لم تكن الهزة أو الزلزال الذي ضرب مؤخراً شركة اريديوم الأميركية للاتصالات مفاجأة لخبراء الاتصالات المتابعين لمجريات الأمور في هذا المجال خصوصاً في الولاياتالمتحدة الأميركية، حيث يعتقد أن المشروع بني على افتراضيات اقتصادية غير واقعية وخاصة الجانب التسويقي منها. وفتح اعلان شركة "اريديوم" افلاسها أخيراً الباب أمام تساؤلات عدة وعلامات استفهام كبرى حول مصير الاستثمارات العربية الضخمة في مجال الاتصالات والتقنية العملاقة والتي يعتبرها منظر الاقتصاد الأميركي ورئيس مجلس الاحتياط الأميركي ألن غرينسبان سبب نشاط واتقاد الاقتصاد الأميركي. لماذا انهارت أسطورة اريديوم؟ اريديوم مشروع اتصالات طموح حاول تغطية العالم بشبكة هواتف فضائية موحدة الأرقام عبر 66 قمر صناعي منخفض العلو Low Orbit Satellites. ويقف وراء هذا المشروع مستثمرون عدة من مختلف بقاع العالم بما في ذلك المنطقة العربية اضافة الى شركة "موتورولا" التي تعتبر شريكاً مساهماً واستراتيجياً يمتلك 18 في المئة من أسهم المشروع وتقف وراء التقنية الخاصة به. وتم ضخ أكثر من خمسة بلايين دولار في المشروع ساهمت فيها مجموعة المستثمرين حيث ترى شركة موتورولا انها قد تبخرت بسرعة فظيعة ولكن هناك دون شك الأسباب الموضوعية التي تفسر انهيار المشروع. ويركز سكوت شيس أحد خبراء الاتصالات في الولاياتالمتحدة معلقاً على انهيار المشروع قائلاً: "تقوم استراتيجية ايريديوم على تمويل المشروع الذي يفوق الخمسة بلايين دولار، لبناء نظام هاتفي فضائي ضخم، يرتكز على بناء بنية فضائية جبارة تغطي العالم بمنظومة من الأقمار والمحطات الأرضية، دون التوقع ان يكون له عائد مادي خلال هذه الفترة". ويضيف شيس على حد قوله انه كان متشككاً في صحة هذه الاستراتيجية "التي تقف وراء بناء مثل هذا المارد وبحسابات غير واقعية لإنتاج هاتف فضائي مكلف يهدف الى جذب نوعية خاصة من رجال الأعمال. يعتقد واضعو تلك الاستراتيجية ان السعر لا يهم مهما كان مرتفعاً". والأسعار اذن هي أول عامل في انهيار مشروع هاتف اريديوم حيث يكلف الجهاز الواحد منه ثلاثة آلاف دولار وتكلف المحادثة لمدة دقيقة واحدة سبعة دولارات وهناك عوامل فنية تحد من فعالية تقنية الهاتف الفضائي مثل حجمه الكبير ووزنه الذي يزن رطلاً مقارنة بحجم الهواتف النقالة الأخرى وانقطاع المحادثة أثناء التنقل بالسيارة وداخل المباني. وكانت ادارة المشروع تتوقع ان يبلغ عدد المشتركين في الهاتف الجديد مئات الآلاف في حين لم يصل عدد المشتركين حتى اعلان انهياره أكثر من عشرين ألف فقط. العامل المهم الثاني في انهيار مشروع ايريديوم هو التخطيط الاستراتيجي الذي أدى الى فشل سياسته التسويقية المبنية على مساعدة الشركاء الاقليميين وانتهاجه سياسة أقرب الى عمل الأممالمتحدة من حيث التركيبة الاقليمية وافترض ان يتبع الشركاء الاقليميون السياسات التسويقية الاقليمية المختلفة لتسويق الأجهزة الفضائية، فكانت اولى النتائج اختلاف الرسائل التسويقية الى الجمهور والتي كانت في بعض الأحيان مضللة له حول امكانية وقدرات الجهاز. ويرى مصدر مقرب من الشركة ان هذه التشكيلة الفريدة من الاتجاهات التي كان يتوقع ان تساعد المشروع في عملية التسويق ساهمت في هذه الكارثة بعدم تقديمها أي دراسات تسويقية علمية وحصيفة بخصوص الأسواق ويضيف قائلاً: "كيف تتوقع من شخص معظم استثماراته في منتجات الألبان أن يكون مخططاً استراتيجياً لتسويق هواتف فضائية جديدة؟". وكان الخطأ الثالث والفادح البدء المبكر لحملات التسويق التي كلفت 100 مليون دولار قبل البداية الفعلية التجارية للمشروع وخطورة هذا الاجراء والذي يعرف بover sales انه يعد الجمهور بمنتج خيالي دون الايفاء بما تم عرضه وهي سياسة تتنافى مع اخلاقيات التسويق الأميركية. وتتعلق النقطة الرابعة بإدارة المشروع والتي تعتبر من أهم عوامل انهياره فالدافع السياسي الذي انتهجته الشركة في اشراك أطراف اقليمية بما في ذلك اريديوم الشرق الأوسط كانت دوافعه خلق شراكات اقليمية الهدف الأول منها الحصول على مصادقات ادارية يتطلبها عمل المشروع من النواحي القانونية تسمح له بالانطلاق تجارياً، حيث يقول مصدر داخلي في المشروع ان اجتماعات مجلس الادارة كانت تشبه جلسات الأممالمتحدة بما في ذلك توفر الترجمة الفورية! وفي مثل هذه الأجواء يصعب أن يتم الاجماع على قرارات حيوية ومهمة تتعلق بمستقبل ومصالح المشروع وهي احدى تلك الصعوبات التي واجهت رئيس الشركة السابق ايد ستيانو الذي حاول أن يحد من دور موتورولا وتقليصه إلا أنه اخفق واضطر الى تقديم استقالته قبل أربعة أشهر من الانهيار التام واعلان الشركة افلاسها. والجدير بالذكر ان التنافس القوي من قبل شركات الهواتف المحمولة المحلية والعالمية والتي أضحت توفر خدمات محلية رخيصة مقارنة مع خدمات اريديوم اضافة الى انها توفر في بعض الأحيان اجهزة بالمجان مقابل الاشتراك في الخدمة كانت عاملاً حاسماً وأساسياً في اخفاق تسويق جهاز اريديوم. كيف تتفادى الاستثمارات العربية مستقبلاً التورط في مثل هذا المشروع؟ سارعت "اريديوم" الشرق الأوسط التي تمثل الاستثمارات العربية والشراكة الاقليمية للمشروع في اصدار بيان يؤكد ان انهيار الشركة الأم لن يؤثر عليها. ويتمنى كل مراقب عربي حريص على هذه الصناعة ان يكون ذلك صحيحاً. لكن يصعب تصور كيف لا تتأثر فروع الشركة التي تتعامل مع منتج واحد تصنعه جهة واحدة وهي شركة موتورولا الأميركية والتي لا يقتصر دورها على تصنيع الجهاز فقط بل انها شريك وصاحبة فكرة المشروع ويعتقد أن ضغوطها من العوامل الأساسية وراء الانهيار. ويصعب أيضاً تصور ان لا يهتز الزبائن الذين يعيشون في عصر التكنولوجيا وصناعة الأخبار وقد علموا ان المشكلة المالية للشركة الأم سببها اخفاق الشركات الاقليمية في بيع المنتوج الأساسي والفشل في توزيعه بصورة أوسع نتيجة لسعر التكلفة العالي بالمقام الأول. ولا يتعلق السؤال بكيفية تفادي مثل هذه الصدمات مستقبلياً باريديوم وحدها حيث ان هنالك عدة مشروعات تقف في الصف لتقديم خدمات "اريديوم" نفسها وأكثر منها مثل "ايكو غلوبال" التي فشلت أخيراً في جمع وتحصيل 600 مليون دولار من بيوتات التمويل العالمية بسبب كارثة "اريدوم"، وهنالك "غلوبال ستار" والتي اطلقت أخيراً اول أقمارها وهو مشروع يقوم على استثمارات عربية ضخمة وسكاي بريدج، تليديسك والثريا وهو المشروع الاقليمي الذي يهدف الى تقديم خدمات اريديوم نفسها، وكان سباقاً حتى على سات فون الذي يعد أول تلك المشاريع الاقليمية وحين فشل في توفير التمويل اللازم للمشروع نجحت الثريا في ذلك. ولتفادي أخطاء مماثلة منذ البداية يجب على بيوت الاستثمارات العربية سواء كانت مملوكة لعائلات أو لمؤسسات أن تركن الى تقييم علمي مستفيض ومتأن لمستقبل هذه المشاريع وجدواها من النواحي الفنية والتقنية. والجانب التقني مهم لمثل هذه الاستثمارات التي تحتاج الى خبراء مختصين يتم تعيينهم من قبل المستثمرين وعدم تركها لمكاتب المحاماة العالمية التي يهمها بالدرجة الأولى ان تتم الصفقات لتضمن نصيبها في تلك الصفقة سواء كان المشروع فاشلاً أم ناجحاً. وتذخر الصناعة العالمية بخبراء قديرين يمكن للاستثمارات الفردية والعائلية الاستعانة بهم لتجنب الوقوع في أخطاء فادحة. والاستثمار في هذا المجال هو استثمار طويل المدى بالدرجة الأولى يحتاج الى محافظ مالية كبيرة تقف نداً لتجمعات العمالقة في هذا المجال مثل موتورولا وهيوز وبوينج والكاتيل وفرانس تيلكوم وبريتيش تيلكوم وشركات التأمين عابرة القارات ومثيلاتها من كبريات بيوتات التمويل العالمية ولا يمكن لمستثمر اقليمي يعتمد على الاستيراد والتصدير والتصنيع الاقليمي واقتصاديات السوق المحلي ان يصبح عضواً في نادي العمالقة مهما كان حجم عباءته المالية، والاختلاف بينه وبينهم، انهم قادرون على تحمل الهزات وهذا ما سوف تكشف عن مكنونه الأيام المقبلة حول مستقبل ومصير هذه الاستثمارات. * إعلامي مختص في مجال الاتصالات مقيم في واشنطن.