توسعت خلال عام 1938 الحكومة النازية في المانيا في طرد اليهود الألمان من بلادهم وفي تنفيذ "قانون نورمبرغ" الذي وضعه النازيون "لحماية دماء الألمان وشرفهم" بحيث أصبح شائعاً ان يرى المرء في بعض المدن الأوروبية وفي بعض الموانئ الدولية يهودا "في حالة مرضية من العوز والبؤس يبحثون دون طائل عن عمل أو ملجأ"، كما يقول المؤرخ البريطاني جيمس جول. هذه الصورة الكئيبة أثارت شاباً يهودياً بولونياً ودفعته الى اقتحام السفارة الألمانية في باريس في مطلع تشرين الثاني نوفمبر من ذلك العام، والى اطلاق النار على سكرتير السفارة، الهر فون رات، والى اردائه قتيلاً. ولما قبض على القاتل، أكد بأنه قام بعمله هذا دون تحريض من أحد، وأنه قتل فون رات انتقاماً لابناء دينه من البولونيين اليهود الذين تعرضوا الى الاضطهاد الشديد وطردوا من المانيا قبل أشهر قليلة. أثارت قضية قتل فون رات قلق ومخاوف اليهود الألمان والأوروبيين والمؤتمر اليهودي العالمي، كما أثارت أيضاً مخاوف الأوساط الدولية التي كانت تناهض السياسة العنصرية الألمانية. كانت هذه الأوساط على علم بموقف النازيين من اليهود وبالاستراتيجية التي اعتمدوها للتخلص منهم، وكانت تعرف مدى عداء هتلر لليهود الذين حملهم، في كتابه "كفاحي"، مسؤولية خسارة المانيا الحرب العالمية الأولى وخراب حضارتها واضطراب اقتصادها. كذلك كانت هذه الأوساط تعرف درجة تمسك هتلر بسياسة "النقاء العنصري" التي كان ينوي تطبيقها لا في المانيا فحسب ولكن في القارة الأوروبية ايضاً. لقد كان اليهود، في نظر النازيين، أشراراً بالسليقة وعقبة قوية تعترض صعود المانيا الى زعامة العالم. ولم يكن من الضروري ان يرتكب اليهودي عملا ضد الدولة الألمانية كما فعل ميشال غرينسبان الذي قتل فون رات أو ان يقدم على جرم معين لكي يستحق العقاب بل كانت يهوديته حتى يصبح عدواً "موضوعياً" للدولة وللشعب الآري. لذلك كان النازيون يعتقدون أنه من حقهم بل من واجبهم التنكيل باليهود والاستيلاء على ممتلكاتهم تمهيداً لتحويلهم الى جماعة دينية هائمة لا ترتبط بالأرض والمجتمع وطردهم من المانيا وأوروبا. اعتمد النازيون هذه السياسة منذ وصولهم الى الحكم في المانيا عام 1933، الا أنهم كانوا يعرفون ان هذه السياسة ستصطدم بردود فعل دولية سلبية ضد اضطهاد اليهود، لذلك حرصوا على تنفيذها في الأيام العادية بسرية وبعيداً عن الأعين وبأسلوب متدرج. في الوقت نفسه كان النازيون يتحينون أية مقاومة أو عمل احتجاجي أو بادرة عنف تصدر عن اليهود ضد النازيين لكي يتخذوا منها حجة يقدمونها الى المجتمع الدولي كتبرير لعملية التنكيل باليهود والتخلص منهم. كانت هذه الأعمال ذريعة كافية عند النازيين للتخلي عن الحذر والتستر في عملية التنكيل باليهود والتخلص منهم ولاطلاقها على مصاريعها بحيث لا تهدأ الا بعد أن يكونوا قطعوا شوطاً طويلاً في تحقيق أهداف لم يكن من السهل التوصل الى تحقيقها عبر أسلوب التدرج. خوفاً من لجوء النازيين الى مثل هذا التصعيد في أعمال التنكيل ضد اليهود سارعت اللجنة الدائمة للمؤتمر اليهودي العالمي، بعد مقتل فون رات، الى اصدار بيان شجبت فيه "العمل الاجرامي الذي قام به الشاب اليهودي البولوني"، ودعت فيه الى عدم تحميل اليهود بشكل عام، أو اليهود الألمان نتائج هذا العمل. لم تقبل الحكومة النازية بموقف المؤتمر اليهودي، فاصرت على تحميل "اليهودية العالمية" مسؤولية مقتل فون رات. وسارع الزعيم النازي الهر غوبلز الى كتابة مقال دعا فيه الشعب الألماني الى عدم السكوت عن هذه الجريمة لئلا يقوم "اليهود بقتل جميع ممثلينا الديبلوماسيين في الخارج"، ثم اطلق الآلة الاعلامية القوية التي كانت تعمل بأمرته من أجل تبرير الحملة الارهابية ضد اليهود، فطفقت تنشر الروايات المثيرة للخواطر حول "المخططات اليهودية لتصفية الشعب الجرماني وابادته". في الوقت نفسه اطلق الزعماء النازيون حملة رهيبة من أعمال البطش باليهود لم تنحصر في المانيا وحدها بل امتدت الى النمسا وايطاليا وسائر أنحاء أوروبا الوسطى. ففي ميونيخ وبرلين وفرانكفورت وسائر انحاء المدن الألمانية انتشر الرعاع النازيون يحطمون المحلات اليهودية ويحرقون المعابد الدينية الخاصة باليهود، وانطلق البوليس السري الألماني جستابو يعتقل اليهود بالألوف، بينما اعلنت السلطات الألمانية والنمساوية عن "انتحار" العشرات من اليهود. وامتداداً لهذه الحملة ولعملية التنكيل باليهود، أمر الزعيم النازي غورينغ اليهود الألمان بدفع بليون مارك للخزينة الألمانية. وتصاعدت هذه الحملة الارهابية ضد اليهود في المانيا وفي بعض دول أوروبا الوسطى بحيث اضطر الكثيرون منهم الى مغادرة مساكنهم والى الالتجاء الى الغابات والسهول القريبة خوفاً من بطش النازيين والفاشيين. وأخذ البعض منهم يقتات الحشائش بعد أن منع الطعام عنهم، وفتك البرد الشديد بالعديد من الذين قضوا الأيام والليالي مشردين في العراء. قبل أيام قليلة نظمت في أماكن متعددة من العالم منها المانياوالنمسا واسرائيل نشاطات عامة لاحياء ذكرى تلك الأيام السوداء، ولاستذكار جرائم النازيين والأعمال الوحشية التي قاموا بها. وتأمل بعض الأوساط الدولية ان تكون هذه الأحداث مناسبة ليس للتنديد بأعمال النازيين فحسب، بل ان تكون مناسبة للعمل الحثيث على سد الأبواب أمام تجدد الأفكار والممارسات العنصرية، فإلى أي مدى تصح هذه التوقعات؟ ان هذه التوقعات قد تنطبق على واقع الحال في بعض المجتمعات التي تحارب العقائد الفاشية والنازية الجديدة وتصدر القوانين التي تشدد على المساواة وعلى حقوق الأقليات الدينية والاثنية، إلا أنها لا تنطبق على اسرائيل اذ تبدو السياسية الاسرائيلية تكراراً لأعمال النازيين ومشاريعهم وأفكارهم. فكما كان النازيون يعملون على تحويل اليهود الى جماعة دينية هائمة ليس لها ما يربطها بالأرض، فإن الاسرائيليين يعملون على تحويل الفلسطينيين الى شعب هائم لا يملك الأرض ولا المياه حتى يسهل طرده من الأراضي الفلسطينية. وكما كان النازيون يستخدمون أساليب العقاب الجماعي وعمليات التنكيل الواسعة كأسلوب من أساليب تنفيذ أهدافهم، هذه فإن الحكومة الاسرائيلية تتبع نفس الطريق للوصول الى أهدافها. في هذا السياق اشتطت حكومة نتانياهو في تحميل السلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني عموماً مسؤولية أي عمل عسكري أو عنفي يقوم به أي فرد من الأفراد الفلسطينيين. فإذا قام بعض الأفراد الفلسطينيين بعمليات مسلحة تستهدف تحرير بلادهم من الاحتلال، تحمل الحكومة الاسرائيلية السلطة الفلسطينية ومن خلالها الشعب الفلسطيني، مسؤولية هذه العمليات. وإذا كان الفلسطينيون مسؤولين عن هذه العمليات، فانهم لا بد أن يدفعوا الثمن باهظاً. عندها تسرع الحكومة الاسرائيلية في تنفيذ عمليات الاستيطان، وفي قضم الأراضي والثروات الطبيعية الفلسطينية، كما فعلت عندما أعلن افيف بوشينسكي الناطق بلسان نتانياهو، في أعقاب انفجار سيارة مفخخة في أحد شوارع القدس، ان الحكومة الاسرائيلية اتخذت الترتيبات من أجل تعزيز الاستيطان الاسرائيلي في جبل أبو غنيم في القدسالشرقية. فضلاً عن ذلك، وحتى يهدأ الاسرائيليون وتهدأ فورة الدم الاسرائيلية فإنه لا يكفي ان تصدر القيادات الفلسطينية بيانات تنفي فيها علاقتها بالعمليات المسلحة - كما فعلت حماس أحياناً - أو تدينها بأقوى الكلمات - كما تفعل السلطة الفلسطينية، وكما فعل المؤتمر اليهودي العالمي قبل ستين عاماً عندما شجب اغتيال فون رات. حتى يهدأ الاسرائيليون لا بد أن تقدم السلطة الفلسطينية، باسم الشعب الفلسطيني وبالنيابة عنه وعن أجياله المقبلة، التنازلات الكبرى الى الاسرائيليين وتتخلى عن الحقوق التاريخية والطبيعية لشعب فلسطين. * كاتب وباحث لبناني.