تستبد الحيرة في هذا العصر بشعوب العرب، كما تستبد بأصحاب الرأي فيها، فتظهر الغالبية وكأنها لم تحسم بعد خياراتها ولم تقرر لها موقفاً من كثير من القضايا التي تواجهها. لذلك يبدو المتصوف عندنا منشغلاً بعطايا الدنيا، والاديب مهموماً بالسياسة، والحاكم جريئاً على امور الفكر، والجغرافي يفتي في مجال الدين، والممثل داعية للأخلاق، والمطربة خبيرة بقضايا الاسرة، اما الاقتصاد فلم يتخلف الا القليلون منا عن خوض غماره، بل والتأليف فيه. جعل هذا الخلط ساحة النشاط بيننا تعج بذوي الجرأة على الانغماس في ما هم غير مؤهلين للاقتراب منه، ولعل هذا من بين الأسباب التي تجعلنا حيارى ازاء خياراتنا في الحياة بل وازاء خياراتنا للآخرة. فالمعرفة التي يهدي اليها عقل عصري هي وحدها التي تحدد مواقف ورؤية المواطن والمفكر والسياسي من القضايا التي تواجهه وتمكنه من الحسم حتى ولو كانت نتيجة الحسم سلبية. وعليه فقد أدت بنا حيرتنا الى الحركة في فراغ والطفو على مياه العصر بقوارب قديمة لها مجاذيف ولكن من دون دفة، فصرنا نجذّف في كل اتجاه ونتصايح من دون ان يستمع بعضنا الى بعض، حتى غدا الصوت عندنا بديلاً عن الفعل. ولأن أوساطنا ملأى بالمشاكل الموروثة والجديدة والمتجددة، ولأننا نشهد عالم المتقدمين من حولنا وهو يضج بالحيوية والتطور، ولأننا لا نستطيع الاعتراف بالتخلف ولا نرغب في التخلي عن المفاخرة بالتاريخ، فقد عزّ علينا ان لا ندّعي قدرتنا على المساهمة في إثراء حضارة العصر، وبل وقدرتنا على تصحيح مسارها وإنقاذها من الهلاك الذي نعتقد انها سائرة اليه. يرى البعض منا اننا اصحاب رسالة نهدي بها حضارة العصر، بل ونتحكم فيها ان استطعنا. ويرى آخرون اننا الأوصياء عليها، أليست هي الحضارة التي قامت على أنقاض حضاراتنا الغابرة؟. ويذهب فريق الى حدود الدعوة الى تقويض تلك المدنية المادية المزيفة، فيما يبقى فريق آخر يتصرف على انه مدعو الى تنوير الغرب المتعصب وترويضه حتى نسود نحن وينصاع الآخرون. بعضنا هكذا وبعضنا كذلك، لكن جملتنا منشغلة وبحماس بالخوض في شؤون العالم وشؤون حضارة الغرب، لكنها تدلف الى حلباته وليس في جعبتها سوى ادوات قديمة لا تصلح للاستعمال في هذا العصر، فيبدو كمن يتقدم للسفر في سفينة فضاء بالجبة والقفطان، أو كمن يريد الاشتراك في سباق للسيارات على صهوة أتان. تستبد بنا الشهية للمشاركة في شؤون العصر وشؤون حضارته، ليس من باب الإحساس بالتخلف والرغبة في أن نتعلم، بل من منطلق الادعاء بأننا الاقدم والاقدر. ولذلك نرفض الجلوس في مقاعد التلاميذ ولا نبذل الجهد المطلوب لكسب ما يؤهل للوصول الى منصات المعلمين. اننا نصر على عدم اقتناء ادوات جديدة للمشاركة في حضارة العصر وتقبض أيدينا بشدة على جعبة الادوات البالية ولذلك يتعالى ضجيج مطاحننا ولا طحين. نحن نرى على شاشات تلفزيوناتنا أساتذة أجلاء يتحدثون عن السحر وعن قدرة السحر على الفعل، ونحن نقرأ في صحف وكتب عن انتقادات مُرّة لمنجزات الحضارة الغربية التي تغرقنا والتي نستهلكها ثم نتعامل معها بأفكار قديمة لم تتجاوز عصر الخيل والجمال ونحن نقرأ ونسمع عن تخويف من غزو فكري يديره العرب عبر اوراق اخرجتها مطابع صنعت في الغرب وحبر مستورد من الغرب وعبر اذاعات وتلفزيونات هي من اختراع الغرب، كما نستمع الى صيحات التحذير من عواصف العولمة حتى نحافظ على مقتنيات وافكار جاءتنا من الغرب. اننا لا نفكر في اكتساب ادوات عصرية وهي العلم والديموقراطية، حتى تشد ايدينا على مفاتيح تصلح لاقتحام العصر والمشاركة في شؤونه. فنحن سواء كانت أهدافنا صحيحة ام خاطئة لا نلجأ لإنجازها الا لأدواتنا البالية فمن منا لم يقعد بانتظار العصا السحرية التي يحل بها مشكلة من مشاكله او من مشاكلنا. ألفنا الاحتفاظ بالأدوات القديمة للمشاركة في أي شيء يخص هذا العصر فقد سارعنا عندما طرأت علينا فكرة الديموقراطية الى التعامل معها بأدوات الطاعة وولي الامر والزعيم وبادرنا عندما لوح الآخرون لنا بحقوق الانسان الى استخراج ادوات قديمة لحماية حقوق الانسان، فلم نقترب من الديموقراطية ولم نصن حقوق الانسان، وعندما اتسعت سيادة الاقتصاد الحر قمنا بنقل احتكار المرافق من الموظفين الى الخواص. كذلك قررنا عندما قيل لنا عن ضرورة إصلاح برامج التعليم ان نزيد من حصص العقيدة والاناشيد، وعندما رأينا اوروبا تسير نحو الاتحاد جرى بعضنا الى اقتحام حدود البعض. إن استخدامنا لأدوات بالية في التعامل مع حضارة العصر والمشاركة في شؤونه هو ما يجعل تناولنا لظواهر مثل الديموقراطية والتوحد والحداثة والعولمة وتدفق المعلومات تناولاً سطحياً يضر ولا يفيد ذلك اننا نستخدم ازاءها ادوات فكرية قديمة وموقفاً عقلياً عفى عليه الزمن، ومن ثم ننتهي الى اتخاذ مواقف خاطئة منها. ونحن لا بد لنا من امتلاك ادوات فكرية عصرية بمناهج عصرية اذا ما رغبنا حقا في ان تصبح جزءاً من حضارة العصر ونقدر على المشاركة في شؤونه، اما محاولة فتح باب له قفل بأرقام الكترونية بواسطة مفتاح الذكر القديم فهي ليست سوى تعبير عن الرغبة في الوقوف امام الابواب. ان جمعية ادواتنا لا تحوي غير ادوار قديمة ونحن لا نزال مصريين على انها تنفع في تعاملنا مع شؤون العصر، ولعل هذا الاصرار هو ما يجعلنا نتمنى عندما نفكر في سيادة العدالة بيننا ان نعثر على حاكم صالح جديد بدلاً من التفكير في نظام يوفر لنا فرصة الاختيار، وهو الإصرار الذي يدفع بنا كلما خطر على بالنا ازدهار الاقتصاد الى التغني بالوحدة العربية وكأنها اداة سحرية لتحقيق الازدهار. ان فينا من يرى ان التمسك بالعقيدة سوف يكون وحده كفيلاً بالمشاركة في تقدم العصر، بل والتفوق عليه، فيرون في الدين مصدراً وحيداً للمعرفة، وبيننا من يرى في اللغة اداة لتحقيق الازدهار والإمساك بعنان حضارة هذا الزمان وباستخدام اداة اللغة يستعيدون لنا مركز الصدارة بإعادة انتاج شكسبير الى "الشيخ الزبير" وإرجاع فضل اكتشاف اميركا من أمريكوفيسبوتشي الى أمير عربي اسمه الاميركا. ان لنا ثروة من الافكار القديمة غير العصرية ومن المناهج البالية، وهي ادوات لا تصلح للمشاكة في شؤون العصر ولا للتعامل مع حضارته، ما جعلنا نبدو وكأننا نشترك في سباق للقوارب النفّاثة ونحن جالسون في زوارق بالمجاديف مجدّفين في اتجاهات متعاكسة. ومن سوء الحظ ان وفرت لنا حضارة الغرب من المنجزات ما ساعدنا على تكريس ادواتنا الفكرية القديمة ومناهجنا البالية ومكّن لنا فرص إبقائها على قيد الحياة وتبادلها ونشرها بيننا على اوسع نطاق. لقد ساعدت المطابع من يوم ان عرفناها في نشر الخرافة، وساهمت اذاعات وتلفزيونات في تكريس رؤية غبية لحقائق الحياة، ناهيك عما تفعله الحاسبات الآلية وشبكة الانترنت من تسهيل لتبادل الادوات القديمة والمفاتيح الحديد التي لا تصلح لفتح اقفال الارقام الالكترونية. ان على من يريد اقتحام حضارة العصر والمشاركة في شؤون العصر ان يفرغ جعبته من ادواته الفكرية البالية في احد متاحف التاريخ ثم يسعى الى امتلاك أدوات عصرية هي العقل النقدي المتجدد والمنهج الواقعي الذي يعتمد التجربة والخطأ. وعلى الذين يرغبون في اللحاق بركب العصر أن يعترفوا لأنفسهم بالقصور ويخلعوا عن مناكبهم عباءات الاساتذة ثم يجلسوا للحصول على الادوات التي تناسب العصر في مقاعد التلاميذ. * كاتب، رئيس وزراء ليبي سابق.