هناك شبه إجماع بين المراقبين لأوضاع تيمور الشرقية بأن استفتاء الثلاثين من آب اغسطس الماضي بشأن تقرير مصير هذه البلاد - على الرغم من أهميته وكونه خطوة تاريخية ومطلباً ملحاً طال انتظاره - ليس سوى نهاية لمرحلة كئيبة من تاريخها تميزت بأقسى أشكال التخلف والعنف المضاد وانتهاكات حقوق الانسان واستمرار مظاهر الفقر والتخلف، مع اختلاف هويات اللاعبين بطبيعة الحال. لعل ما يوحي باحتمال استمرار حال اللااستقرار في تيمور الشرقية ان التصريحات الصادرة عن قادة دعاة الاستقلال التام وتلك الصادرة عن مؤيدي الحكم الذاتي الموسع تحت السيادة الاندونيسية لا تحمل أي دلالات تشير الى امكانية رضوخ الخاسر لقرار الغالبية، بل على العكس من ذلك، تؤكد استعداده للعودة الى معاقله لمواصلة القتال والمقاومة في المرحلة اللاحقة. والمسؤولية ازاء ما حدث وما يمكن أن يحدث في القادم من الأيام تتحملها أطراف عدة، لولا اخطاؤها القاتلة منذ البداية ثم مواصلتها ارتكاب الخطأ تلو الخطأ غير آبهة الا بمصالحها الخاصة لما وصلت المنطقة الى المأزق الراهن. لكن من هي هذه الأطراف تحديداً؟ أهي الاستعمار البرتغالي أم نظام سوهارتو البائد أم الغرب المتحالف معه أم النظام الاندونيسي الجديد، أم هي الأممالمتحدة؟ الحقيقة المرة ان كل هذه الأطراف تتحمل المسؤولية بنسب متفاوتة، ولها أصابع في تاريخ تيمور القديم والحديث، والحديث جداً وصفحات سوداء تدينها. ولعل أول الأطراف التي يجب الحديث عن اخطائها على هذا الصعيد هو الاستعمار البرتغالي سيء الصيت الذي لم يترك مستعمرة من مستعمراته السابقة الا وخلّف وراءه حروباً أهلية، ناهيك عن مظاهر التخلف والجهل والفقر. فهو بجشعه وانانيته ورعونته وفساده ظل جاثماً على صدور ابناء الجزء الشرقي من جزيرة تيمور منذ أن وطأتها أقدام بحارته وتجاره في بدايات القرن السادس عشر اثناء اشتداد حُمى التنافس بين أساطيل الغرب البحرية لمد النفود الى ما وراء البحار واستغلال موارد وخيرات الشعوب البعيدة، من دون أن يقدم على أقل القليل من مشاريع التحديث والتنمية من تلك التي صاحبت وجود المستعمرين الآخرين في أماكن أخرى وساهمت الى حد ما في خلق شكل من أشكال المؤسسات الادارية الحديثة والكوادر المتعلمة والبنى التحتية الضرورية لوقوف البلاد المستعمَرة على أقدامها في المراحل التالية. وعلى حين أدرك المستعمرون الغربيون الآخرون بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تغير الزمن واستحالة بقاء اشكال الاستعمار والنهب القديمة على حالها، وبدأوا يرضخون لإرادة الشعوب المقهورة في الحرية والاستقلال، راح حكام لشبونة يتصرفون ضد منطق التاريخ ويشددون قبضتهم على مستعمراتهم بالحديد والنار. وهكذا ظلت تيمور الشرقية رهينة في أيدي البرتغاليين ومقطوعة الجذور عن محيطها الطبيعي على مدى خمسة قرون فيما كانت الاقاليم والجزر المحيطة بها - بما في ذلك نصفها الغربي - في حالة تواصل في ظل الاستعمار الهولندي الذي رحل في العام 1949 ممهداً الطريق أمام انتظام معظم تلك الاقاليم في اطار دولة مستقلة أطلق عليها اندونيسيا. وبحلول العام 1974 الذي شهد سقوط نظام سالازار الديكتاتوري في لشبونة وقيام حكومة برتغالية ديموقراطية وملتزمة بتصفية مستعمراتها في ما وراء البحار، انتعشت آمال التيموريين في الحرية وظهرت في أوساطهم نتيجة لذلك حركات سياسية استقلالية كان أكبرها وأبرزها حركة "فريتلين" ذات الميول اليسارية. وهنا تبرز مسؤولية الغرب ولا سيما واشنطن ولندن وكانبرا عما حدث من أخطاء ومآسٍ. فبدلاً من أن يضغط هذا الغرب في اتجاه منح التيموريين الشرقيين حق تقرير المصير بطريقة حضارية ومتناغمة مع أبسط مبادئ الليبرالية التي يحمل لواءها، راح، لأسباب منفعية خاصة، يغض الطرف عن نوايا حليفه في جاكرتا لجهة ضم الاقليم بالقوة والحاقه قسراً بالكيان الاندونيسي، بل راح يشجعه في الخفاء على مثل هذا العمل الأرعن كي يتجنب نشوء كوبا جديدة في جنوب شرقي آسيا بحسب منطق فلاسفة الحرب الباردة الغربيين. ذلك ان منح التيموريين الشرقيين حق تقرير المصير كان يعني وقتها اختيارهم الاستقلال التام ورفض أي شكل من أشكال التبعية لاندونيسيا من تلك التي فرضت على أشقائهم في تيمور الغربية، ليس فقط لعدم وجود ما يجذب للانضمام الى دولة يحكمها نظام ديكتاتوري قمعي وفاسد ومتهم باهمال اقاليمه المتناثرة والتركيز حصراً على جزيرة جاوه، مسقط رأس معظم رموزه وجنرالاته، ولكن لأن خمسة قرون من عزلة تيمور الشرقية عن جوارها أورثتها أجيالاً متميزة ثقافياً عن ذلك الجوار ناهيك عن تميزها العرقي والديني. والاستقلال كان يعني وصول حركة يسارية موالية للمعسكر الاشتراكي الى السلطة في ديلي، وبالتالي خسارة الغرب موقعاً استرايتجياً قريباً جداً من قواعده العسكرية في استراليا، وفقدانه السيطرة على مضائق "أومباي" المائية الى الشمال من تيمور الشرقية التي كانت تمثل بسبب عمقها النموذجي أفضل مكان لتحركات ومناورات الغواصات النووية الأميركية، هذا فضلاً عن ظهور "شوكة" يسارية مزعجة في "خاصرة" الحليف الاندونيسي. ومن هنا فإن اعطاء الضوء الأخضر لسوهارتو وجنرالاته للقيام بغزو تيمور الشرقية في كانون الأول ديسمبر 1975 وجعلها المقاطعة السابعة والعشرين من مقاطعات اندونيسيا، كان عملاً مبرراً من وجهة نظر الغرب في وقت كانت فيه الحرب الباردة على أشدها، وواشنطن مثقلة بهزيمة نكراء وانسحاب مُذل من المستنقع الفيتنامي لم يكن قد مضى عليه سوى أشهر معدودة. أما سوهارتو الذي أتم العملية على أكمل وجه وراح يمارس ضد التيموريين وحركتهم الاستقلالية أعمال البطش والتنكيل التي راح ضحيتها على مدى السنوات الثلاث والعشرين الماضية أكثر من مئتي ألف تيموري أو ما يعادل ربع سكان هذا الاقليم، فقد اعتقد أنه كتب المصير الأبدي لتيمور الشرقية ولم يدرك أنه سوف يأتي اليوم الذي تدفع فيه بلاده ثمن مغامرته من وحدتها. ذلك أنه لولا مغامرة الغزو والالحاق القسري لتيمور الشرقية في السبعينات ثم التراجع عنه على مضض في التسعينات لما تأسست سابقة من تلك التي تثير الفزع في أوساط المؤسسة العسكرية الاندونيسية الراهنة بقدر ما تثير أحلام مقاطعات اندونيسية عديدة في الانفصال والاستقلال، ولا سيما مقاطعتا ايريان الغربية وأتشيه. لقد ظهر الغرب أخيراً بمظهر الحريص على حق التيموريين الشرقيين في تقرير المصير بعد صمت طويل ومُريب. وكان سقوط سوهارتو غير مأسوف عليه فرصة لممارسة ضغوط شديدة على خلفه الرئيس يوسف حبيبي مشفوعة بتهديدات اقتصادية من أجل تصحيح الخطأ التاريخي في السبعينات. وهذا الأخير الذي وجد نفسه وريثاً لجملة من القضايا والأزمات الداخلية المستعصية، ولخزينة فارغة واقتصاد محطم وسمعة خارجية سيئة، لم يجد مفراً من القبول. فوافق بعد تردد ومناورات بائسة على ما كان يعتبر في عهد سوهارتو جريمة كبرى، ألا وهو منح التيموريين الاختيار ما بين الاستقلال أو البقاء ضمن السيادة الاندونيسية. ولأن القضية حساسة وقد تهدد بانفراط عقد الارخبيل الاندونيسي الى دويلات، ولأن التفريط في تيمور الشرقية أمر يعارضه منافسوه وقد يستخدمونه كورقة للاضرار بحظوظه في انتخابات رئاسة الدولة المقررة في تشرين الثاني نوفمبر المقبل، ولأن المؤسسة العسكرية النافذة صاحبة الدور الاخطبوطي في المجتمع لا يمكنها منح موافقتها بسهولة بعد أن ضحت في سبيل القضية بأكثر من 25 ألف جندي وتؤثر المحافظة على هيبتها ونفوذها وامتيازاتها، وأيضاً مصالحها التجارية في تيمور والمتمحورة حول نهب ثروة الاقليم الوحيدة من البن وتهريبها الى الخارج، فقد أصرّ حبيبي في محادثاته مع الأممالمتحدة والبرتغال على شرط قيام الاستفتاء في ظل اسناد أعمال الأمن والنظام الى القوات الاندونيسية، وهو واثق بأن الاستجابة لهذا الشرط سوف تخفف من صعوبة موقفه الداخلي وتتيح لجيشه تهيئة مناخ من الفزع والرعب في تيمور بما يتيح انتصار خيار الحكم الذاتي على الاستقلال، وذلك عبر تزويد الجماعات الرافضة للاستقلال بالسلاح ووسائل تهديد الناخبين الأخرى، وغض الطرف عن أعمالهم الدموية التي امتدت الى رجال الأممالمتحدة العزل وممتلكاتهم، هذا فضلاً عن نقل الآلاف من البشر من غرب تيمور الى شرقها بحجة انهم من لاجئي تيمور الشرقية الذين لجأوا في السبعينات الى داخل اندونيسيا هرباً من الحرب وبالتالي فمن حقهم الشماركة في التصويت. أما الأممالمتحدة فقد ارتكبت بقبولها الشروط الاندونيسية خطأ جديداً يُضاف الى اخطائها السابقة في الشأن التيموري، حينما فضلت في العام 1975 والأعوام التالية الاكتفاء ببيانات الاعتراض الانشائية على الغزو الاندونيسي لتيمور الشرقية، متجنبة القيام بجهود عملية واضحة ذات مردود، فبدت كما لو كانت شريكة للغرب في صمته ولا مبالاته ازاء القضية. وبدلاً من أن تستغل الصحوة المتأخرة للضمير الغربي لمواصلة الضغوط ضد جاكرتا من أجل أن يتم الاستفتاء المقترح وفق الصيغة البوسنية، أي في ظل قوات حفظ سلام دولية تتولى شؤون الأمن والنظام، راحت في غمرة فرحها بموافقة جاكرتا على مبدأ الاستفتاء أخيراً تقلل من التفاصيل الاجرائية للعملية وتستجيب لشرط إسناد مهام حفظ الأمن والنظام للقوات الاندونيسية وحدها، متجاهلة تبعات ما قد ينشأ من مخالفات ومآزق معروفة سلفاً لدى أقل المطلعين على الملف التيموري، الأمر الذي جعلها تبدو كمحكمة تستند مهمة المحافظة على حياة الضحية الى المتهم الى حين صدور الحكم، دونما اعتبار لاحتمالات أن يلجأ الأخير الى الاضرار بحياة الضحية. وهكذا تسببت المنظمة الدولية مرة أخرى في الاضرار بسمعتها وأثبتت انها لا تجيد سوى صنع سلام ناقص أو مشوه، مما يذكرنا بطريقة تعاطيها للملف الأفغاني في نهاية الثمانينات حينما ركزت جهودها في محادثات جنيف على عملية تأمين الانسحاب السوفياتي من افغانستان وتركت أمر ما سيحدث بعد ذلك في كابول خاضعاً لمشيئة الفصائل الجهادية بدلاً من تهيئة الأرض لمرحلة انتقالية تكون لها وحدها فيها سلطة الأمر والنهي. ومجمل القول إن أخطاء كثيرة ارتكبت في تيمور الشرقية، كان بالامكان تصحيحها في الفرصة التاريخية التي لاحت هذا العام، لكن المؤسف أن مسلسل الأخطاء أضيفت اليه حلقة جديدة ربما جعلت القضية حية لوقت أطول بدلاً من إسدال الستار عليها.