المسألة بالنسبة الى هتلر كانت في منتهى البساطة: "منذ عشرين سنة، يقوم اليهود البولشفيون، الحاكمون في موسكو، بكل ما في وسعهم من أجل اشعال الحريق، ليس في المانيا وحدها، بل في طول أوروبا وعرضها"، وفي سبيل منع اليهود والبولشفيين من مواصلة مساعيهم، يصبح من الطبيعي خرق حتى الاتفاقات التي كانت عقدت مع ستالين. وهكذا، بدأت المانيا الهتلرية يوم 22 حزيران يونيو 1941، خو ض الحرب المدمرة ضد الاتحاد السوفياتي، حتى من دون أي اعلان مسبق، مدخلة الاتحاد السوفياتي، بهذا، حرباً كان ستالين يحاول جهده ألا يدخلها، طالما ان القوى التي تتصارع معادية له. في ذلك اليوم الصيفي اذن، نفذ هتلر ما كان كل معاونيه - باستثناء ستالين - يتوقعون حدوثه. فالحال ان هتلر كان قد شرع في تحضير ضربته "المفاجئة" منذ ستة أشهر، بل انه كان قد جهز لمرحلة "ما بعد الاتحاد السوفياتي" هو الذي كان يؤمن ايماناً قاطعاً بحتمية انتصاره على قوة الشر تلك. وكان هتلر يرى ان معركته مع السوفيات هي معركة ايديولوجية في المقام الأول، وهذا ما جعله يأمر بأن تتم على الفور تصفية أي مفوض سياسي تابع للجيش الاحمر يقع في أسر القوات الالمانية. ولكن على رغم هذا الطابع الايديولوجي للمعركة، كان من الواضح ان هتلر يتوخى في حربه مع السوفيات أهدافاً اخرى، استراتيجية واقتصادية خاصة. فاحتلال الأراضي السوفياتية معناه الحصول على فضاء حيوي للتحرك الالماني، حيث يتعين على الاتحاد السوفياتي أن يوفر للالمان ما يحتاجونه من مواد أولية، وان يوفر لهم البعد الجغرافي الضروري، اضافة الى انه يتعين على الشعب السوفياتي كله، في المستقبل، اي بعد تحقيق الانتصار، ان يعمل لما فيه مصلحة الرايخ... الاقتصادية والاستراتيجية والسياسية. كان الحلفاء، وخاصة تشرشل، قد ابلغوا السوفيات بحتمية الهجوم الالماني عليهم، غير ان ستالين أبى ان يصدق ذلك، بل كان يصر على ان الحلفاء يتآمرون لتوريطه في الحرب. لذلك لم يأمر قواته بأن تتخذ أية احتياطات مسبقة، وهذا ما جعلها تصاب في الأيام الأولى، بهزيمة مذهلة حيث اجتاحتها القوات الالمانية بسرعة ودمرت كل المطارات القريبة من خطوط الحدود، وراحت تتقدم على جبهة عريضة من دون ان تمنعها عن ذلك أية عوائق جدية، فهي اخذت العدو بشكل مباغت. وهكذا، ما ان مضت عشرة أيام، حتى كانت قوات الشمال الالمانية قد وصلت الى بحر البلطيق عن طريق الدانوب، فيما وصلت قوات الوسط الى منطقة بيريزينا فيما راحت القوات الجنوبية تخوض المعارك العنيفة بعد ان وصلت الى منطقتي بسيريبيا وغاليسيا. ولم يكن الألمان وحدهم في تلك المعركة، بل وقف الى جانبهم فيها الرومانيون والمجريون والسلوفاكيون والايطاليون جميعاً، اضافة الى فنلندا التي استغلت الهزيمة السوفياتية وحماية الألمان لها لتستأنف ضد الاتحاد السوفياتي حرباً قديمة بينهما، وذلك انطلاقاً من يوم 10 تموز يوليو التالي، وغايتها من ذلك استعادة أراض كان السوفيات قد انتزعوها منها قبل اكثر من عام. أما الألمان فإنهم في كل منطقة يغزونها كانوا يشكلون حكومة محلية من عناصر مناوئة للشيوعيين لتتولى الحكم. وللحظة بدا الأمر وكأنه حملة واسعة ضد الشيوعية لا ضد السوفيات وحدهم، وهذا ما جعل اسبانيا، الواقفة على الحيادة رسمياً ترسل طابوراً للمساهمة في معركة إزالة الشيوعية تلك. وبدا ان الالمان سيربحون هذه المعركة. غير ان تقارير اجهزة الاستخبارات الالمانية سارعت الى تعديل صورة الامور بعض الشيء، اذ راحت تشير الى ان هذه الانتصارات كلها يمكن ان تكون موقتة، وان السوفيات ربما سيتمكنون من قلب الموازين، حتى ولو كان هذا مستبعداً في الوقت الحاضر. ونعرف طبعاً، ان ما "تنبأت" به الاستخبارات الالمانية منذ ذلك الوقت المبكر تحقق بسرعة، اذ ما أن مضت شهور إلا واستعاد الجيش الأحمر ترابطه، خاصة بعدما راحت الأسلحة تتدفق من الاميركيين والانكليز، ثم كان صمود ستالينغراد الشهير الذي قلب كل الموازين نهائياً، وكان تدخل الجنرال "شتاء" الذي كان قد قهر نابليون نفسه عند أبواب موسكو وكانت بداية الهزيمة لهتلر الذي لا شك انه، في أيامه الأخيرة وهو يجرع كؤوس الهزيمة أمس بندم شديد على تورطه مع ستالين في معركة اعتقدها أول الأمر مجرد نزهة وصراعاً ايديولوجياً لا أكثر!