إذا كان محقق "معجم النبات الآشوري"، العلاّمة البريطاني الراحل كامبل تومبسون نوّرنا بشروح وتعليقات واستطرادات قيمة حول هذا المعجم النفيس، فهو لم يُشبع فضولنا عن طريقة جمع مفردات كتابه هذا. هل وجد المعجم النباتي - الطبي الآشوري جاهزاً في عدد من الالواح الطينية، أم جمعها من مصادر شتى، او من الواح متفرقة؟ ان طريقة تأليف هذا المعجم بنصه الآشوري تورث انطباعاً بأن هذه المفردات كانت مادة لكتاب يتسم بوحدة متماسكة في موضوعها. فاين عُثر على هذه الالوان التي تشكل كتاباً من طين؟ هل كانت محفوظة في مكتبة اشور بانيبال التي اكتشفت في القرن الماضي في شمال العراق بما اشتملت عليه من نفائس لا تقدر بثمن، مثل ملحمة جلجامش؟ لم اكلف نفسي عناء التثبت من هذا الأمر، لأنني لم ارجع الا الى كتاب كامبل تومبسون ومصادر اخرى لها علاقة بمفرداته. واليكم حصيلة جهدي المتواضع هذا بالقياس الى جهد الباحث الكبير تومبسون. صنّف العالم الآشوري معجمه النباتي المدون على الواح من طين وفق نسق علمي، في مجموعات تتسم كل منها بخواص مشتركة، بدأها بفصائل الحشائش، ونباتات الأسل، والقصب، واللبلابيات، وهي النباتات المائية او التي تنمو في المستنقعات وقرب الانهار، في وادي الرافدين والمناطق المجاورة، وانهاها بفصيلة الصمغيات ومنتجات الصمغ الراتسنجي. وضم المعجم جميع الفصائل النباتية من حشائش، واعشاب، واحراج، واشجار، مما ينمو في وادي الرافدين والمناطق المجاورة له، وهو مكرس للأغراض الطبية في المقام الاول. لكن قارئ هذا المعجم يجد متعة وفائدة كبيرتين عند قراءته، بفضل تحقيق الباحث البريطاني الراحل كامبل تومبسون، الذي جمع بين الدرس والمعاينة الميدانية. واذا كانت هناك ثغرات في النص او في التحقيق، فلعل بالامكان ردمها او معالجتها عند الرجوع الى المعاجم العربية والكتب الطبية والصيدلانية العربية، لا سيما مؤلفات ابن البيطار، وحتى كتاب المخصص لابن سيده، كما اشار الى ذلك الدكتور فاروق الراوي الذي تلطف بحضوره الندوة. الكلمة الأكدية او الآشورية - البابلية التي تطلق على النبات هي "شافو" او "شامُّو"، وتقابلها في اللغة الاوغاريتية الكنعانية س.م.م. ونعتقد ان الكلمة العربية التي تقابلها هي سُمّ، وكذلك "سم" العبرية، التي تقال للأفاويه او التوابل. ونعتقد ايضا ان السوما Soma السنسكريتية، وتقابلها haoma بالفارسية القديمة، مستعارة من "شامو" الآشورية، والأكدية. والسوما السنسكريتية: نبات مسمم او مُسكر intoxicating، وكذلك، اسم إلهٍ، ونبات، وعصير يعصر من النبات، وفي ما بعد صارت soma تعني القمر ايضا بالسنسكريتية. واستعملت كلمة "شامو" الأكدية بما يفيد: العشباب الخضرة، الدواء، الخ. اما الكلمة الدالة على الشجرة في اللغة الاكدية الآشورية - البابلية فهي "ع ص"، وهي كذلك في جميع اللغات السامية، عدا العربية حيث تقابلها "العضاة". والعضاة كل شجر عظيم وله شوك. واستحالت مادة ع ص الساميّة، الدالة على الشجرة، الى العصا في العربية. اما لفظة شجرة فترد في العربية فقط، كما يبدو. ونحن نعتقد انها مستعارة من مادة Sagaris اليونانية التي تطلق على نوع من انواع السيوف. والشجير، في العربية، هو السيف. كما ان الألفاظ الاخرى التي تذهب الى معنى "الشجار" ربما تقدم لنا دليلاً آخر على استعارة هذه اللفظة من اليونانية وقد تطرقنا الى ذلك في غير مناسبة. وانا اميل الى الاعتقاد ايضا بأن كلمة "خشب" العربية مستعارة وليست اصيلة، فلم نجد لها قرائن في اللغات السامية في حدود اطلاعنا. ولعلها مستعارة من كلمة GISH السومرية، التي تعني: خشب، شجرة. وتطرقت الندوة الى عدد من النباتات، والاعشاب التي ورد ذكرها في المعجم، من بينها: النعنع بفصائله، وموقعه في الميثولوجيا القديمة، لا سيما اليونانية، حيث اقترن بالعالم الاسفل، عالم الموتى او الجحيم. وفي الحديث عن البقوليات اشير الى موقف فيثاغورس المعادي من الفول او الباقلاء والباقلاء تسمية سوادية، اي عراقية، كما جاء في لسان العرب. وهناك علاقة بين النعنع والباقلاء، في العراق، حيث يجفف احد اصنافه، وهو البُطنج، ولعله بالانكليزية يدعى calaminthos، ثم يطحن، ويذر على الباقلاء أو اللوبياء ليعطيها نكهة مطيبة او متبلة. وكان الآشوريون يعرفون الملوخية لفظاً، ويطلقونها على السبانخ، وبلغتهم تلفظ مالواخ، وبالسومرية مالاخ. ويدعى الريحان او الحبق، بالآشورية، قُرنو، وبالسريانية قُرنيتا. واسمه بالانكليزية basil، وهذه من اليونانية basilikos، اي "الملكي". والريحان مفضل اليوم عند الايطاليين، وأهالي البروفنسال جنوبفرنسا، وعند العرب. اما الكراث، بما يقابل leek بالانكليزية، فيدعى بالسومرية GA-RASH، والآشورية Karshu، والسريانية كرْثا. وكان يُزرع في حدائق وادي الرافدين منذ عهد سين - مُبلّط حوالي 1950 ق.م.، وسلالة أور الثالثة. واما الرشاد، وبالانكليزية cress، فكان يدعى بالآشورية - البابلية سخلة. ويقول العالم الروماني pliny: "خير الرشاد البابلي". وقالت العرب قديماً: اجود ما لقينا من الحُرف في ارض بابل". والحُرف هو الرشاد، ولعل التسمية جاءت من حرافة طعمه. وكان سكان وادي الرافدين يأكلون الرشاد مع الخبز، وكذلك كان يفعل الاسبارطيون، على حد قول جالينوس. ويدعى البابونج بالآشورية قُربان أقلي، اي قربان الحقل، اي هبة او هدية الحقل. والبابونج يقال له بالانكليزية chamomile، وباللاتينية Amthemis nobilis. وكان يوصف في آشور في العديد من الوصفات. واشار كامبل تومبسون الى التشابه الكبير في اللفظ بين قربان اقلي الآشورية وقُربَيان العربية التي تقال للبابونج. ويدعى الزعفران بالآشورية azupiru أو azupiranu. وكان في آشور يستعمل كثيراً كدواء. وكذلك استعمل في اليونان، وفي الهند. واستعمل في آشور أيضاً في خضاب الكف، لأن الحنّة لم تكن معروفة عندهم. كما استعمل الكركم عندهم كمادة صبغية. وكان يطلق عليه بالآشورية كُركانو. ويعتقد كامبل تومبسون ان الزعفران، أي كلمة azupiranu مشتقة من كلمة supru الآشورية التي تقال للظُفر. لكن الزعفران يقال له بالسنسكريتية Kumakuma او Kunkuma. ولا بد ان هاتين اللفظتين هما اصل كلمة تُركانو الآشورية - البابلية، التي تقال للكركم. أما الشوندر، أو الشمندر، فهو بالسومرية SUMUN-Dar، وبالآشورية shumuttu. والظاهر ان الكلمة العربية استعيرت من السومرية مباشرة. والمقطع السومري SUMU يعني "دم"، فالشوندر هو النبات الذي بلون الدم. واما اللفت فيدعى بالآشورية laptu، وبالآرامية laphta. وكان ينمو برياً في وادي الرافدين. ولا يزال اللفت يسلق في العراق ويضاف اليه الدبس ليُحلّى، كما يستعمل في طبخات أخرى، مثل "كبة الحامض شلغم"، والشلغم هو اللفت بالفارسية. وتطرقت الكلمة الى عدد آخر من النباتات، مثل الخيار بأصنافه. وكان يدعى بالسومرية UKUSH، وبالآشورية "قِشُو"، ومنها جاءت القثاء العربية. كما تحدرت منها كلمة cucamber الانكليزية التي تقال للخيار. أما لفظة "خيار" فليست عربية، بل استعيرت من الفارسية. وحسب الفحص الكاربوني ترجع زراعة الخيار أو معرفة الانسان به الى 9750 ق.م. على الاقل. وبات متفرقاً عليه ان اصله من تايلاند، وليس الهند كما كان يُعتقد سابقاً. وكان الخيار يُزرع في الجنائن المعلقة في بابل. واغرم به العبريون والرومان. ومن بين الملوك المعجبين به اوغسطوس، وتيبريوس الذي ولد في عهده المسيح وشارلمان، ولويس الرابع عشر. ويدعى السمسم بالآشورية "شامشّامّو"، وتعني الكلمة بالحرف الواحد: نبتة السمن. واستعيرت الكلمة الى اللغة اليونانية منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد. ولعلها انتقلت الى الانكليزية في القرن الثاني عشر الميلادي عن طريق اللغة الفرنسية، التي كانت اول لغة تنقل اليها الف ليلة وليلة، التي ورد فيها ذكر السمسم. وفي حديث هيرودوتس عن الحبوب في ارض بابل،. يقول: "ان نصل الحنطة والشعير اللذين يزرعان هناك يبلغ اربعة اصابه عرضاً، ومع انني اعلم الى اي ارتفاع يبلغ طول نبتة الدخن ونبتة السمسم، فلن اذكره، ذلك انني على يقين تام، بأن اولئك الذين لم يقيض لهم ان يزودوا بلاد بابل لن يصدقوا ما يقال عن زراعتها". جرى ذكر السمسم منذ سلالة أور الثالثة. وكان يزرع في الصينوالهند منذ ازمنة قديمة. ولعل اصله من آسيا، وشرق افريقيا، كما جاء في الانسيكلوبيديا بريتانيكا. وكان حب السمسم يستعمل بمثابة عملة نقدية في القرن السادس ق.م. وعرفت حلاوة السمسم ربما منذ ايام سومر وبابل: السمسمية، وكذلك في اليونان القديمة. واستعمله الصينيون قبل خمسة آلاف سنة. وكانوا يحرقون زيته للحصول على افضل اصناف الحبر الصيني من سناجه رواسب دخانه. واستعمله الرومان مع الكمون كمطيب في الخبز. وكان يُعتقد بأن له مزايا سحرية، من هنا: "افتح يا سمسم" في حكايات ألف ليلة وليلة. * باحث عراقي مقيم في لندن.