مثل كرة الثلج التي تكبر وهي تتدحرج، يلاحق "الحظ العاثر" الحزب الاشتراكي الديموقراطي الحاكم في المانيا حيث تكبر خسائره في الانتخابات السائرة من ولاية الى اخرى، من دون ان يتمكن من التقاط انفاسه التي اصبحت متعبة جداً. واذا كان غريمه الأساسي، الحزب الديموقراطي المسيحي، المستفيد الأكبر من هزائمه، فان المستفيد الثاني الذي سرق الاضواء السياسية والاعلامية بقوة هو حزب الاشتراكية الديموقراطية الشيوعي الاصلاحي الذي خرج عام 1989 من رحم الحزب الاشتراكي الالماني الموحد الذي كان حاكماً في "جمهورية المانيا الديموقراطية" السابقة. وذلك بسبب النجاحات الانتخابية التي حققها في انتخابات الاسابيع الاخيرة، واهمها حلوله في المرتبة الثانية محل الحزب الاشتراكي الديموقراطي في انتخابات ولاية تورينغن الشرقية. والواقع ان حزب الاشتراكية الديموقراطية الذي ينفي منذ سنوات صفة الشيوعية عنه، ويعتبر الماركسية احد روافد الحزب الفكرية فقط، تمكن منذ عام الوحدة الالمانية عام 1990 من تحقيق 26 نجاحاً من اصل 27 معركة انتخابية حصلت في البلاد، ومن زيادة نسبه المئوية من الاصوات بشكل ملحوظ. وفي ولاية تورينغن بشكل خاص حيث كان ضعيفاً، تمكن من زيادة اصواته بنسبة 271 في المئة بين 1992 و1999 على حد تعبير اندريه بري الذي يعتبر مفكر الحزب الايديولوجي والمشرف على حملاته الانتخابية. واذا كانت الشخصية الاهم التي لولاها لما استطاع الحزب تحقيق النجاحات لا تزال شخصية مؤسسه ورئيسه السابق ورئيس كتلته النيابية في البرلمان الاتحادي منذ 1993: غريغور غيزي، فان الحزب قادر الآن على الاعتماد على اكثر من شخصية ناجحة على الساحة السياسية في البلاد. ويأتي على رأس هذه الشخصيات رئيسه الحالي لوتار بيسكي المعتدل سياسياً والذي تحول بسرعة الى سياسي محنك ومحترم حتى من اعدائه السياسيين بسبب هدوئه في المناقشة واحترامه رأي الغير وجديته ومنطقه العلمي في عرض الامور، الشيء الذي حمل الحزب الاشتراكي الديموقراطي الى دعوته، غير مرة، هو وغيزي، الى الانتساب اليه "لأنهما موجودان في الحزب الخاطئ" كما كان يقال لهما. والواقع ان غيزي وبيسكي هددا اكثر من مرة بالاستقالة من الحزب خلال معاركهما الفكرية الناجحة ضد "المنبر الشيوعي" في حزبهما والذي اصبح اقلية هامشية تقريباً داخل صفوفه. وتعتبر حياة بيسكي ولد عام 1941 في شمال البلاد وكذلك نشأته الفكرية والسياسية والحزبية نموذجاً لحياة المثقف الطموح في الدول الاشتراكية السابقة. فبعد انتسابه الى الحزب الاشتراكي الالماني الموحد عام 1963 بدأ دراسته وتخصصه في جامعة كارل ماركس في لايبزغ حيث نال درجة الدكتور مرتين من الجامعة في حقل البحوث الثقافية بين 1966 و1975 وحصل على رتبة بروفسور. وفي 1979 بدأ التدرييس في جامعة هامبولدت الشهيرة في برلين وعمل بين 1980 و1988 باحثاً علمياً في اكاديمية العلوم الاجتماعية التابعة للجنة المركزية للحزب في العاصمة. وبسبب قدراته العلمية عُين بيسكي عام 1986 عميداً لمعهد السينما والتلفزيون في بوتسدام - بابلسبيرغ حيث درّس فيه ايضاً. لكنه فقد الوظيفة عندما توحدت الدولتان الالمانيتان عام 1990 فعين بعد عام عضواً في مجلس ادارة "الاذاعة الالمانية الشرقية" في ولاية براندنبورغ التي يعيش فيها. وكان احد افراد المجموعة القليلة التي ضمت ايضا غيزي وبري وتمردت عام 1989 على قيادة الحزب السابق، كما فرضت، قبل الوحدة الالمانية، عقد مؤتمر عام له تمكنت فيه من تعديل اسمه وانتخاب هيئة قيادية جديدة لتجديد الحزب وبرنامجه. في تلك الفترة انتظر الجميع موت الحزب بعد فترة قصيرة. واستمر هذا التوقع عدة سنوات الى ان تمكن الحزب نفسه من القفز فوق حاجز الخمسة في المئة في الانتخابات العامة الماضية وفي الانتخابات الاوروبية الاخيرة. والآن اقتنع الجميع تقريباً بضرورة التعايش معه كما حصل في ولاية مكنبورغ - فوربومرن حيث يشارك في الحكومة المحلية. وبيسكي، الى جانب رئاسته الحزب الاتحادي، يترأس ايضاً فرع الحزب في ولاية براندنبورغ وكتلته النيابية في البرلمان المحلي. وكان مرشحاً لأن يتولى منصباً وزارياً لو قرر الحزب الاشتراكي الحاكم فيها التعاون مع حزبه بدلاً من الحزب الديموقراطي المسيحي. ولنجاحات حزب الاشتراكية الديموقراطية اسباب عدة. صحيح انه يستفيد حالياً، مثل الحزب الديموقراطي المسيحي من الضعف الذي يعتري الحزب الاشتراكي الديموقراطي، الا ان اوسكار نيدرماير، الباحث في الاحزاب السياسية، يرى ان مسألة العدالة الاجتماعية التي يركز عليها الحزب تجذب العديد من ناخبي الحزب الاشتراكي الديموقراطي وحزب اتحاد التسعين - الخضر. وليس هذا فقط، فالحزب تمكن في الانتخابات النيابية العامة الخريف الماضي من توسيع دائرة ناخبيه متجاوزاً قاعدته التقليدية التي كانت تعتمد على الشيوعيين السابقين، على الرغم من ان الحزب الاشتراكي الديموقراطي حقق نجاحات انتخابية باهرة حينها وهزم الحزب الديموقراطي المسيحي. وكان الاعتقاد ان الاكثرية الساحقة لناخبيه يتجاوزون سن الخمسين، لكن الانتخابات العامة والانتخابات الاوروبية اثبتت انه جذب الكثير من اصوات الشباب ومن بينهم من كان ينتخب للمرة الاولى. واضافة الى نجاحات الحزب في شرق البلاد على مدى السنين الماضية، ما جعل المراقبين يطلقون عليه اسم "الحزب المناطقي" كما هو الامر مع الحزب الاجتماعي المسيحي في ولاية بافاريا، فانه حقق لأول مرة ما يشبه "الاختراق للغرب" على حد تعبير بيسكي نفسه. ذاك انه تمكن للمرة الاولى من ايصال 33 مرشحاً عنه الى عدد من المجالس البلدية في الانتخابات التي حصلت الاحد ما قبل الماضي في شمال رينانيا ووستفاليا وأسفرت عن هزيمة الاشتراكي الديموقراطي الذي كان يفوز فيها تقليدياً. وفي بعض المدن المهمة كدويسبورغ لم يحصل الا على 4.2 في المئة. لكن للنجاح هذا ثمنا يمكن ان يصبح غالياً في شرق البلاد خلال الفترة المقبلة. اذ ان ضعف الحزب الاشتراكي الديموقراطي وتراجع شعبيته بشكل مخيف حالياً سوف يعنيان عملياً تبدد الآمال التي كان حزب الاشتراكية الديموقراطية يعلقها على قيام تحالف معه لتشكيل حكومات مشتركة. فقد تبددت هذه الآمال في ولاية تورينغن بعد ان أدت خسائر الحزب الاشتراكي الى حصول الحزب الديموقراطي المسيحي على اغلبية الاصوات المطلقة وقدرته على تشكيل الحكومة لوحده. كما ان النجاحات وامكانات المشاركة في الحكم وتحمل المسؤولية كما في مكلنبورغ - فوربومرن بدأت تضغط الآن بشدة على قيادة الحزب لطرح مطالب واقعية في برامجها الانتخابية، خاصة وان في داخل الحزب من يرفع صوته الآن منتقداً وداعياً الى التخلي عن مجموعة من المطالب الاجتماعية التي تدغدغ مشاعر المواطنين لكن احداً لا يستطيع تحقيقها. ثم على الحزب ان يقدم في الانتخابات العامة المقبلة عام 2002 برنامجاً واقعياً في تفاصيله، يقنع الناخبين بأنه حزب اشتراكي يقف بواقعية على يسار الحزب الاشتراكي الديموقراطي كما شدد على ذلك بيسكي نفسه مؤخراً.