لم يعد المصريون يضحكون كما في السابق، فقد زادت مساحة الغضب وتجاعيد القلق وصارت الجباه والخدود أكثر انكماشاً وأقل إشراقاً. وتغير مفهوم الضحك. والذي حدث هو أن جملة التطورات السياسية والاقتصادية في مصر والتي تواكبت مع وفرة سكانية جاوزت التكدس، كانت دافعة في اتجاه الصراع والتنافس والاستعداد الدائم للمشاكسة ووضعية القتال. ولم تكن ضوابط الصراع الاجتماعي في مصر في ربع القرن الأخير صارمة بالدرجة الكافية، فاتسعت مساحة المحسوبية والوساطة وعلا ميكانيزم الشلة و"لوبيهات" المصالح على مكونات البناء الاجتماعي، ولم يعد ممكناً للمرء أن يأنس لواقعه أو يأمن لمستقبله، فالحراك الاجتماعي يجري على قدم وساق، ومعدلات التضخم التي فاقم منها ماراثون الاستثمارات العقارية تزيد كل يوم أو بعض يوم، والثوابت التي عاش عليها المصريون منذ ثورة تموز يوليو 1952 أصابها الدوار، فالقطاع العام ونظم التعليم والصحة والاسكان تبدلت كثيراً، وصارت الحياة أكثر صعوبة وخشونة. هنا زاد القلق... والمصري بطبيعته كائن غير قلق، التاريخ النفسي للمصريين يدل على ميلهم إلى الثبات والاستقرار والراحة وعلى نبذ القلق والتغيير الجذري والانقلاب الاجتماعي. وهكذا لا يوجد للقلق تاريخ مهم في علم نفس المصريين، ولما كان القلق المصحوب بالتوتر والتوجس والترقب، جديدا في طبيعته وفي نطاقه... فإن التعامل معه دلل بسهولة على عفوية وربما بدائية غير متوقعة. لقد صار أي شيء يضحك... أي قول وأي فعل وربما أي صمت .. وقبل اسابيع أقامت صحيفة "أخبار اليوم" القاهرية حفلاً لتكريم نجوم العام الفرعوني، وكان من بين المكرمين الأديب العالمي نجيب محفوظ، والعالم المصري احمد زويل، والفنان التشكيلي صلاح طاهر، ومن نجوم الفن محمد صبحي ويسرا وكاظم الساهر، ولكن استقبال كل هؤلاء كان شيئاً مختلفاً عن الاستقبال الذي حظي به الفنان محمد هنيدي، فعندما ظهرت صورته على شاشة العرض الداخلية انفجرت جموع الحضور بالضحك، لم يقل هنيدي شيئاً ولم يطلق نكتة ولم يصنع "إفيهاً"... ولكنه فقط ظهر... الظهور وحده أطلق هذه الضحكات ومعها أصوات الأيدي التي تنهال على بعضها بعضاً من شدة الضحك. ما المعنى؟... المعنى هو الاحتياج الى الضحك من غير سبب او بسبب غير مقنع او بسبب مقنع غير مجهد... وعلى غير المقولة الشهيرة "الضحك من غير سبب لا يتوافق مع الأدب". فقد صار الضحك من غير سبب هو طوق النجاة لملايين المصريين الذين لا يرغبون ولا يقدرون على بذل الجهد في التماس الأسباب. والحالة الهنيدية - في تقديرنا - هي هذا الحل... الضحك من غير سبب مهم، فقط يظهر هنيدي وتظهر الضحكة معه، ان "الافيهات" التي اطلقها هنيدي في افلامه "إسماعيلية رايح جاي" و"صعيدي في الجامعة الاميركية"، و"همام في امستردام"، وفي مسرحية "عفروتو" هي تعبير فني ناجح عن هذه الحالة، فالمشاهدون منذ عرفوا هنيدي وهم يمسكون بتلابيبه لأنه يقع على هواهم تماماً، فالوجه والجسد والعفوية واللامسؤولية واللاموضوع... كلها مكونات في الشكل والمضمون تناسب الحال المذكورة... حال الاحتياج الى أي ضحك. كوميديا النكتة المصريون هم اكثر شعوب العالم انتاجاً للنكتة، والنكتة في مصر هي عمل يومي مستمر، فمع كل حدث تنطلق عشرات النكات تقلب فيه الأوجه كلها ونحن نلتقط الحدث نقطعه ونفصله ونهجم على تفاصيله بسيل عرم من السخرية والتهكم. ولا تترك النكتة شيئاً الا نالت منه... في الأفكار والجنس والسياسة وأكثر الأمور حساسية في مصر في الشأن السياسي يمكن ان تسمع عنها اكثر من مئة نكتة من متحدث واحد. والاغلب انها لا تخرج في مضمونها عما قد يتوصل اليه بعد عناء باحثون محترمون في جامعة هارفارد وفي مركز الدراسات الاستراتيجية في لندن بشأن مستقبل النظام السياسي في مصر.، ولأن النكتة همّ يومي، فليس كل ما يقال يضحك. فالتراكم النكتي والميراث الساخر وشرور البيئة كلها تضع معايير صارمة للنكتة الجميلة، وحين يعكف مصريون على اطلاق النكت في مجالسهم تكون أسوأ الاحكام التي تلاقي المتحدث هي قول المستمعين عنها انها قديمة، أو انها ضعيفة. والنكتة على ذلك مضمون واداء، وأكثر أهل النكتة براعة هم الذين يستطيعون اطلاق النكتة بمؤشراتها، أي استخدام اليد والوجه وطبقات الصوت في الحكي. والعادة ان النكتة الجميلة لا تطلق مرة واحدة. انها مرتين الأولى للضحك والثانية للحفظ. وحفظة النكات كحفظة الشعر والانساب لهم قامة ومقام ويتصدرون الجلسات وتعلق على حضورهم مباهج اللقاء. لقد خلفت هذه الظروف سقفاً عالياً لمواصفات النكتة، وبات ضرورياً ان يحظى الُمنكت بقدرات خاصة تفرض حضوره لدى جمهور النكتة البالغ القسوة والقوة، ولكن الكوميديا شيء آخر. فهي نص واداء ورسالة وموضوع، هي والنكتة سواء في انتزاع الضحكات ولكنها والنكتة شتان في الشكل والمضمون، والذي فعله هنيدي والذين معه، كان مختلفا فاجهتدوا في اطار كوميديا النكتة، الموضوع والقفشة معاً. لما كان الأمر كذلك" جمهور يحتاج الى الضحك ولا يجده، ونكات شاخت بفعل العمر وانخفاض مستوى الكفاءة، وسعادة غابت بفعل الاحباط وثورة التوقعات وقصر ذات اليد، جاء هنيدي وصحبه، هنيدي وعلاء ولي الدين واحمد آدم واشرف عبدالباقي وآخرون، جاءوا جميعا موهوبين ابرياء جاءوا في سنوات عجاف ضعفت فيها السينما، وزاد القنوط من الفن والدنيا معا. جاوءا بعد عقد ونصف العقد من الفقر العام والعنف السياسي وأزمات القمح وندرة الدوكار وتبلد الحياة السياسية في مصر. كان عقد الثمانينات في مصر عقدا بالغ القسوة، الجماعات الاسلامية ترتع في الصعيد وجامعات القاهرة، واللحى اليائسة تتناثر في الاسكندرية والدلتا، الاحتياطي النقدي لا يكمل المئة مليون دولار، والدولار يباع في محلات الصاغة وبيوت التجار بضعف قيمته في البنوك والمرافق طرقاً ومواصلات ومطارات وموانئ وإمعاء الارض من كهرباء ومياه وصرف كانت تئن من مرض عضال لم تظهر له امكانيات شفاء، وجاء عقد التسعينات ببعض الأمل ثم زاد الأمل مع مشاريع التنمية العملاقة في سيناء والبحر الاحمر وشمال البلاد وفي توشكى، ولكن الأمل لم يلغ الالم، ولم يلغ ارتفاع الاسعار وكثرة الاحتياجات وتعاظم المعروض من المنتج المحلي وعبر منافذ الاستيراد، وهكذا فيما استقام الاقتصاد الكلي في التسعينات كانت الانهيارات ما زالت على حالتها في الاقتصاديات الجزئية لعموم الناس. والخصخصة التي جاءت بعشرين بليون دولار احتياطيا في النقد الاجنبي، وجاءت بثبات نسبي في سوق الصرف وثبات معقول في معدلات التضخم والبطالة برغم الارتفاع... واكبها ضعف شديد في الخدمات الصحية والتعليمية والاسكانية وأصبح ما كان مجانياً أو شبه مجاني يحتاج الى جنيهات كثيرة للتعامل معه، فبقيت الأزمة وبسبب ذلك كله اختفت الابتسامة كثيرا عن العيون التي كان عليها ان تتابع وتحدق في كل شيء خشية السقوط ومع كثرة الخطى وزحام المتسابقين زادت علامات الأسى وإمارات الحزن، هنا كان لا بد من رجال يضحكون الناس ويرفعون الالتباس ويعملون بعزم ويفكرون بحزم ولا يتوقفون حتى ينالوا ما يريدون بحسب ما يقول الكواكبي، وجاء الرجال ولكن جاءت بضاعتهم مختلفة: ضحك جديد. او ما بعد الضحك على نحو ما تأتي توصيفات الثقافة المعاصرة... لا احد يمتلك الوقت ولا الزمن ليشاهد عملاً جاداً تعلوه السخرية، المطلوب هو السخرية بأسرع السبل وأقصر الطرق ولا احد يريد ان يجهد نفسه او يبدد اطلال طاقته في إدراك طقوس الاشارات والتحولات ولا رموز الرؤى والفلسفات، فقط الضحك السهل المباشر "بلا لف أو دوران"، كما يقول العامة في مصر. هنيدي والذين معه هم هؤلاء: مضحكون مختلفون، هدفهم الضحك المباشر وفلسفتهم ان الجمهور لا يحتاج من فكر الحياة المزيد ولا وقت عنده للفلسفة ولا السفسطة، ونحن أيضاً لسنا متفلسفين، قلنا نريد الضحك... الضحك فقط وكل شيء سواه مرفوض. إن هنيدي عمدة المضحكين الجدد يقول دائما إنه رجل بسيط ينتمي إلى الناس وهدفه الضحك وعندما سأله التليفزيوني الشهير مفيد فوزي في برنامجه المعروف "حديث المدينة" حدثنا عن "العولمة" في غياب المضمون ظل يضحك كثيرا ويقول عما تتحدث يا رجل انا اتحدث عن العوالم، وظل يضحك بلا حساب. وهكذا علاء ولي الدين، الطبعة الأقل كفاءة من الاصل لاسماعيل ياسين. علاء مضحك بذاته، بحكم البنية وتضاريس الوجه وعلامات البله والفوضى التي تغطيه من "ساسه إلى راسه" هو نفس البله المشوب بالتحدي والادعاء الذي عليه احمد ادم في اهم نماذج الفوضى في التسعينات "القرموطي" وهو نفس البله المحلى بالشقاوة والتبجح الذي عليه اشرف عبدالباقي في أدواره كلها، والمضحكون الجدد - جميعا - نجحوا الى الآن في اهدافهم - ففيلم "اسماعيلية رايح جاي" الذي كان فاتحة خير عليهم وصلت ايراداته الى سبعة ملايين دولار ما دعا هنيدي إلى رفع أجره الى ستين ألف دولار في "صعيدي" ثم الى 700 ألف دولار في "همام في امستردام" بعد ان تجاوز فيلم "صعيدي" في ايراداته داخل مصر وحدها العشرة ملايين، وفيما مكث فيلم أم كلثوم يوماً واحداً في السينما بعائد يقل عن الألف دولار، حققت اولى حفلات فيلم "عبود على الحدود" عائداً يفوق العشرة آلاف دولار أي ما يعادل ايراد فيلم "تايتنك" في القاهرة. وفيما يعرض فيلم يوسف شاهين "الآخر" في أربعة دور عرض يعرض فيلم هنيدي في 52 دار عرض، وفيلم علاء ولي الدين "عبود على الحدود" في 20 دار عرض، وهكذا يتم التعبير عن نجاحات المضحكين الجدد - عرضاً وجمهوراً وايرادات على نحو غير مسبوق - عبر حديث الأرقام وحده. وهكذا، فإن الذي جرى هو انبثاق مفهوم جديد للضحك، ذلك ان أسباب الضحك وظروفه قد تبدلت، كما ان صورته وملامحه قد تغيرت. فالنظرة واللهجة والبدنيات صارت أكثر حضوراً من الأسباب، والحاجة والقلق والضرورة صارت أكثر حضوراً في الظروف، والارتفاع والصخب والازعاج صارت أكثر وجوداً في الصورة، والتلقائية والعبثية والفوضى صارت أكثر رسوخاً في الملامح، الذي جرى أيضاً هو ان ما كان يثار بشأن الرسالة من وراء الابتسامة، والمضمون من خلف الضحكة. والفكرة من وراء القفشة، والنضال من بين الاسنان المنكشفة... لم يعد قائماً... ولم يعد هناك جدل . فلا أحد يدعي ذلك ولا احد يعترض على عدم الادعاء. الكل صار يسلم بأن الهدف هو الضحك .. هو غسيل الافكار كغسيل الأموال عبر مصدر ثالث هو المضحك الجديد. . الهدف هو ازالة مخلفات العمق والثقل والمسؤولية، وكذا ركام الرسالة والمبدأ والماهية، وقد جاء هنيدي في وقته تماماً، صعيدياً في الجامعة الاميركية... أو مضحكاً بين القبور، وحيث القلق الوجودي والقلق العبثي يزدادان سوية. فلا معنى للنضال خلف الابتسامة او الجهاد وراء الضحكة. وحيث ان مشكلات الدنيا تجتمع وتتكاثر مع كل صباح... فإن الهرب منها لا يكون اليها... بل الى اللامعنى... أو المعنى الجميل المريح الذي لا يثير فكراً ولا قلقاً، انه هنيدي بالضبط والذين معه، ولم يعد هنا شر البلية ما يضحك... بل وخيرها أيضاً... فالطبقات الوسطى والعليا التي لا تعاني مثلما تعاني الطبقات الاقل، لا تزال هي الاخرى تجتمع في دارات هنيدي سينما ومسرح لأنه حتى لو لم تكن معاناتهم بنفس الدرجة التي لا حل معها سوى الاستسلام لقهقهات غير مجهدة، فإنهم أيضاً يريدون الاستمتاع بما انجزوا وبما يتميزون به على الآخرين وحيث تتوارى مع ذلك مشكلات الانتماء والعمق والمسؤولية فإن الحل الوحيد أيضاً هو الضحك بلا مجهود، الذي حدث في عبارة جامعة... هو المزيد من الصدق... الضحك للضحك، وهذا يكفي وفي عبارة أخرى... اختزال الكوميديا في النكتة توافقاً مع تغير مفهوم الضحك وفي عبارة أخيرة... جهاد الحياة بالسخرية منها. * كاتب سياسي.