في هذه الحلقة، وحلقات اخرى لاحقة، سنناقش الكلمات التي تدل على المذاق، الحلو، في اللغات السامية واللغات الهندية - الأوروبية، ونبحث عن جذورها وعمقها الزمني. وسنبدأ بأقدمها، على ما نحسب. اذا تصورنا ان الانسان البدائي عرف المواد الغذائية ذات المذاق الحلو من الطبيعة في سياق عملية جني القوت، فلا بد انه اوجد مفردات تفيد معنى الحلاوة في مراحل مبكرة جداً من تأريخه. ولعل مثل هذه المفردات ما يدعى بالالفاظ الصوتية، او الفاظ المحاكاة الطبيعية، اي التي تُنطق على غرار اصواتها في الطبيعة كأصوات الريح، او الماء، او المطر، الخ، او اصوات الحيوانات، او ما ينجم عن حركة اللسان كتعبير عن بعض الانطباعات الحسية. وفي اللغات السامية هناك لفظة م ط ق الصوتية الدالة على استطابة اي شيء ذي مذاق حلو او سائغ. والعسل متوافر في الطبيعة، عرفه الانسان في مرحلة مبكرة جداً من تأريخه، قبل ان يهتدي الى الزراعة. وعرف الثمار الحلوة المذاق ايضاً من الطبيعة، وكذلك المنّ الذي سنفرد له حلقة خاصة، والسكّر من قصب السكر، وان كانت معرفة الانسان بهذا الاخير لا ترقى الى مراحل موغلة في القدم، على نحو ما سيتضح لنا عند الحديث عن السكر في حلقة خاصة اخرى. يبدو ان صوت اللفظة م ط ق او م ت ق هو ما استقرت عليه الكلمة الدالة على المذاق الحلو عند اجدادنا الساميين، وربما كذلك عند الهنود - الأوروبيين. وبالعربية، مطق الطعام: تذوقه، صوّت باللسان والغار الاعلى وذلك عند استطابة الشيء. والمطقة: الحلاوة. وهناك مذاق ايضاً، وهي من ذاق، وتعني: اختبر طعم الشيء. وفي اللغة العبرية تعني كلمة مثق: صار حلواً. وم ط ق الاوغاريتية الكنعانية تعني "حلو". ومتقو الاكدية: "حلو"، وموتقو: حلاوة. ومتوق الحبشية وهي لغة سامية: حلو. وهذه الألفاظ السامية تقابلها الكلمة الدالة على "الميد" في اللغات الهندية - الأوروبية. والميد هو شراب مخمّر يعدّ من عسل وماء. فباللغة السنسكريتية يقال للعسل، والشراب الحلو، Ma'dhu، وباليونانية تعني كلمة Methu "شراباً مسكراً"، وباللغة اللتوانية Medu's "عسل" وبالروسية Med "عسل"، وبالايرلندية Miodh "شراب معدّ من العسل"... ويقال ان كلمة Mi الصينية التي تفيد معنى العسل مستعارة عن طريق الهند او آسيا الغربية، فهي بالصينية القديمة Mie't. ولعل كلمة Mez عسل المجرية وهي لغة غير هندية - اوروبية مستعارة من اللغات الهندية - الأوروبية ايضاً. والماذيّ بالعربية: العسل الأبيض. قال عدي بن زيد العبادي: وملاب قد تلهيت به وقصرت اليوم في بيت عذار في سماع يأذن الشيخ له وحديث مثل ماذي مُشار كما ان المزج بكسر الميم: العسل. قال ابو ذؤيب الهندي: فجاء بمزج لم ير الناس مثله هو الضحك الا انه عمل النحل والمذي بفتح فسكون، والياء مخففة هو ارقّ من النطفة. ويقال: "كل ذكر يمذي، وكل انثى تقذي". والمزّة: الخمر اللذيذة الطعم. قال الاعشى: نازعتهم قُضُب الريحان متكئاً وقهوة مزة راووقها خضل اما الفعل مزّ فيعني: مصّ. ومزخ: تمصص. والمذخ: العسل الذي في زهر الرمان البري. وقد وجدنا في معجم كارل بيتسولد للمفردات الاكدية، ان كلمة Muzegu تعني: خمرة، شراب، عصير. وان كلمة Mazu تعني: يمزج. ووجدنا في قاموس موسى أرنولتْ للآشوريات كلمة ماشتيتو الاكدية، ومثلها مالتيتو، وتعنيان: شراب. وفي القواميس العبرية، ترد صيغة "مي دبش" بمعنى "الميد". و"دبش" هو الدبس بالعربية، وهو عسل التمر، او عسل النحل. وتقابلها كلمة dishpu بالاكدية، التي كانت تعني بالأصل عصير التمر، اي الدبس. ويروي المؤرخ اليوناني هيرودوتس ان البابليين كانوا "يدفنون موتاهم في العسل". لكن هذا الخبر ذكره سترابو ايضاً، على النحو الآتي: "كانوا يدفنون موتاهم في العسل، بعد ان يدهنوهم بالشمع". ولا شك في ان هذا الخبر لا يشمل عامة الناس، بل ملوك البابليين فقط. ونحن نعلم ان عسل العراق الحديث كما جاء في "تأريخ التكنولوجيا" لسنجر - هولميارد يحتوي على نسبة عالية من الشمع. بيد انه لا يوجد في النصوص السومرية والاكدية ما يؤكد استعمال العسل لهذا الغرض. وكانت فلسطين في مخيال القبائل اليهودية الهائمة في الصحراء ارضاً "يجري فيها اللبن والعسل". ويُفهم من التوراة ان يعقوب كان يتاجر مع مصر بالعسل مقابل الحبوب. وتطنب التوراة في ذكر العسل، وتعتبره من ضرورات الحياة. اما في بلاد ما بين النهرين فكان الدبس المستخرج من التمر ينافس العسل لكثرة توافره في هذه المنطقة، على رغم وجود العسل الطبيعي ايضاً. وورد ذكر العسل الطبيعي في النصوص الاكدية منذ الألف الثالث قبل الميلاد. وكان لشمع العسل اهمية في الطقوس الدينية الاكدية، كما ان عبارة "لينعم بانهار من العسل والقشدة" كانت من الاقوال الشائعة في ذلك الزمن. ويقال للشمع باللاتينية Ce'ra، وهي كلمة مستعارة من اليونانية khiros شمع العسل، شمع. ولا يعرف اصل هذه الكلمة بصورة قاطعة. على ان بعض القواميس يشير الى وجود صلة بينها وبين كلمة korys اللتوانية، وتعني قرص العسل. ثم انروبرت غريفز، اشار فى كتابه "الميثولوجيا الاغريقية" الى ان الكلمة اليونانية cerinthos التي تعني "خبز النحل" ترجع الى اصل كريتي. ويصدق هذا على كلمة ceraphis "السرقة". ولعل هذه الالفاظ تذكرنا بالفعل العربي شار او اشتار العسل، اي جناه. وفي القاموس: شار العس، يشوره شوراً وشياراً او شيارة: استخرجه من الوقبة واجتناه من خلاياه. والكُور: موضع الزنابير. والكوارة: شيء يتخذ للنحل من القضبان او الطين تأوي اليه، او هي عسلها في الشمع. وكوارا السريانية من اصل كبارا: خلية النحل، كأن يقال بهذه اللغة: كبارا دباشي. وشمع العسل باللغة الاكدية: إشكورو. وبعد، ان صلة القربى اللفظية بين كلمة مطق السامية التي تقال للشيء ذي المذاق الحول، وكلمة mead الهندية - الاوروبية التي تطلق على الشراب المعد من العسل والماء، تدعونا للاعتقاد بأن الكلمة الاولى ربما كانت اسبق كلمة سامية، او سامية - هندية اوروبية مشتركة لا تزال حية اطلقت على كل ذي مذاق حلو. ونحن لا نزال نقول "مطّق" لمن يستطيب طعم شيء. استطراد وقد ادخل نحل العسل الى اميركا في حدود 1640، لأن نحلها القديم لا ينتج عسلاً، وفي اوروبا يعتبر عسل فرنسا واليونان واسكتلندا افضل اصناف العسل الاوروبي. ويجتني عسل فرنسا في ناربون من زهور اكليل الجبل rosemary، وهو ابيض اللون، يشبه عسل القرنفل الاميركي. ويعتبر اقدم ؟ عسل في العالم، كما يقول باتريك كويل في كتابه "موسوعة الطعام في العالم"، فقد ذكره يوليوس قيصر في حملاته على بلاد الغال. وعسل الخلنج الاسكتلندي غامق وذو مذاق حاد، اشبه بالجلاتين، ويستعمل في بعض انواع المسكرات المعطرة lequeurs. وعسل الزعتر البري الذي يُجتنى في جبل Hymmetus في اليونان له شهرة عالمية، وله نكهة راتنجية… وقيل ان عسل وادي دوعن في حضرموت من زهر السدر يعتبر من افضل واغلى انواع العسل. وتتراوح الوان العسل بين لون الماء عسل زهور المريمية، والكهرمان عسل البرسيم والبرتقال، والاحمر الغامق، والاخضر الغامق عسل زهر الكالبتوس عند ازهاره الشتوي. وتعتبر الالوان الفاتحة من العسل اقلها حدة. فعسل المريمية، مثلاً، غير حرّيف، لكنه ثخين جداً. وعسل الفصفصة كهرماني وله نكهة ظاهرة مع مضاعفات نعناعية. وعسل الحنطة السوداء له نكهة قوية ولونه اشبه بدبس السكّر. * باحث عراقي.