ما هي المشاريع الاكثر اهمية في حياة المخرجين السينمائيين: تلك التي حققوها او الاخرى التي لم يتح لهم تحقيقها؟ الجواب البديهي والسريع، هو ان الفيلم، لكي يكون مكتملاً ويستحق اسم فيلم، يجب ان يكون قد تحقق، اول الأمر. اما الفيلم الذي يظل حبراً على ورق او حلماً في خيال صاحبه، فانه من الصعب النظر اليه باعتباره فيلماً. او حتى مشروعاً. ومع هذا لو نظرنا الى الأمور عن قرب اكثر، ربما نكتشف ان الأمر غير هذا تماماً. وان المشاريع/ الأفلام الأهم هي تلك التي لم تر النور ابداً. وذلك لسبب بسيط، يتعلق بآلية الانتاج السينمائي نفسها، اذ ان هذه الآلية، حين تتيح لسينمائي ما ان يحقق مشروعه محولاً اوراقه واحلامه الى صور على الشريط،. تفرض عليه جملة من التنازلات على الصعد كافة. وهي تنازلات تبدأ منذ اللحظة التي يتحول فيها العمل الفردي الذي يبدعه المخرج او المؤلف منصرفاً الى نفسه والى افكاره الى عمل جماعي تشارك في صنعه حساسيات متعددة لكل منها ابعادها وافكارها وآراؤها. ومن هنا ما يقال عادة من ان كل فيلم يتحقق انما هو نتاج جملة من التسويات. ومن هنا ما يقوله المخرج دائماً بعد ان ينتهي من فيلم له من انه اضطر الى هذا او الى ذاك ما جعل عمله يفقد نسبة مئوية معينة من قيمته الأولية، مايذكر بالقول المأثور عن العماد الاصفهاني في عالم كتب التراث العربي. في المقابل نجد ان "الفيلم" الذي يظل مجرد مشروع في خيال صاحبه، يظل قبل تحقيقه، هذا اذا حقق على الاطلاق محتفظاً بحيويته الاصلية وعفويته الاولى. بل ان هناك اعمالاً تظل حتى بعد اشتغال المخرج عليها اشتغالاً اولياً، معبرة كلية عنه وعن عفويته الاولى تلك. وحسبنا في هذا ان نذكر حكاية فيلم "فلتحيا المكسيك" لإيزنشتاين الذي صور لقطات الفيلم وكتب السيناريو له ثم تركه دون ان يكتمل فأكمله مساعده بعد سنوات، فاذا بالفارق صارخ بين كل لقطة ولقطة من جهة، وبين اللقطة التي صورها المعلم الكبير والمشهد الذي ولّفه تلميذه. ولا نقول هذا الكلام هنا لكي ندعو الى ان تبقى المشاريع حبراً على ورق او في اذهان اصحابها، لمجرد احتفاظها ببكارتها وطراوتها الفنية، بل نقوله من أجل الوصول الى غاية اخرى مختلفة كل الاختلاف: ما نريده من هذا الكلام هو التساؤل عن مصير عشرات بل مئات المشاريع التي وضعها سينمائيون كبار، في فترات مختلفة من حياتهم وعجزوا عن تحقيقها لسبب مالي او مزاجي او سياسي او لغير ذلك من الأسباب. أين هي هذه المشاريع؟ الى اية درجة وصل اصحابها في تفكيرها وتصميمها؟ لماذا لم يحققوها؟ ماذا كان حصل لو انهم فعلوا؟ ان الاجابة على مثل هذه الاسئلة قد تكون اكثر قدرة على تمكيننا من دراسة عمل واحد من هؤلاء السينمائيين الكبار، مما تتيحه لنا دراسة اعمالهم المكتملة. صحيح ان في امكاننا ان ندرس، مثلاً، شادي عبدالسلام عبر "المومياء" و"الفلاح الفصيح" وما حققه من اعمال اخرى، ولكن من المؤكد ان دراسة مشروعه عن "أخناتون" بشكله الاولي الذي لم ينفذ ابداً وكان يمكن له، لو نفذ، ان يأتي مختلفاً تماماً واقل تعبيراً عن رؤية صاحبه للأسباب التي ذكرناها اعلاه من شأنها ان تمكننا بشكل افضل من فهم شادي عبدالسلام وسينماه، الحقيقية والممكنة. وما يقال عن عبدالسلام يمكن ان يقال عن غيره من الراحلين. ولكن ايضاً عن العديد من السينمائيين الكبار الذين لا يزالون بيننا، وقد طوى النسيان، وطووا هم بأنفسهم عشرات المشاريع التي اشتغلوا عليها سنوات من حياتهم ثم رموها في وهاد الغيب لأن الظروف - وليس الظروف المادية وحدها - لم تمكنهم من تحويلها الى افلام حقيقية تشاهد وتصبح جزءاً من تاريخ السينما، فكان ان اصبحت فقط جزءاً من التاريخ غير المنظور للمبدعين انفسهم.