عرفت دمشق بأنها مدرسة لكثير من الفنون الشرقية، بل ان هناك الكثير من الفنون والاعمال تعرف ب"الدمشقية" للتأكيد على اصالتها وعراقتها الفنية ومنها الخط العربي والزخرفة وتقطيع الرخام والفسيفساء والحفر على الخشب. وتعلل الكتب والمراجع سر "هوس" الفنان الدمشقي بالحفر والزخرفة بأنه بعد انتهاء الاعمال الفنية لزخرفة الجامع الأموي في دمشق انقسم منفذو تلك الزخارف الى زمر عدة وجرى استخدام كل زمرة لتزيين قصور الأمراء والمسؤولين وبيوتهم وسط تنافس بين هذه المجموعات على الابداع والاتقان والمبالغة في الدقة ما ترك لنا تراثاً فريداً من هذه الروائع لا يزال محتفظاً ببهائه ورونقه عبر تعاقب السنين. وفي شكل عام فقد برع الفنان الدمشقي في ابتكار الاشكال والزخارف والنقوش في رسومه واستخدامها بمهارة فائقة في العمارة و التزينات الداخلية داخل البيوت الدمشقية كاستخدام الرسوم النباتية والاشكال الهندسية والخط العربي بأشكال مبتكرة في غاية الذوق والدقة، واستخدمت هذه في تزيين سقوف وجدران الغرف لتتحول القاعات الى قصور من ألف ليلة وليلة مليئة بكنوز من النقوش النباتية والزخارف الهندسية والخط العربي البارز بألوان رائعة مشرقة تتمازج معها عناقيد المقرنصات الجدارية البارزة. ويصنع جميع هذه الفنون بمواد محلية من خشب وحجر ورخام. وكان الحرفي ينفذ كل هذا الاعجاز الباهر في العمل الفني بواسطة ادوات بدائية في التقطيع والحفّ. وفي متاحف العالم اليوم غرف دمشقية كاملة تبقى شاهدة على أهمية هذه الصناعة الفنية مثل قاعة دمشق في متحف "متروبوليتان" وقاعة "المكتبة" التابعة لجامعة نيويورك، فيما تبقى "القاعة الشامية" و"البيت الشامي" في دمشق التابعتان ل"المديرية العامة للآثار والمتاحف" من أدق وأروع الأمثلة على سحر هذه الصناعات. ويشكل هذا الفن احد نقاط الجذب للسياح والزائرين، ذلك ان دمشق تكشف عن سحرها امامهم في كل نقطة يتجمع حولها هؤلاء من المطار حيث صممت قاعات الاستقبال على طراز "القاعة الدمشقية" وفي المطاعم الفخمة، وانتهاءً بالأسواق التقليدية حيث يتجمع السياح حول الحرفيين. ويتألف فن الزخرفة الإسلامي من ثلاثة عناصر: الخط والمنحنيات والخط العربي وتندمج هذه العناصر بمختلف اشكالها في بعض الأعمال لتعطي فناً غزيراً. يقول أحد الحرفيين "يصنع الخط العربي من الخشب باشكال هندسية متداخلة ومتناظرة متتالية بحيث تشكل سلسلة لا تنتهي من الأشكال الهندسية الخماسية والسداسية والثمانية ومضاعفاتها تتشابك جميعاً لتشكل لوحات فنية رائعة تصنع منها النوافذ او القواطع او الطاولات وتكون مادتها خشب الجوز البلدي وخشب الليمون". ويضيف أما "الخط العربي فدخل فن زخرفة بمختلف أنواعه الكوفي والديواني والفرسي مشكلاً اصنافاً من الفن الزخرفي يتفرد بها في العالم اجمع فهو اضافة الى الشكل الجميل يحمل مضموناً سامياً بما يحتويه من آيات قرآنية واقوال مأثورة او شعر وامثال تنفذ بزخارف نباتية رائعة". ويعتبر "المربع" أساس الفن العربي وكانت مشتقاته البسيطة استعملت منذ ظهور الفنون الاسلامية رغم ان جذورها تمتد الى ما قبل الاسلام لكنها تطورت بزخرفتها وتشكيلاتها مع تطور هذا الفن وتقدمه. يذكر انه في نهاية الألف الاول الميلادي بدأت الزخرفة تظهر على الجدران و المآذن بشرفاتها الحجرية ولم تدخل هذه الزخارف الى داخل المنازل الا مع بداية عام 1150 ميلادي عندما بدأت تظهر على المصنوعات الخشبية والحجر والرخام. لم يكن الدمشقي يميز بين الصانع وبين ما يسمى اليوم الفنان، فالتصوير مثلاً كان صنعة ولا يزال، والصناع جميعاً هم مبدعون في اعمالهم و التراث الفني الدمشقي هو من ابداع أولئك الصناع المهرة الذين اصبحت لهم امتيازاتهم اليوم بعدما ظهرت الآلة وحلت محل الصانع في الكثير من الانتاجات الصناعية وأصبح ما انتجه الصانع سابقاً اثراً فنياً خالداً. يقول احد المهنيين: "نعمل وفي ذهننا ان تدوم القطعة التي نصنعها لمئات السنين يرثها احفادنا كما ورثنا نحن عن اجدادنا هذه التحف الرائعة التي بين ايدينا اليوم". وبينما يتهم فريق من الفنانين والمهنيين العمل الفني الجديد باستخدام الآلة "بالغش وبقصر عمره الزمني وبخروجه عن مبادئ وقواعد هذا الفن"، يدافع الفريق الآخر عن هذه الاعمال الفنية "بأنها متطورة ومنسجمة مع روح العصر ومتطلباته". وعن استخدام الآلة التي اعطت الفنان دقة متناهية في عمله وأشكالاً بالغة التعقيد مع اختصار الزمن اللازم للتنفيذ ولتوضيح وجهتي نظر الفريقين يقول المهندس عمر "في الماضي لم يكن ثمة فرق بين الصانع والفنان فاغلب الصناع مبدعون كل في مجال حرفته وما الانتاج و التراث الذي نراه اليوم الا من ابداع هؤلاء الحرفيين المهرة، إلا أن اشكالية توارث المهنة قديما تكمن في الية انتقال الصنعة من جيل الى آخر فهذه الآلية أدت عبر الزمن الى فقدان الكثير من اسرار الصنعة فلا يصل منها الى الاجيال المتأخرة إلا النزر اليسير". ولم ينقل المبتكرون الأوائل الذين ابدعوا الاشكال المتوارثة المعروفة اليوم كل أسرار صنعتهم الى الجيل الذي جاء بعدهم، لا سيما اذا كان هناك افراد من خارج العائلة، كما ان الذي اخذه هذا الجيل لم ينقله كله للجيل اللاحق وهكذا حتى وصل الامر الى مجرد تقليد حرفي للأشكال الأولى من دون أي اضافة او حتى مجرد تغيير بالأحجام أو محاولة استخلاص اشكال جديدة عبر مزاوجة الاشكال القديمة، بل ان المقلدين لم يتمكنوا حتى من تقليد النموذج الاصلي بالدرجة نفسها من الدقة والاتقان. ويقول أحد المجددين مبرراً خروجه عن التقليد: "ما مكنني من التجرؤ للخروج على النمط التقليدي السائد الذي يشبه "الختم" دون أي اضافة او تعديل على القديم المتوارث هو دراستي للهندسة المعمارية وشغفي بهذه الحرفة اضافة الى ممارستي لها ميدانياً مع اصحاب الحرف في ورشاتهم"، لافتاً الى ان ما يميزه عن "المعلميين" التقليديين هو "ان هؤلاء تغيب عنهم تماماً فكرة التصاميم ويعتمدون على النقل فقط فلا يستطيعون بالتالي تنفيذ الاعمال الكبيرة او الاعمال المتداخلة التي تحتاج الى تصميم مسبق اضافة الى ان المزاوجة لدينا لا تقتصر على انواع الفن الواحد فنحن نستطيع المزاوجة بين أنواع مختلفة مثل الزخرفة على الخشب وفن النحاسيات والزجاج المعشق وطبعاً في شكل علمي مدروس وليس اعتباطاً. المهم هنا هو توحيد الوسيلة والرؤية الفنية بحيث لا تبدو نشازاً، مثل المزاوجة مثلاً بين الأقواس الأندلسية والأيوبية والأربيسك المصري والحشوات الرومانية والزخارف النباتية وكل ذلك بطريقة أموية شامية". ويماشي فن الزخرفة اذواق الناس وتغيرها، يقول احد الحرفيين: "يتغير هذا الفن بتغير الأزمان فخلال العصور الأموية والعباسية كان الناس يميلون الى الهدوء والمحافظة فجاءت ألوانهم أقرب الى الداكنة بينما يفضل الناس اليوم الألوان الزاهية". ويضيف: "المهم هو مراعاة اذواق الناس بما ينسجم مع الرؤية الفنية للصانع ويتوافق مع العناصر الفنية لكل عمل".