ليس هناك أكثر إلحاحا اليوم من الشروع الفوري بتنفيذ مشروعات العدالة الانتقالية في البلدان العربية بعد عقود من غياب العدالة الاجتماعية وانعدام التوزيع العادل للثروة في بلدان لا تعاني أبدا من شح الموارد الطبيعية ولا الطاقات والكوادر البشرية بقدر ما تعاني من الفساد المستشري في أجهزة الدولة وإداراتها التي بدورها قادت إلى فرض أسس وقيم الدولة الشمولية الباطشة. نستذكر العدالة الانتقالية، حيث احتفل العالم في السادس والعشرين من يونية الجاري باليوم العالمي لمناهضة التعذيب، وبمرور خمسة وعشرين عاماً على توقيع اتفاقية مناهضة التعذيب. فرغم مرور وطر من الزمن على هذه الاتفاقية فإن شعوب العالم لاتزال تعاني من صنوف عدة من التعذيب، وهي صنوف متشابهة في مختلف القارات والبلدان، إذ تحول التعذيب إلى سياسات واستراتيجيات ممنهجة يتعرض لها مئات الآلاف من البشر بغض النظر عن جنسهم ولونهم ودينهم، ما يؤكد وجود خبرات متراكمة عابرة للقارات تتمتع بها الأنظمة في هذا الحقل للدرجة التي أصدرت المنظمات الدولية الحقوقية وتلك التي لها صلة بمناهضة التعذيب كثيراً من الكتب والأدبيات والصور المتشابهة في بلدان غرب الكرة الأرضية وشرقها. يستذكر كثيرون الحقبة الستالينية والكوميديا السوداء التي صاحبتها، ويتناقلون طرفا عنها حول مصير الذين اعترفوا على أنفسهم بمشاركتهم في مؤامرة ضد الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين إبان الحرب العالمية الثانية وما بعدها. فقد سأل مساعدو ستالين بعد أن أعلن الأخير عن توصله للمتآمرين الحقيقيين عليه: وماذا نفعل يا سيدي بالعشرات الذين اعترفوا؟ أجابهم: أعدموهم! سمعت هذه الطرفة على ألسنة عديد من السياسيين العرب المعارضين لأنظمتهم، كل ينسبها لزعيمه. واليوم هناك اثنان من الرؤساء العرب اللذين كانا يقبعان في السجن قبل الإطاحة برئيسيهما: الدكتور المنصف المرزوقي رئيس تونس، والدكتور محمد مرسي رئيس مصر. فكلا الرجلين عانى من عتمة السجون وذاق أصنافا من التعذيب بسبب رأيه المخالف للنظام الحاكم في بلده. كان المرزوقي داعية لحقوق الإنسان وسياسيا له تجربته وخبرته، لكنه وقع في قبضة الأجهزة الأمنية التي بدأت التعذيب معه بالإهانات اللفظية لتنتهي بالتعذيب الجسدي وانتهاك كل المحرمات بما فيها مطاردته في لقمة عيشه. ولم يكن الرئيس المصري الجديد أحسن حالا من نظيره التونسي، فتجارب التعذيب يتم نسخها وتوزيعها على العواصم لكي يتم ترتيب ملفات «مؤامرات قلب نظام الحكم». وتقع، الآن، على عاتق الرئيسين مسؤوليات كبرى مضاعفة في إيقاف تعذيب المعارضين السياسيين باعتباره قضية كبرى تؤرق العالم وتفرد لها الأممالمتحدة مساحات إعلامية ومالية كبيرة من أجل أن تتجاوز الإنسانية هذه المرحلة الحيوانية من تاريخها وسلوكها وتدخل حقبة حقوق الإنسان. لكن… كيف تتجاوز البلدان العربية مرحلة «الفلقة» و«الفروجة» و«الذبيحة» وتخريم الجسد بالمثقاب وتشريحه بالمنشار، عدا التعذيب النفسي، وتحويل السجين إلى جثة هامدة بسياط معذبيه الذين يسارعون بعد موته بإصدار بيان مقتضب يحملونه مسؤولية قتل نفسه لأنه «حاول الهرب» أو «انتحر بسبع رصاصات»؟! في مطلع تسعينات القرن الماضي، خرج الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا من السجن الذي قضى فيه ربع قرن من الزمن في زنازين نظام الفصل العنصري.. خرج من بوابة السجن إلى رئاسة الجمهورية الجديدة. وأعلن الصفح عن معذبيه وسجانيه إذا اعترفوا بجرائمهم أمام الملأ وطلبوا الصفح من ضحاياهم، وقال حينها مقولته المشهورة في بيانه الذي هو أشبه بوثيقة القرن العشرين: «يمكن للضحية أن تغفر لكنها لا تنسى أبدا ما حل بها»، لتبدأ بلاده مرحلة المصارحة والإنصاف والمصالحة الوطنية التي شاهدها العالم على أجهزة التلفاز وهي تخطو نحو عدالة انتقالية جريئة وغير مسبوقة، يطلبها حجم الأزمة التي كانت جنوب إفريقيا تمر بها والمتمثلة في الانتقال من حقبة نظام «الابارتهيد» العنصري إلى حقبة الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية، معبدة الطريق الصحيح للعدالة الانتقالية التي هي بمثابة جسر عبور للديمقراطية الحقيقية المدعومة بتشريعات وقوانين تمنع العودة لنهج النظام السابق وتؤسس لدولة المؤسسات والقانون. ربما تحتاج البلدان العربية إلى تعلم الدرس جيداً من جنوب إفريقيا ومن المغرب إلى حد كبير، حيث تشكلت هناك لجنة للمصارحة والمصالحة الوطنية، أنجزت كثيرا من مهامها الموكولة إليها. تحتاج البلدان العربية إلى إرادة سياسية قبل كل شيء وليس إلى إعلام فاسد وفاقد المهنية يصف مظاهرات وتحركات شعبه ب«مظاهرات الشواذ والعاهرات» كالمانشيت الذي تصدر قبل أيام إحدى الصحف العربية!، بينما تغص أدبيات السجون بكوارث حقيقية يرويها أصحابها الذين أصابت أغلبهم عاهات مستديمة أقلها الخوف من النوم لكي لا يفزع سوط الجلاد الجسد المنهك من وجبة تعذيب سبقت رميه في زنزانته، علق أثناءها كالخروف الذي ينتظر تقطيعه إربا. المؤكد أن البلدان العربية بحاجة لحرث أراضيها وزرعها بسلوكيات ومناهج تحولها من أراض بور إلى واحات من العدالة الاجتماعية التي يحلم بها المواطن العربي كلما وضع رأسه على مخدته محاولا النوم الذي لا يأتيه.