختارت الحرب "سبيلاً للتفاهم مع فيتنام الشمالية". فالحال أن احداث ذلك اليوم المتشابكة كانت هي الاعلان الحقيقي عن اندلاع الحرب الفيتنامية. مهما يكن، من الصعب على التاريخ دائماً ان يحدد هوية صاحب الضربة الأولى، ولكن من المؤكد ان احداث تلك الأيام الأولى من شهر آب اغسطس من ذلك العام أتت في مجموعها لتعلن ولادة حرب جديدة. وإذا كانت كتب التاريخ الأميركية تقول ان الاحداث بدأت مع هجوم ثلاثة مراكب دورية فيتنامية شمالية على مدمرة اميركية، فإن الفيتناميين يصرون على أن الهجوم الأميركي الكبير الذي شن ضد موانئهم في خليج توتكين كان من دون أي مبرر. المهم، أن الحرب اندلعت في ذلك الحين. اندلعت بين الاميركيين والفيتناميين الشماليين، على الرغم من ان الأميركيين كانوا يصرون على انهم انما يقتصرون على لعب دور المستشار التقني بالنسبة الى الفيتناميين الجنوبيين. بيد ان هؤلاء كانوا يومها اكثر انشغالاً بخلافاتهم الداخلية وبأزمة الحكم المستعصية لديهم، بحيث لم يكن بإمكانهم ان يسمحوا لأنفسهم "بترف" خوض الحرب ضد الشماليين. بالنسبة الى الأميركيين كان على الديبلوماسية ان تلعب دوراً اساسياً في تهدئة الامور، لذا توجهت واشنطن وهانوي معاً صوب الأممالمتحدة طالبتين منها التدخل والتحكيم بينهما. وكانت المنظمة الدولية على وشك ان تفعل هذا، بالفعل، حين أعطى الكونغرس الاميركي، يوم السابع من الشهر نفسه، سلطات مطلقة للرئيس لندون جونسون في ما يتعلق بحل المشكلة الفيتنامية. فما الذي فعله جونسون يومها؟ في الوقت الذي راحت فيه منظمة الأممالمتحدة تبذل كل ما في وسعها من جهود للوصول الى حل ديبلوماسي، وفي الوقت الذي كانت فيه سايغون منهمكة في خضم أزمتها السياسية القاتلة التي تواصلت حتى آخر ذلك الشهر، كاشفة عن ضعف الطغمة العسكرية الانقلابية الحاكمة، أدى اعطاء مطلق الصلاحيات للرئيس جونسون الى دفع قوات عسكرية اميركية ضخمة في اتجاه الجبهة الفيتنامية، على الرغم من ان اصواتاً عديدة ارتفعت داخل الكونغرس الاميركي معلنة خوفها من أن يؤدي ذلك التصعيد الى تصعيد عسكري حقيقي. بيد ان الرئيس جونسون لم يأبه بتلك الاصوات، بل استند الى الصلاحيات المعطاة له، وراح يبعث بألوف الجنود من قواة المشاة والبحرية كي يتولوا تقديم العون للحكومة السايغونية. أمام هذا التصعيد الأميركي، الذي ترافق مع تعاظم شعبية جونسون في الولاياتالمتحدة خلال الانتخابات الرئاسية التي مكّنته من الفوز فوزاً ساحقاً، لم يجد الفيتناميون مهرباً من سلوك درب التصعيد بدورهم. وعلى هذا النحو شنوا يوم الأول من نوفمبر تشرين الثاني التالي هجوماً عنيفاً ضد مطار بيان - هوا الواقع على بعد عشرين كيلومتراً فقط من العاصمة، وكان ذلك اعنف هجوم يشنه الثوار الفيتناميون مدعومين من الشماليين في ذلك الحين. وفي سايغون كانت الازمة السياسية تمخضت عن عودة المدنيين الى السلطة. وهؤلاء امام الدعم الاميركي المتعاظم لهم، وأمام الهجمات الشمالية وعمليات الثوار، وجدوا انفسهم يعلنون الحرب رسمياً يوم 27 من ذلك الشهر. وهكذا دخلت حرب فيتنام الثانية تمييزاً لها عن الحرب الفرنسية في الهند الصينية دائرة العنف المتواصل. وبدأ الأميركيون يغوصون في وحولها اكثر وأكثر. وكان اكبر دليل على غوصهم في تلك الوحول انه ما أن حل شهر تموز يوليو التالي 1965، الا وكان الرئيس جونسون قد أعطى قواته المسلحة الاذن بالقيام بعمليات هجومية ضد الشماليين وضد ثوار الجنوب. وعلى هذا النحو تحول الدور الأميركي، رسمياً هذه المرة، من دور الاستشارة التقنية الى دور الالتزام المباشر بالقتال. وعند نهاية ذلك الشهر كان عدد الجنود الاميركيون في فيتنام قد وصل الى اكثر من 125 ألف جندي. وراحت السلطات الاميركية تجند الشبان اكثر وأكثر في الحرب. ونذكر في هذا المجال انه بحلول شهر آب اغسطس 1967 كان عدد القوات الاميركية في فيتنام قد زاد على 525 ألف جندي، بينما صوت الكونغرس على تمويل الحرب.