لم يسعف جسد "جنان" النحيل وصغر قامتها وهي ابنة الاعوام الخمسة عشر بمنافسة اجساد بقية السجينات اللواتي تدافعن امام عدسات كاميرات الصحافيين للإجابة عن اسئلة انهمرت عليهن عن أحوال سجن النساء الوحيد في لبنان. وحدها "جنان" بقيت على الحياد، تروح نظراتها في كل اتجاه. فبدت كمن يبحث عن معين افتقدته مذ كانت في الثالثة عشرة في قريتها النائية في جنوبلبنان حين زوّجها أهلها عنوة وخلافاً للقوانين، وزوّروا من أجل ذلك هويتها كي تبدو في الحادية والعشرين من عمرها. فعاشت في منزل غريب عليها، قادتها المأساة فيه الى السجن، الموقوفة فيه منذ ثمانية اشهر بتهمة قتل وليدها خنقاً، ولا تزال تنتظر المحاكمة منذ قرابة السنة. "جنان" ليست الطفلة الوحيدة الموقوفة في سجن بعبدا المخصص للنساء. فمثلها تعيش "دارين" تجربة السجن مع مجرمات وتاجرات مخدرات ومومسات. دارين لم تتجاوز الخامسة عشرة ايضاً وكانت أوقفت قبل أشهر عدة بتهمة سرقة بضعة آلاف من الليرات. وهي تشعر الآن ان العالم كله نسيها خلف القضبان الحديد تنتظر حرية مؤجلة. حين نادت السجانة على جنان لتسلم شهادتها في الخياطة امتزجت في عيني السجينة الصغيرة مشاعر الفرح والحزن. فبدا وجهها أكثر ضموراً وشحوباً، لكنها حملت شهادتها وقالت باعتزاز "انها سلاح المستقبل". فالشهادة الممنوحة لجنان لا تذكر مكان الدورة التي خضعت لها، هكذا ارتأت "دار الامل" منظمة الدورة ودورة اخرى لمحو الأمية بالتعاون مع مؤسسات أهلية أخرى بهدف مساعدة السجينات في حياتهن ما بعد السجن. وتنحصر اهتمامات "دار الامل" بالفتيات اللواتي هنّ في خطر الانحراف أو هن ضحايا البغاء. ولها برنامج تأهيل ودمج اجتماعي تنظمه في سجن النساء للاحداث والراشدات. لم يصمم سجن النساء في الاصل لاستقبال السجينات. هو جزء من مبنى لمستشفى الامراض العقلية المجاور، اقتطع خلال الحرب بعدما أصاب الدمار سجن النساء في بيروت. فحشرت فيه السجينات في شكل موقت ومضت سنوات اتخذ الموقت معها صفة الدائم. وتقول المسؤولة في "دار الامل" السيدة هدى القرى ان عدد السجينات يصل في بعض الاحيان الى مئة يتوزعن على أربع غرف فقط بمعدل 25 في الغرفة الواحدة، حيث تختلط الموقوفات مع المحكومات، والقاصرات مع الراشدات. معظم السجينات أميات أو شبه أميات ومن جنسيات ومناطق وأديان مختلفة. أما غرف السجن فخالية من الاسرة. ولا تتوافر أماكن للنزهة أو التعرض لاشعة الشمس وتنشق الهواء الخالي من الرطوبة، بل لا مكان للسجينات للمشي داخل الزنزانة لضيق المساحات، وحين يحلّ الليل فان على فرشة الاسفنج الواحدة ان تتسع لاجساد سجينتين أو ثلاث في آن. ضيق المكان واختلاط السجينات في ما بينهن يؤديان بحسب السيدة قرى الى تعقيدات غير منتظرة، وهي تعتقد ان الفتاة الموقوفة تبقى بريئة حتى تثبت ادانتها، وقد تمضي سنوات قبل ان تطلق، لكن في مثل ظروف سجن بعبدا تبقى مخاطر الانحراف أعلى من إمكانات "الدار" على مكافحتها. وتسعى "دار الامل" الآن الى اثبات التزوير الذي ارتكب في حق عمر جنان، وكانت جمعية مناهضة العنف ضد المرأة تبرعت بالمرافعة عنها مجاناً، واذا نجحت في ذلك فان سير المحاكمة سيختلف عما هو عليه لان جنان هي في عرف القانون الآن راشدة وليست قاصراً، والحكم على قاصر قد لا يتعدى عقوبة السجن لخمس سنوات فيما الحكم على راشدة بجرم القتل المتعمد قد يتجاوز العشرين سنة. جنان كانت اعترفت في المستشفى بعد توقيفها اثر قتل وليدها بعد ساعات على إنجابه، انها قتلته نتيجة الضغط الذي مورس عليها. وأسرّت بعد توقيفها في السجن الى مرشدات اجتماعيات انها كانت تتعرّض لاعتداءات جنسية من غير زوجها الذي يعاني عدم اهلية عقلية. واتهمت أحد أقارب زوجها بقتل الوليد حتى لا تكشف جريمته وقالت انه مارس الضغط عليها للاعتراف بانها هي الفاعلة. وفي انتظار اثبات الحقيقة، تعلمت جنان في اشهرها القليلة في السجن تنشق الملح لانه له مفعول المخدر. علمتها ذلك سجينات يتعاطين المخدرات ويتاجرن بها. "دار الامل" حاولت فصل جنان ودارين رفيقتها في "الشم"، عن باقي السجينات، وتمكنت فقط من وضعهما في غرفة، خطر الانحراف فيها أقل.