رأى كثيرون من المحللين السياسيين ان الانتخابات المحلية النروجية تقدم صورة ادق من الانتخابات العامة لعملية التغير العميق التي يمر بها المجتمع النروجي منذ عدة سنوات. فاذا كان البرلمان - على اهميته - مجرد مجلس واحد يضم 165 نائباً يمثلون بضعة احزاب، فان مجالس الحكومات والمحافظات تتألف من 435 مجلساً، تضم اكثر من الف وخمسمائة نائب وممثل عن عدد من الاحزاب يفوق تلك التي تستطيع دخول البرلمان، فضلاً عن ان هذه المجالس المحلية هي التي تدير بشكل مباشر تنظيمات المجتمع المدني والانتاج والادارة، وتشرف على السياسة اليومية ووضع المشروعات والخطط في كافة المجالات. وعلى اي حال، فقد عززت النتائج التي اظهرتها انتخابات الاثنين الماضي، المعطيات التي كشفت عنها الانتخابات البرلمانية التي جرت في ايلول سبتمبر 1997، واضافت اليها بعض التعديلات والمؤشرات التي تغطي فارق الزمن. اكبر الخاسرين في هذه الانتخابات، كان الحزب الاشتراكي العمال الذي حكم البلاد بصورة شبه منفردة منذ بداية القرن العشرين حتى 1997 باستثناء دورات جد قليلة. فاذا كان هذا الجزء التاريخي قد تراجع في الانتخابات العامة قبل عامين من 37 الى 35 في المئة، فانه تراجع في الانتخابات المحلية الى ما دون الثلاثين 7.28، وهي اقل نسبة له في اي انتخابات عامة او محلية منذ عشرينات القرن الحالي. وهذا الامر يكشف عمق الازمة التي يعيشها الحزب، وانحسار التأييد الشعبي له الى نسبة جد متدنية مقارنة باحزاب جديدة ظهرت على السطح في الاعوام القليلة الماضية. ومعظم هذه الاحزاب ذو اتجاهات ليبرالية ويمينية، مثل حزب التقدم اليميني المتطرف الذي فاز في انتخابات 1997 العامة ب17 في المئة، وتراجعت هذه النسبة الى 12 في الانتخابات المحلية الحالية. وقد اعلن زعيم الحزب الاشتراكي ورئيس الوزراء السابق ثوربيون ياغلاند على الفور انه سيقدم استقالته من سكرتارية الحزب، وقال "انني اعترف بمسؤوليتي عن الفشل في تغيير مجرى الرياح الانتخابية لصالح الحزب". كذلك رفض ان يحدد سبباً معيناً للهزيمة، واضاف ان ما جرى يتطلب دراسة معمقة. ورأى مراقبون كثر ان الكارثة التي حلت باليسار ستكون مقدمة لتغييرات جذرية وشاملة في بنية الحزب وفي توجهاته السياسية. واكدت غالبية المحللين ان الخسارة نتيجة طبيعية لفقدان الحزب هويته واخفاقه في تحديد هوية ايديولوجية جديدة تستجيب للتغيرات التي شهدها العالم بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وتألق الليبرالية وما بعد الليبرالية. وتأرجح الحزب بين الخط السلفي السابق من ناحية، ومحاولاته الا نفتاح على الحداثة من ناحية ثانية. ولم يفت المراقبين تسجيل عدم وضوح مواقف الحزب في كثير من الخيارات الاساسية بالنسبة الى المستقبل، وفي مقدمها، الانتماء الى الاتحاد الاوروبي. وقد ضاعف من تأثير مجموع العوامل السابقة كون زعيم الحزب ياغلاند اشتراكياً تقليدياً متشدداً، لم يستطع مجاراة التطورات. وقد تعرض لحملة انتقادات لاذعة قبيل حملة الانتخابات الاخيرة من داخل الحزب قبل خارجه. اما اكبر الفائزين فكان حزب المحافظين يمين الوسط الذي شكّل دائماً اكبر قوة معارضة في البرلمان، لكنه مني بهزيمة فادحة في انتخابات 1997 العامة اطاحت به خارج الحكومة اليمينية الائتلافية الحالية، وخارج المعارضة، في آن واحد. وانكفأ على نفسه ليعالج ازماته الداخلية، الفكرية والسياسية. اذ ان التطورات العالمية والاوروبية تحديداً اثرت عليه سلباً كما اثرت على منافسه الاشتراكي التقليدي. وقد اضطر حزب المحافظين الى مراجعة مبادئه ومواقفه حيال عدد من اهم المسائل، لكن فوزه الكبير في هذه الانتخابات وحصوله على 4.21 في المئة من الاصوات يشيران الى نجاحه حيث اخفق الآخر، مبرهنين على قدرته على التكيف والتلاؤم مع التطورات والتحولات بسرعة اكبر. واذا ما حافظ هذا الحزب على تقدمه الراهن في الانتخابات العامة القادمة، فان تشكيل الحكومة برئاسته سيكون احتمالاً مؤكداً. وقد بادر رئيس ائتلاف الاحزاب الصغيرة الحاكم حالياً شييل ماغني بوندفيك الى التلميح فوراً الى هذا الاتجاه، وقال "ان الحكومة في منطقة خطرة الآن". وهو يعني انه اذا ما فشلت الاحزاب التي يتزعم ائتلافها في تحسين مواقعها على حساب المحافظين بالذات في الانتخابات القادمة، فعليها ان تقدم القيادة لهم. ويعد هذا التصريح نتيجة طبيعية لكون حزب رئيس الحكومة الديموقراطي المسيحي تراجع من 8.10 في المئة في انتخابات 1997 الى 4.9 في الانتخابات الحالية. وتراجع حليف حزب الوسط من 9.8 في المئة عام 1997 الى 3.8 اخيراً، وكذلك تراجع الشريك الثالث في الحكومة، الحزب الليبرالي، من 4.5 الى 3.4 في المئة. والارجح ان الاحزاب النروجية كافة، الكبيرة والصغيرة، اليسارية والليبرالية، ابتهجت لتراجع حزب التقدم اليميني المتطرف الذي قفز عام 1997 الى حوالي 17 في المئة، حيث لم يحصل هذه المرة الا على 12 في المئة. ومن الآن وحتى الانتخابات العامة القادمة، ستحاول جميع هذه الاحزاب التنافس لتعزيز مكاسبها او تعويض خسائرها، خصوصاً وان ثمة "منطقة غامضة" قياساً على المنطقة الخطرة التي تحدث عنها رئيس الوزراء، مردّها الى هبوط حاد في نسبة المشاركين في التصويت والتي لم تزد عن 60 في المئة، وهي نسبة ضئيلة مقارنة بالنسب السابقة. اما اهم الموضوعات والقضايا التي يتعين على الاحزاب كافة اتخاذ مواقف منها بشكل واضح، فمسائل الخيار الاوروبي، والتعددية الثقافية والاثنية ونتائجها التي فرزتها الهجرة الملونة الكثيفة الى النروج التي كانت حتى الآن وادعة ومنعزلة. لقد شكلت هاتان القضيتان اهم ما يشغل المجتمع النروجي في السنوات الاخيرة وستظلان كذلك لاعوام قادمة.