قبل بضعة أشهر فوجئت السيدة الألمانية توميلن برسالة من الهيئة الألمانية لحل المشاكل المتعلقة بالملكيات الخاصة أو التعويض لأصحابها. ويتلخص محتواها بأن هناك دعوى مقامة من قبل إحدى المنظمات اليهودية في نيويورك تطالب فيها باسترداد منزل المذكورة لصالح ورثة عائلة يهودية كانت تملكه قبيل الحرب العالمية الثانية. اقيمت الدعوى على أساس أن العائلة أجبرت على بيع المنزل لمواطن الماني تحت ظروف سيطرة النازيين على السلطة واضطهادهم لليهود آنذاك. وفي مطلع الستينات قام زوج توميلن بشراء المنزل من مالكه الألماني وسكنه مع أفراد عائلته. ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم أدخلت توميلن وزوجها تعديلات كبيرة عليه، إذ تم توسيعه كي يتناسب وحاجات الساكنين الجدد. ومنذ وصول الرسالة تعكرت الحياة اليومية للمرأة التي قضت معظم حياتها في بيتها الذي لم تسمع عن وجود اشكالات بخصوصه من قبل. ومن ذلك الحين انشغلت بتقديم الأدلة والوثائق التي تثبت حقها به وعدم تحملها مسؤولية انتقال ملكيته قبل أن يشتريه زوجها. ومثل السيدة المذكورة، تواجه آلاف العائلات والمؤسسات الألمانية دعاوى مماثلة تهدف إلى استرجاع ملكيات أو دفع تعويضات لضحايا النازية من اليهود. وتقول السيدة توميلن، الذي يقع منزلها في منطقة براندنبورغ قرب برلين، إن هناك دعاوى مقامة لاسترجاع قرية بكاملها في المحيط الذي تسكن فيه. وفي قرى أخرى تشمل البيوت والأراضي المطالب باسترجاعها قسماً مهماً من الممتلكات التي كانت قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية واثنائه ملكاً للأثرياء والفنانيين اليهود وعائلاتهم. ويبدو الوضع بالنسبة للكثير من المالكين الجدد صعباً. إذ ينبغي عليهم إما إعادة الأملاك أو دفع تعويضات، وفي أحسن الأحوال فإن الحكومة والشركات الألمانية ستدفع الأخيرة على اعتبار ان القضية ذات أبعاد سياسية تتجاوز الشأن الفردي إلى العام. يقود حملة الدعاوى هذه جمعيات ومنظمات يهودية مركزها الرئيسي في نيويورك. ويدعمها في مطالبها وبشكل قوي كل من حكومتي الولاياتالمتحدة وإسرائيل، علماً ان الحكومة الأميركية تدعم أيضاً مطالب ضحايا النازية من غير اليهود، وخصوصاً في أوروبا الشرقية. وتشير المعطيات إلى أن الجمعيات والمنظمات المذكورة حضرت للدعاوى بشكل مدروس وجيد وعلى مدى سنوات طويلة. وقامت، وتقوم، على سبيل المثال، بجمع وتبويب الوثائق الخاصة بالأملاك اليهودية التي صودرت أو اجبر أصحابها على التنازل عنها أو بيعها من قبل النازيين. كما قامت بتوثيق مختلف أشكال اضطهاد اليهود في المعامل والمؤسسات ومعسكرات الاعتقال وغيرها. واتبعت في ذلك إضافة إلى الوثائق تدوين إفادات الشهود وجمع الصور وانتاج الأفلام وما شابهها. ورافق رفعها للدعاوى تجنيد عشرات المحامين ووسائل إعلام ومؤسسات وشخصيات سياسية عديدة في الولاياتالمتحدةوالمانيا وغيرهما. ويقوم هؤلاء منذ فترة بممارسة ضغوط متزايدة على الهيئات والشركات والجهات الألمانية التي استفادت من أملاك اليهود سابقاً أو من ملاحقتهم واضطهادهم بغية اجبارها على تقديم المزيد من التنازلات سواء على صعيدي استعادة الملكيات أو دفع التعويضات النقدية. ومن جهتها، تظهر الحكومة الألمانية تفهماً للمطالب اليهودية أكثر من تفهمها لمطالب غيرهم، وخصوصاً على صعيد دفع التعويضات. فبالإضافة إلى تقديم التسهيلات بخصوص إستعادة الملكية الخاصة باليهود، تراها تقوم، ومنذ سنوات، باستقبال آلاف المهاجرين من اليهود الروس وغيرهم بغية توطينهم. وبفضل ذلك ازداد عدد أفراد الجالية اليهودية في البلاد بشكل مضطرد، وأصبح يناهز 70 ألفاً في الوقت الحالي. ويذكر أيضاً أن الحكومات الألمانية على اختلاف مشاربها تقدم لإسرائيل منذ عدة عقود مساعدات وتعويضات عسكرية واقتصادية تقدر بعض المصادر قيمتها بما لا يقل عن بليون مارك سنوياً. وكان آخرها، على سبيل المثال، تمويل بناء ثلاث غواصات قادرة على حمل رؤوس نووية تقدر كلفتها بما لا يقل عن 107 بليون مارك. وكذلك وافقت السلطات الألمانية والعديد من الشركات مثل دايملر - كرايسلر والبنك الألماني وفولكسفاغن وب م دبليو وغيرها على تأسيس "صندوق تعويضات" لضحايا النازية برأسمال قيمته 107 بليون دولار بشكل مبدئي. غير ان المنظمات اليهودية مدعومة من حكومتي إسرائيل وواشنطن لم توافق على هذا الاقتراح على أساس أن التعويضات غير كافية أو عادلة، ويجب ان تكون بحدود 20 بليون دولار. ومن أجل تجاوز المشاكل العالقة بحجم التعويضات، فإن مفاوضات تجري منذ أشهر بين ممثلي الشركات والحكومات الألمانية من جهة، وبين ممثلي المنظمات اليهودية وضحايا النازية والحكومة الأميركية من جهة أخرى في نيويورك وبون. وتشير آخر المعلومات إلى أن الجانبين قطعا شوطاً لناحية الاتفاق على قضايا مختلفة باستثناء تلك المتعلقة بحجم التعويضات. وفي الوقت الذي تصر فيه المانيا على قيام الولاياتالمتحدة بإصدار تشريعات يتم بموجبها قيام المحاكم الأميركية بضمان عدم قبول الدعاوى الجديدة بحق الشركات والمؤسسات الألمانية في الولاياتالمتحدة بعد التوصل إلى اتفاق، فإن الهيئات والمنظمات اليهودية، وكذلك حكومة واشنطن، ما تزال تتحفظ على المطلب الألماني، ويقوم موقفها بهذا الخصوص على أن من حق الذين أصابتهم أضرار النازية المطالبة بالتعويض أينما كانوا ومتى رغبوا، وفي حال فشل الألمان في الحصول على مثل هذه الضمانة، فإن هناك خشية من عدم انقطاع مسلسل تقديم الدعاوى بحق الشركات الألمانية وفروعها ما سيعني إجبارها على دفع المزيد من التعويضات ولسنوات طويلة ومديدة. في الوقت الذي تبذل فيه المنظمات اليهودية وحكومات إسرائيل مدعومة من الإدارات الأميركية كل ما في وسعها لاسترداد حقوق اليهود في أملاكهم وللتعويض على ما لاقوه جراء اضطهاد النازيين وملاحقتهم لهم، فإن إسرائيل، تدعمها المنظمات والإدارات المذكورة، ما تزال ترفض حتى مجرد الاعتراف بحقوق الفلسطينيين الذين شردتهم عصاباتها من وطنهم بالقوة والبطش ومختلف أساليب الضغط والإكراه. ولا يشمل ذلك نكرانها لحقهم بالعودة إلى ديارهم وأرضهم وحسب، وإنما أيضاً رفضها دفع التعويضات العادلة لهم. ويقدر عدد هؤلاء بما لا يقل عن أربعة ملايين تعيش غالبيتهم في الأردن وسورية ولبنان تحت ظروف مزرية وفي مخيمات أصبح عمر بعضها أكثر من نصف قرن. ولا تكمن المشكلة فقط في عدم اعتراف إسرائيل بحقوقهم، وإنما في تهاون السلطة الوطنية الفلسطينية ومؤسساتها بالمطالبة بها والموافقة على أنها قضية يمكن المساومة عليها. وما يدل على ذلك ان "اتفاق أوسلو" أجل البحث في شؤونهم بدل أن يضعها على رأس أولوياته. ويتم ذلك في الوقت الذي ترى فيه الحكومات الإسرائيلية ان حل قضيتهم يجب أن يقوم على أساسا توطينهم حيث يقيمون. ولا تخفي الإدارات الأميركية تفضيلها لمثل هذه الطروحات التي تتناقض مع مواقفها ازاء حقوق اليهود وغيرهم من ضحايا النازية. ويشعر غالبية المشردين الفلسطينيين خارج ديارهم بخيبة أملهم من مواقف السلطة الفلسطينية التي كادت أن تحول قضيتهم إلى قضية هامشية على حد تعبير الكثير منهم. ويلاحظ ان هيئات السلطة ومؤسساتها لم تقم حتى الآن، وكما ينبغي، بجمع الأدلة وتبويبها بشكل مركزي عن الأملاك التي صودرت أو عن أولئك الذين تم تعذيبهم واضطهادهم في السجون والمعتقلات الإسرائيلية أسوة بما فعلته وتفعله الهيئات اليهودية والمؤسسات الإسرائىلية مع ضحايا النازية من اليهود. إن إسرائيل والمنظمات اليهودية تقدم للفلسطينيين والعرب درساً ينبغي التعلم منه على صعيد إستعادة الحقوق المغتصبة من ملكيات وغيرها. فمنذ انهيار المشروع النازي قبل أكثر من نصف قرن وحتى الآن تراها تتبع مختلف وسائل الضغط لاستمرار التزام المانيا الرسمية والشعبية أو إلزامها بإعادة الأملاك اليهودية إلى أصحابها أو التعويض لهم وللذين تم اضطهادهم على أيدي النازيين، وفي الوقت الذي لا تتهاون فيه على هذا الصعيد، تجدها تتبع مختلف أساليب الضغط والتخويف ضد الفلسطينيين والعرب، وخصوصاً من خلال نفوذها لدى الإدارات الأميركية بهدف تهميش حقوق الملايين المشردين منهم وتحويلها إلى قضية ثانوية. واثبتت الوقائع حتى الآن ان "الكرم" الرسمي كان وللأسف أكبر مما ينبغي. وعليه فإن الوقت حان لوضع حد لهذا الكرم الذي ينبغي ان يُقابل بكرم اسرائيلي او ببعضه. ومما ينطوي عليه ذلك مواجهة إسرائيل والمنظمات اليهودية على صعيد حق العودة ودفع التعويضات وفق الاسلوب الذي تستخدمه ضد المانيا كدولة وكمؤسسات لاستعادة حقوق اليهود التي صودرت بالإكراه من قبل النازيين. فحق اليهودي بملكيته الذي صادرها النازيون قبيل الحرب العالمية الثانية وأثناءها مثلاً، يقابله حق الفلسطيني بملكيته التي صادرتها وتصادرها العصابات والدولة الصهيونية منذ نكبة 1948 على الأقل. أما الرفض الإسرائيلي لمثل هذه المقارنة فيجب أن يواجه بعناد فلسطيني يرافقه القيام بحملة تعبئة ودعم على الصعيدين العربي والعالمي. ومن شأن ذلك، حسب تعبير مشرد فلسطيني من مخيم صبرا، "أن يساهم في إجبار حكومات إسرائيل على الاعتراف بحقوق المشردين الفلسطينيين كما تعترف الحكومات الألمانية بحقوق ضحايا النازية من اليهود وغيرهم".