"لو ان شكسبير عاد الى الحياة وشاهد التفسير الذي اقترحه يوتكفيتش لمسرحيته "اوتيلو" لعاد الى قبره مرتاحاً اذ وجد حقاً من فهم العمق الاساسي لهذا العمل. اذ بينما فسر الجميع هذه المسرحية على انها مأساة غيرة، تميز يوتكفيتش عنهم بتفسيرها على انها صراع خالد ومستمر بين الخير والشر، حيث يمثل اياغو الشر المطلق والقوي، ويمثل اوتيكو الخير المطلق انما المتردد". هذا ما كتبه الناقد السينمائي جورج سادول في معرض حديثه عن فيلم "اوتيلو" عطيل بالعربية! الذي حققه السوفياتي سيرج يوتكفيتش وكان واحداً من اجمل الاقتباسات التي حققت عن شكسبير، بحيث قيل دائماً انه لو لم يحقق هذا المخرج سوى هذا الفيلم لكان حسبه ان يعيش على مجده حتى آخر ايامه. لكن يوتكفيتش حقق افلاماً اخرى بالطبع، كان معظمها علامات اساسية في سينما سوفياتية لم يخل تاريخها من معلمين كبار وعلامات اساسية. وفي جميع الحالات كان يوتكفيتش مجدِداً، لا سيما حين قدم اول فيلم عن ليني نظر اليه نظرة حميمة وانسانية، بدلاً من الاكتفاء بتقديم مظهره البطولي وآيات كفاحه كبطل ايجابي كما فعلت الافلام السوفياتية التي تحدثت عن حياة الزعيم الشيوعي. سيرج يوتكفيتش كان منذ بداياته متمرداً على القوالب الجامدة، ومن هنا كان عليه، على الدوام، ان يخوض المعارك اثر المعارك في سبيل فرض آرائه ونظرته الى السينما. صحيح انه كان يحدث له ان يقدم التنازلات لسلطات ثقافية - سياسية كانت كثيرة التطلب، تريد من الفن ان يكون في خدمة الدولة والحزب، لكنه وسط التنازلات عرف كيف يرفد سينما بلاده باعمال حقق بعضها للسينما السوفياتية مكانة عالمية. وفي هذا الاطار، لعل خير ما يوصف به يوتكفيتش انه كان خصباً متنوعاً، تجاور لديه ماياكوفسكي مع لينين، وشكسبير مع تشيكوف، كما تجاورت المدن، انقرة وبراغ، باريس وموسكو، وعرف كيف ينهل من التاريخ ومن الزمن الحاضر. وبعد رحيل ستالين غدا من اوائل السينمائيين الذين انفتحوا على تجربة خروتشوف لدرجة انه اختير لمرافقته في رحلته الباريسية الشهيرة، حيث حقق يوتكفيتش فيلماً عن تلك الرحلة التي خلالها استبدت الدهشة بالزعيم السوفياتي حين اكتشف ان السينمائي الذي يرافقه كان اكثر شهرة منه لدى الاوساط الفنية والثقافية الفرنسية. ولد سيرج يوتكفيتش العام 1904 في مدينة سانت بطرسبرغ، وكان لا يزال يافعاً حين فاجأته الثورة البولشفية فاستبدت به الحماسة لها، وانضم اليها من فوره مقتنعاً بانها تحمل الحرية الى البلد كما الى الفن الذي كان قد اختاره طريقاً لحياته. وهكذا انخرط في الفن الثوري وهو ابن السادسة عشرة، وكان في الثامنة عشرة حين اسس مع السينمائيين الشابين كوزنتسيف وتراوبرغ، تجمعاً سينمائياً ثورياً قيض له ان يلعب دوراً كبيراً في نهضة الفنون السوفياتية عامة وهو الذي عرف باسم "فيكس". في بداياته عمل يوتكفيتش في تنفيذ الديكورات، ثم مساعداً لايزنشتاين فمخرجاً مسرحياً. اما عمله كمخرج سينمائي فقد بدأ في 1928 حين حقق اول افلامه بعنوان "الدانتيلا" عن قصة أزعر أفّاق، تحول الى عامل في مصنع. ولقد أتاح له نجاح ذلك الفيلم ان يحقق فيلما تالياً هو "الحجاب الاسود" 1929 ليتبعه في 1931 ب"جبال الذهب" الذي كان اول فيلم ناطق له، وفيه عالج من منظور سيكولوجي، سيظل عزيزاً عليه بعد ذلك، حكاية الفلاح الذي يصل الى المدينة ليصبح بروليتارياً وهو يعتقد ان جبال الذهب هناك في انتظاره. في افلامه التالية وحتى نهاية سنوات الثلاثين واصل يوتكفيتش تحقيقه لافلام تمتزج فيها الحكايات الواقعية مع التحليل السيكولوجي للمجتمع، مع شيء من خفة الظل، لا سيما في فيلم "رجل البندقية" 1938 الذي يتناول حياة لينين وشؤونه الخاصة. لقد كان لافتاًً ان يقوم لينين في الفيلم بتصرفات تثير مرح وضحك المتفرجين، وتضفي عليه انسانية أكيدة. وكان في وسع يوتكفيتش ان يواصل تلك الطريق لو لم يحلّ العام 1940 وتبدأ الصعوبات اذ يدعو ستالين المثقفين والمبدعين الى سلوك درب الجدية. مع هذا واصل مخرجنا في 1943 اسلوبه المجدد في فيلم عنوانه "المغامرات الجديدة للجندي الشجاع شفايك". وكانت تلك هي الفترة التي بدأت فيها كاميرا يوتكفيتش بتخطي الحدود حيث حقق فيلماً عن براغ، ثم فيلماً عن فرنسا عبّر فيه عن حب كبير لهذا البلد. وهذا الترحال سيواصله يوتكفيتش حتى يصل الى البانيا في 1954 حين حقق فيلماً تاريخياً آخر بعنوان "اسكندر بيك". لكنه خلال ذلك كله كان لا يكف عن اعلان رغبته في تحقيق فيلم حر مقتبس عن "اوتيلو" شكسبير، وهو ما أتيح له في 1956 مع موجة التحرر الخروتشيفية، كان فيلمه الاكبر، وقد مثل دوره الرئيس بوندارتشوك وكتب موسيقاه آرام خاتشادوريان. وبعد اوتيلو، كان دور لينين حيث حقق يوتكفيتش فيلماً جديداً عنه بعنوان "ثلاث حكايات عن لينين". وهو سيتبعه بعد ذلك بفيلم آخر عنوانه "لينين في بولندا". وبالتقاطع مع لينين حقق يوتكفيتش في اواخر سنواته فيلمين ارتبطا باسم ماياكوفسكي، اولهما فيلم رسوم متحركة عن نص "الحمامات" 1962. والثاني بعنوان "ماياكوفسكي يضحك" 1975. وكان هذا واحداً من آخر اعماله، هو الذي مات بعد ذلك بخمسة اعوام يوم 22 نيسان ابريل 1985 مكللاً بالمجد كواحد من الذين ربطوا السينما بالحرية وبحرية التعبير رغم الضغوطات.