بدأت الأوساط السياسية الاعلامية في ألمانيا تطرح سيناريوهات عدة حول مصير رئيس الحزب الديموقراطي المسيحي فولفغانغ شويبله، بل مصير الحزب بالذات، والمتضعضع بشدة حالياً بعد انكشاف انغماس رئيس الحزب في فضيحة التبرعات السرية والحسابات السوداء التي اقامها المستشار السابق هلموت كول في ما يشبه "امبراطورية مالية" خاصة به، عمّرت اكثر من 16 سنة هي فترة حكمه البلاد. وهناك من يرى ان شويبله الذي يرفض حالياً الاستقالة من منصبه، سوف يضطر الى ذلك بفعل الضغوط القوية الممارسة عليه وبمجرد انفضاح امور اخرى تتعلق بفضيحة التبرعات السرية. وهناك من هو متأكد من ذلك ويتحدث عن مسعى يجري خلف الكواليس للبحث عن رئيس جديد للحزب قادر على شد الاجماع حوله. بل ان محللين سياسيين اخذوا في اقامة تشابيه بين الحزب الالماني المتورط في قبول تبرعات سرية يعتقد البعض انها رشوات دفعت من شركات واشخاص نتيجة صفقات مختلفة غير شرعية للحصول على مصالح خاصة، وبين الحزب الديموقراطي المسيحي الايطالي الذي تفجر من الداخل إثر انفضاح علاقاته بالمافيا الايطالية. وفي كل الاحوال فمع اعتراف شويبله الاخير والمفاجئ بقبضه تبرعاً سرياً قيمته 100 الف مارك عام 1994 فُتح فصل جديد في فضيحة التبرعات السرية. والواضح ان الحزب دخل الآن مرحلة دقيقة جداً بعدما فقد شويبله صدقيته نهائياً امام الرأي العام وأعضاء حزبه، خاصة وان الشخص الذي تسلم منه المبلغ نقداً هو الشخص نفسه الذي فجر قبل شهرين فضيحة التبرعات السرية، اي تاجر الاسلحة البافاري كارل هاينس شرايبر الذي سلم الحزب عام 1991 مليون مارك نقداً، إثر اتمام صفقة اسلحة مع احد البلدان على شكل "هبة" دخلت الحسابات السرية من دون ان يعرف بها الحزب. شويبله في البداية قال انه لا يعرف شرايبر ابداً، ثم اسعفته ذاكرته داخل مجلس النواب قبل عيد الميلاد ليشير الى انه يتنكر لقاءه به في احدى المناسبات، بعدما ذكر تاجر السلاح لاحدى الصحف بأنه تناول الطعام مع شويبله. وعندما هدد شرايبر اخيراً بذكر المزيد من التفاصيل سارع شويبله، قبل ايام، الى الكشف عن ان المذكور جاء الى مكتبه بالفعل وسلمه تبرعاً قيمته 100 الف مارك نقداً احيل بدوره على حساب سري قبل ان يدخل في موازنة الحزب - حسب كلام شويبله - في قسم "مداخيل عامة". وحاول الاخير التهرب من المسؤولية بالقائه مسؤولية "سوء التصرف" في ما حدث للمبلغ على امينة خزنة الحزب بريغيتا باومايستر التي ألقت المسؤولية بدورها على امين الخزنة السابق الذي نفى علمه بالأمر تماماً، خاصة وانه كان قد تقاعد من منصبه. وجاء الاعتراف هذا ليؤكد عملياً نتائج استفتاء اعلن في نهاية الاسبوع الماضي وفيه ان 79 في المئة من الألمان لا يثقون بادعاءات شويبله في انه لم يكن على علم على الاطلاق بالحسابات السرية التي كان يتصرف بها كول. ومن هنا أثار اعتراف شويبله الذي اضطر للاعلان عنه اضطراراً، صدمة فورية لدى اعضاء الحزب الديموقراطي المسيحي حيث بدأت اوائل الانسحابات منه احتجاجاً على ازمة الثقة المتزايدة والاعتقاد بأن المذكور لا يساهم في الكشف عن تفاصيل فضيحة التبرعات السرية كما يعلن عن ذلك كل يوم، بقدر ما يسعى الى طمس ما يمكن طمسه والاقرار على دفعات بما سينكشف منها في كل الاحوال. وكان شويبله قد واجه أخيراً ازمة ثقة به عندما كشف ان الكتلة النيابية للحزب التي يرأسها حولت اكثر من مليون مارك الى صندوق الحزب بشكل ينتهك قانون الكتل النيابية والاحزاب من دون ان تثبت حتى الآن بشكل قاطع مصادر هذا المبلغ، اذ يقول مرة انها اشتراكات النواب ومرة اخرى انها اموال تعود الى الحزب اصلاً. وحسب قانون الاحزاب كان يتوجب على شويبله وحزبه الا يقبلا اي تبرع يتجاوز ال20 الف مارك دفعة واحدة ومن دون تسجيل اسم المتبرع. وبعدما كان ينفي تسلمه تبرعات الى الحزب اعترف قبل ايام ايضاً انه قبض هنا وهناك في عدد من المناسبات "بعض" التبرعات، انما لم تكن على الاطلاق في مستوى ال100 الف مارك، لكن من دون ان يقدم تفاصيل عنها. وبسبب التضعضع الشديد الذي تواجهه قيادة الحزب راهناً وتزعزع الثقة بينها وبين القاعدة وبينها وبين المواطنين، يبدو انها لم تجد بديلاً الآن عن التمسك برئيس الحزب والدفاع عنه وعن "جرأته" في الكشف عن التبرعات السرية والمطالبة ب"عدم معاقبته على الشفافية التي يبديها"، خوفاً من ان تؤدي استقالته في هذا الوقت بالذات الى توجيه ضربة قاصمة للحزب. ويتحدث بعض المطلعين على اوضاع الحزب ان بديلاً عن شويبله غير موجود في الوقت الحاضر، ولذلك ستفتح الاستقالة الباب امام معركة عنيفة بين عدد غير قليل من الطامحين قد تؤدي الى اضعافه وربما الى انقسامه بين "معسكر كول" ومعسكر معارضيه من جيل الشباب خصوصاً. ولذلك سارع العديد من اعضاء القيادة الى الاعلان عن تمسكهم بشويبله على رغم اعرابهم عن صدمتهم وغضبهم من اعترافه بتقاضيه تبرعاً سرياً. فقط مسؤول واحد حتى الآن هو رئيس فرع الحزب في ولاية براندنبورغ الشرقية الذي هزه الاعتراف، نصح شويبله بصورة غير مباشرة بالاستقالة متحدثاً عن انسحابات من الحزب. اما نائب شويبله الوزير السابق يورغن روتغرز الذي يعتبر رجل كول في القيادة، وكان قد نفى قبل ايام ان يكون الاخير يشجعه للترشح ضد شويبله في مؤتمر الحزب المقبل، فلم يدل بأي تصريح حتى الآن دفاعاً عن رئيسه. ومثل تاجر الاسلحة شرايبر يعتقد المراقبون السياسيون هنا ان فضيحة التبرعات والحسابات السرية لا تزال في بداياتها، خاصة وان لجنة التحقيق البرلمانية لم تبدأ اعمالها بعد، وهي قررت الاستماع الى اقوال التاجر في اسرع وقت ممكن، خاصة بعد التصريحات الاخيرة التي أدلى بها والتي تنم عن معرفة بأمور كثيرة لا تزال خافية. ومعروف ان المذكور ملاحق من القضاء الالماني بتهمة التهرب من دفع الضرائب، وقد تم اعتقاله في كندا قبل اشهر ثم اطلق بكفالة حيث تبحث السلطات الكندية في امكانية تسليمه الى السلطات الالمانية. وهدد شرايبر في اكثر من صحيفة اخيراً بالكشف عن مزيد من التفاصيل، ملاحظاً ان الاضرار التي ستصاب بها المانيا لم تبدأ بعد، وتنبأ بأن تنتج عن الفضيحة وقائع ستضر بكامل الطبقة السياسية في البلاد، خصوصاً في ولاية بافاريا. ويرى البعض ان اشارته الى بافاريا هي تحذير الى الطبقة السياسية الحاكمة هناك بالكشف عن تبرعات مماثلة كان قد قدمها اليها ايضا على ما يبدو. والجميع يعرف العلاقات القوية التي تربط الاخير بالحزب الاجتماعي المسيحي، الحزب الشقيق للحزب الديموقراطي المسيحي، خاصة علاقاته الحميمة برئيس حكومة الولاية الاسبق المتوفى فرانتس جوزف شتراوس والحالي ادموند شتويبر الذي اكتفى بالقول: "ان الحزب الشقيق قادر على معالجة مشاكله وحده". وعلى عكس نفي كول وشويبله بأن تكون التبرعات اثّرت على قراراتهما السياسية والحكومية اعلن شرايبر ان تبرعاته الى الحزب كانت مرتبطة بالطبع بمصالح خاصة به. وكشف انه كان يسعى للحصول على دعم سياسي من اجل بناء مصنع لشركة "تيسن" الالمانية في كندا لانتاج سيارات عسكرية مصفحة خفيفة حين كان رئيساً لفرع لشركة "تيسن بيرهيد اندوستري" هناك. واضاف ان الحديث في لقاءاته مع الاحزاب السياسية في المانيا يقصد طبعاً الاحزاب الحاكمة كان يجري دائماً حول تحقيق هذا المشروع. ولاحظ ان السياسيين يحتاجون دائماً الى تبرعات، خصوصاً في الانتخابات، وفي العادة فان المتبرعين لا يريدون ذكر اسمائهم لانهم يودون التبرع الى الاحزاب السياسية المختلفة. واوضح ان من يدفع تبرعات الى حزب يصبح صديقاً له، واذا طلب شيئاً ما منه فان الحزب يسعى الى تلبية طلبه. ولا شك ان الحزبين الاشتراكي الديموقراطي والخضر سيكونان المستفيدين الاولين من الأزمة العميقة التي يمر بها الحزب الديموقراطي المسيحي والتي ستستمر فترة طويلة على الارجح. وتشير الاستفتاءات الاخيرة الى ان حظوظ مرشحي الحزب في الانتخابات التي ستجرى في ولايتين خلال الشهرين المقبلين هبطت من مستوى النجاح المضمون قبل انكشاف الفضيحة الى مستوى الفشل الذريع الآن، الأمر الذي سيشكل ضربة سياسية قوية له وعقاباً مراً من الناخبين.