الانجاز الذي حققه الفنان السوري الكبير صباح فخري يشكل علامة فارقة في المسيرة الغنائية العربية. فقد نجح في تعزيز الحضور الغنائي الراقي، خصوصاً الشعبي منه، خلال رحلة طويلة بدأت قبل نصف قرن من الزمان. وصباح فخري، كما لا يخفى على أحد، توافرت له عناصر المعادلة الناجحة لمواصلة طريقه، وبالتالي النهوض بالأغنية الأصيلة المعبرة عن الشخصية العربية المميزة. فهو يتمتع بموهبة خارقة، وصوت غاية في الجمال ذي امكانات تتيح له حرية واسعة في ترجمة الجمل الغنائية بمناخاتها وفصولها العديدة. كما يستحوذ على احاسيس المستمع إليه منذ اللحظة الأولى مهما كان ذلك المستمع، والأهم من ذلك أنه يشده ويزيد من اهتمامه بالتصعيد المستمر في أدائه المتمكن الذي يعتمد على حس إيقاعي نابع من فهم عميق للأوزان العربية الشعرية والغنائية بتعقيداتها، وهي ميزة لا تنطبق إلا على القلة من العاملين في الحقل الفني العربي، بالاضافة الى عنصر الارتجال الذي يتفرد به الفنان ويتفوق به على ذاته، وهو بذلك يكشف عن أرضية صلبة تنضح بالامكانات وبالمعرفة للانغام والايقاعات ما يؤهله لاجادة الارتجال، هذا المجال الابداعي ابن اللحظة الذي لا يتقنه سوى قمة الرواد والمواهب الغنائية العربية. والفنان السوري مايسترو من الدرجة الأولى، فهو ملم بخفايا الموسيقى العربية، ويعد بمثابة موسوعة موسيقية - غنائية تراثية تحمّل مسؤولية النهوض بالتراث الغنائي العربي. ويقول: "انا لست قائد اوركسترا. أنا مطرب، ولكن بالحس والشعور والعمق الثقافي الفني أنا قائد اوركسترا". ويضرب مثلاً عندما يتذكر حديثاً له مع عازف القانون عبدالفتاح منسي الذي قال له انه يدرس ويمنح الدكتوراه في العزف على القانون ولكنه لا يملك مثل هذه الشهادة. ويقول صباح فخري ان من اخترع الدكتوراه هو الانسان وباللتالي هو الأصل "فهناك مايسترو بالدراسة كما أن هناك مايسترو بالفطرة موهبة من عند الله". وقد نجح في تطوير تحف غنائية عربية اصيلة مثل "الفل والياسمين والورد" لأحمد صبري النجريدي والتي غنتها السيدة أم كلثوم أواسط العشرينات، و"يا بهجة الروح" للشيخ سيد دروش وغيرهما من الروائع لرواد النغم العربي، بتصرف راق ساهم في بعثها الى الحياة من جديد باحساسه الشامي العربي الحافظ لذاته والمعاصر لبيئته وللعصر الذي يعيشه. ووجد صباح فخري في التراث غنى وقوة شاملة متنوعة من حيث المقامات والإيقاعات والأوزان الشعرية، ما شد اهتمامه ودفعه الى البحث عن أسباب ضعف حضور التراث وعدم فاعليته في الساحة الغنائية، هادفاً من وراء ذلك الى العمل على إظهار التراث بالشكل اللائق الذي يستحقه. ومن الأسباب التي ساهمت في عدم ظهور التراث بما يليق به وجد صباح فخري ثلاثة هي: ضعف المستوى الثقافي لغالبية المطربين الموجودين على الساحة، ومن يمتلك الثقافة كان لا يمتلك الأداة الحنجرة التي تستطيع تقديم ألوان التراث، والذين كانوا ينظرون الى الفن على أنه علم وثقافة وحضارة ورسالة كانوا قلة ولم يعيروا أي اهتمام للمستقبل. فقد كانت الفئة الوحيدة التي ترى الى الفن على أنه علم وثقافة وحضارة هي فئة الأكاديميين. بالاضافة الى ذلك، واجه صباح فخري مشكلة أساسية وهي مكانة الفنان الاجتماعية وسلوكياته وأخلاقياته، وهي قضايا ما زالت تسهم في الركود الذي أصاب التراث والرسالة الفنية بشكل عام. ويلاحظ ذلك في جميع أقطار الوطن العربي حيث ارتبط التطوير والتصعيد في الألحان برقي اجتماعي وفكري عند قلة من العاملين في المجال الفني، ونذكر على سبيل المثال وليس الحصر محمد عبدالوهاب والسيدة أم كلثوم ومن بعدهما ديفا لبنان فيروز ضمن الاطار الرحباني في التجربة اللبنانية الحداثية. هؤلاء نجحوا في المحافظة على الرقي الاجتماعي والفني واندرجوا ضمن مسار الحركة الفنية الشعبية الراقية. بدأ صباح فخري مسيرته الفنية على هذا الأساس مجتهداً في التحصيل الفني والثقافي. ولكن كيف له ذلك وبلاد الشام في حينه كانت تفتقر الى المدارس والمعاهد الموسيقية؟ يقول: "بدأت مرحلة العلم والثقافة على يد أساتذة خصوصيين. فقد نشأت بين فنانين كبار من ملحنين وعازفين ومطربين، وهم أساتذة في الوسط الفني ومنهم نديم الدرويش وعمر البطش وبكري الكردي وأحمد سالم ومحمد رجب وغيرهم، فكنت التقط الحكمة من الجميع وأدون في الذاكرة". الى ذلك كانت هناك حلقات الذكر والمدائح والموشحات الدينية والقصائد. واطلع صباح فخري بالاضافة الى كل ذلك على الأدب العربي والشعر، ويقول: "وضعت كل ما تعلمته من هؤلاء في بوتقة وصهرته فأصبح سبيكة اسمها صباح فخري". والفنان السوري شخصية فريدة من نوعها، بذل مجهوداً كبيراً لصقل موهبته النادرة من خلال مرافقة كبار الفنانين ومن ثم السهر الدائم مع آلة التسجيل مستمعاً وحافظاً للتسجيلات القديمة، وايضاً حفظ انتاج الأساتذة الفاعلين على الساحة في رحلة طويلة من الجهد والبحث المستمر حتى تحقق له مراده. يقول: "من يؤمن ويعمل ويخلص فالنجاح سيكون حليفه". وقد فرض فخري شخصيته بانفعالاتها المتداخلة، ومن ذلك احساسه الشامي - العربي المميز ضمن نظرة الى المستقبل ترمي الى تطوير الفن ليبقى مستمراً للأجيال القادمة. وعليه قام بتسجيل التراث الغنائي العربي بتسجيلات تعتبر مراجع لكل مهتم ودارس لأصول الغناء. وسجل في هذا الاطار أكثر من مئتي مقطوعة ما بين الدور والقد والموشح والموال والقصيدة والطقطوقة هي بمثابة مراجع في المكتبة الموسيقية العربية تكشف عن الجماليات الكامنة في موسيقانا. وفي كل ذلك كان متفاعلاً مع عصره ومحيطه مختصراً التاريخ والزمان في لحظات يمضيها المستمع مع ذروة النشوة والطرب في أجمل التجليات. واستطاع مواصلة تجربته الفذة على رغم التقلبات والمتغيرات الاجتماعية والفنية مؤمناً بمسلكه ومحموله من الفن الأصيل ومحافظاً على مكانته في المقدمة. فهو لا ينتمي الى أية موضة، ولا تجده على أي لوائح غنائية، ولم يضطر الى تغيير نهجه كما فعل الكثير من الفنانين المخضرمين بحجة مجاراة العصر، بل ظل في المقدمة بمبادئه وأصالته. يقول صباح فخري: "الجيل المعاصر بحاجة الى منطق يتفاعل ويتناسب مع أساسه وفكره. فالمقاييس تختلف معاييرها من زمن الى زمن. فالمرأة لن تلبس مجوهرات نفرتيتي على سبيل المثال، وهكذا الفن يجب تقديمه بما يتناسب مع المرحلة". غير أن الذين يشتغلون في التراث كثر على الصعيدين المؤسساتي والشعبي، وغالباً ما تجد صعوبة في مجاراة اجوائهم بينما الأمر يختلف مع صباح فخري، فكيف يعلل سر نجاح معادلته الفنية هذه، وبالتالي انتشاره الذي ليس له مثيل؟ يقول: "ان لم تكن عميق الفهم للجمل اللحنية وتراكيبها ومن ذلك عمق الكلمة والحرف، والانسان إذا لم يتوصل الى عمق الكلمة والحرف وبالمقابل الى عمق الجملة الموسيقية والصوت الموسيقي لن يستطيع أن يبدع، فإذا لم تعرف سر الأشياء فلن تستطيع ايصالها". وكان لعنصري الاستغراق في التراث وفهمه من ناحية ومن ثم المعاصرة وادراك المحيط الذي يعيش فيه ما كفل للفنان النجاح. الى ذلك لا بد من الاشارة الى الأجواء المحافظة والواعية في الوقت ذاته التي نشأ فيها اذ انه تعلم سلامة اللفظ من حفظه للقرآن الكريم الذي شكل الأساس السليم لبناء هذا الصرح الفني. وبالاضافة الى ذلك نجد أن ممارسة المرأة السورية الحلبية، حيث مسقط رأسه، للفن ومن ذلك العزف على العود والغناء في البيوت، كانت بمثابة أول مدرسة تعرف فيها صباح فخري الطفل على أصوات وابداعات نجوم الغناء العربي أمثال الشيخ سيد درويش والشيخ سلامة حجازي ومحمد عثمان وعبده الحامولي. وهكذا تشرب الفنان الاحساس الأصيل ليظل معه حارساً أميناً في رحلته الطويلة والمستمرة المفعمة بالحيوية والطرب بأسمى تجلياته. والمتابع لنهج صباح فخري يجده دائم التفنن في الأداء الذي يعتمد على الارتجال والسلطنة حيث انه يكرس كل جهده لذلك. يقول: "الصوت وحده هو الأصل الذي يمكن أن يوصل الرسالة، والآلات الموسيقية هي أدوات مساعدة وكان دورها في الماضي محدوداً لقلة العازفين البارعين المبدعين وعدم تطور بعض الآلات مثل آلة القانون". والفنان صباح فخري لا شريك له على المسرح، وانما هناك مجموعة مساندة لاجتهاداته، وهي دائماً حاضرة لتلبية أوامره حتى يصل الى أقصى درجات النشوة. وتجده يبدأ في التراقص معلناً عن ابتهاجه من المشهد الصوتي والبصري الذي نسجه من حوله. ويقول: "الموسيقى عبارة عن صوت وإيقاع، والحركة في وقتها مهمة جداً وضرورية جداً وهي غاية التعبير الانساني". أما عن الابداع عند الموسيقيين فيرى فخري ان الابداع طموح شخصي، ويضيف: "وذلك يحتاج الى عمل واجتهاد من الموسيقي، فأنا أوجه وأساعد ومع شديد الأسف فإن الفنانين المعاصرين شدتهم المادة ونسوا الابداع والرسالة الفنية وأتمنى منهم أن يقدموا معادلة متوازنة نصفها للفن والنصف الآخر للمادة وهذا أضعف الايمان". ويعتبر الارتجال قمة الثقافة الموسيقية، ذلك أن المستمع حسب رأيه دائم الترقب للارتجال والابداع الجديد بعد أن حفظ اغنيات التراث عن ظهر قلب. وهكذا يتوصل فخري الى معادلة في العمل الموسيقي توازن بين الحس والعقل، فالحفظ لوحده لا يكفي وانما يحتاج لتصرف ليكون وقع الأداء أكبر وأعمق. وعن طريقة عمله مع الموسيقيين يقول: "انا اعطيهم الأساس المتين قبل الحفل اما الابداع فيكون على المسرح". ويضيف: "الحس لا يكتب بنوتة وعندما تكتب شيئاً محدداً فهو لا يخرج عن ما معناه انك حديت من الابداع، لذلك اعطي العازف منطقة حرة يبدع فيها ضمن مسار العمل". وصباح فخري متعدد المواهب فهو الى جانب كونه مطرباً من الدرجة الممتازة يتمتع بموهبة التلحين. وعن ذلك يقول: "بدأت التلحين في العام 1947 عندما قدمت أول لحن لي باذاعة دمشق. وكل القصائد التي غنيتها هي من ألحاني". ومن بين ما غناه صباح فخري من ألحانه الشهيرة: قل للمليحة، حبيبي على الدنيا، يا حادي العيس، جاءت معذبتي وغيرها من الألحان العذبة التي تشكل شخصيته الفنية وأسلوبه المتفرد في الأداء والتلحين. وعن اختياراته من عيون التراث يقول: "عندما اختار من التراث، اختار ما يمكن ان يتقبله المستمع المعاصر من كلمة ولحن وايقاع. فهناك اغان في تراثنا غير مسرحية، أو لحنت لمناسبات مثل أغاني الحفلات الخاصة وأغاني الأفلام. فالاختيار للمسرح مهم جداً لتستطيع ان تتعايش مع الجمهور. لذلك اختار من التراث من كل روض زهرة". ويضيف: "صباح فخري موجود بكل الألوان وبصمته موجودة وواضحة". ومن الواضح ان تقديم المادة الغنائية عند صباح فخري يرتبط أولاً وأخيراً بنوعية الجمهور، اذ عادة ما يبدأ بتقديم أرقى الألوان الغنائية مثل الأدوار الرصينة التي يستمع لها الجمهور ولكن على مضض، ما يجعله يتحول الى الطقاطيق والأغنيات والمواويل التي تجد تجاوباً من الجمهور الذي ينخرط بأداء الأغنيات ويعلن عن اعجابه بالتصفيق والتصفير. وفي ذلك تكريس للواقع السائد، حيث ان الذائقة الفنية عند المستمع العربي بشكل عام لا تتعدى هذا المستوى لافتقاره الى المكونات الأساسية للتجاوب مع المضامين الراقية. فهو لا يجد مشكلة في التجاوب مع الألوان الشعبية قديمها أو حديثها ويستطيع التفرقة الى حد ما بين ما هو جيد ورديء. ولكن ما عدا ذلك يتسرب اليه الملل ويحجم عن السماع بحجة ان ذلك قديم ولا يتفق مع عصره ووقته حتى لو كان الذي يقدمه هو صباح فخري بالذات.