يبدو الكل هذه الأيام في حال ترقب وانتظار: السلطة في العراق ومن يعاديها في الداخل والخارج، أنصارها وحراسها، ثم الناس، أكثر الناس في العراق الذين يعيشون الوقت الحرج على نحو لا يمكن ان يدركه الا من مرت عليه حربان وحصار طويل الأمد. كل هذا الجمع يترقب التغيير، ولكن كيف ومتى، تلك هي الأسئلة المعلقة الى أجل غير مسمى. من يخرج من العراق يؤكد أمراً مهماً، وهو ضعف السلطة وتفكك آلياتها، وهذا ما نجح ان يفعله الحصار الاقتصادي، وهو يدلل على ان الأموال كانت السلاح الماضي الذي استطاع عبره صدام ورهطه الاحتفاظ بقوتهم داخلياً وعربياً ودولياً. بيد ان هذا الوقت الحاسم والدقيق للترقب، له وجهه الآخر، وجه المجاعة التي تعصف بالعراقيين، وجه هو في الحقيقة، موت يومي داخل المستشفيات والبيوت وعلى الأرصفة، وموت معنوي للقيم والاخلاق التي تعاون القمع والجوع في الاجهاز على بعض من دعائمها. ويبدو سوء فهم العالم الغربي والعربي للوضع الحقيقي في العراق، أحد أسباب تلك الخيبة في ايجاد حل حاسم وحازم لقضية العراق، في حين ترى الجهتان المقررتان في الصراع: النظام واميركا ان الانتظار اللعبة الأنسب لربح الجولة. فإن نجح النظام في ان يجعل المجاعة أحد أسباب التأييد انسانياً للعراق ككل، الزعامة والناس معاً، فهو بالبداهة نجح في ان يحجب مطلباً عاجلاً بإزالته، لسبب بسيط وهو ان قرار إزالة هذا النظام في كواليس الغرب واميركا أتى متأخراً، وان آلية تطبيقه خضعت وتخضع الى تقديرات لا تأخذ في الاعتبار قيمة الوقت ولا مصلحة الناس في العراق. التعنت المطلق الذي يبديه النظام العراقي في ان يبقى يحكم بالطريقة ذاتها التي حكم فيها وهو يملك قوته وجبروته، يشبه تعنت أميركا بأن تفهم التغيير في العراق على انه ترتيب لبيتها في الشرق الأوسط. فأميركا تبدو أعقل واكثر تفهماً لمشاكل ايران وغيرها من المناطق، لكنها تتعامل بعقلية المنتصر فيما يخص العراق. المؤكد ان "عاصفة الصحراء" منحتها ثقة بنفسها الى حد الإبقاء على صدام حسين وإهمال عواقب ذلك الترقب الطويل الذي يموت فيه شعب من الجوع والشعور بالخذلان والكمد من حكومته ومن مواقف العالم اجمع. العراق بحاجة الى من يضمد جراحه، وهو يدرك ان مشكلته لم تعد قضية داخلية، اذ اصبحت شاغل الاطراف القوية في الشرق الأوسط والعالم، ولكل واحد من تلك الأطراف مصالحه وأسبابه الخاصة ومفاهيمه، ولا نحسب انها تختلف من حيث الجوهر، ولكن أمر المساعدة على اختصار معاناة الناس في العراق لم ولن تكون في أولويات تلك المصالح، الذي يجري في العراق أشد وطأة من الحرب، انه رعب انتظار الخاتمة، في حين يمضي البلد الى الانهيار. ومع ان التعب أخذ من الناس مأخذاً، إلا ان العراقيين لم يكفوا عن اعلان عصياناتهم واحتجاجاتهم على السلطة، ولكنها احتجاجات المحبط الذي بلغ به اليأس حد المغامرة الانتحارية، تلك الحوادث لم تتحول الى ثورة أو انتفاضة شاملة، بيد ان سعة المشاركة فيها واختلاف الفئات والمناطق المشاركة يدللان على ان التغيير احد المطالب التي يتوحد خلفها الكثير من المتضررين من استمرار النظام في العراق، حتى اولئك الذين كانوا بالأمس القريب من الموالين له. ولا يعني هذا الأمر ان التغيير حتمي في العراق، فالنظام لن يسلم بسهولة، واجهزته تتبع خطط الترهيب الاعلامي، وسياسة الترويع اليومي لكبح أي تحرك، غير ان لهذه السياسة حدها الذي يصل الى نقطة معينة لن يستطيع بعدها إلا الانفلات. النظام العراقي لا يريد ان يسلم بحقيقة ضعفه، لكي يستطيع على الأقل، التعامل مع هذا الضعف على نحو براغماتي، وفي حال العراق ليس المهم ان يقتل صدام حسين وأفراد حاشيته، بل المهم ان ينجو العراق من الكارثة التي سببها هذا الرجل. وهذه النجاة حتى لو جرت من طريق مفاوضته لن يخسر الناس منها شيئاً. رأس النظام الآن يبحث عن حلول مع اميركا لأن الشعب ومصيره ليس من اهتماماته، واميركا ترفض كل عروضه، في وقت تستطيع ان ترجح ضمن تلك العروض أوراقها الرابحة، وهي تملك منها الكثير. وان كان هدفها انقاذ العراقيين فلتجنبهم أقل الخسائر بعد الكثير الذي خسروه، التفاوض مع العراق الرسمي باشتراطات واضحة لا تقبل اللبس، أهم من الجمود القاتل الذي تمر به القضية العراقية. بيد ن تصور اميركا لطبيعة الاجراءات بصدد العراق تبدو على درجة من الغرابة، فهناك ضرب من الاستعراض في سياسة التلويح بقلب النظام العراقي، وخلال فترات متلاحقة عقدت مراكز الدراسات الاستراتيجية الاميركية مؤتمرات عن مستقبل العراق كانت تتضمن خططاً عن كيفية تسيير هذا البلد في مرحلة ما بعد صدام حسين، وتلك الاجراءات تظهر واشنطن كمن يضع العربة قبل الحصان، وفي الآن ذاته تبدو على عجلة من أمرها. ان سياسة الشد والتراخي في المسألة العراقية ليست لصالح الوقت الحرج الذي يمر به الناس في ظل الحصار. ومن عبث التصور وقلة المعرفة بطبيعة الامور، تخيل اسقاط أو تغيير طبيعة النظام من دون اميركا، بعدان قطعت القضية العراقية شوطها الطويل في ظل وضع دولت فيه، حالها حال قضية البلقان والقضية الفلسطينية. ولكن الإقرار بهذا الواقع لا يعني التعامل معه من موقع التسليم بالدور الاميركي وحده في التغيير المنتظر، وفي وقت لا يعني خلق بؤر التصادم بين القرار الاميركي والمعارضة. ولا أحد يستطيع ان يزايد على المعارضين العراقيين في البحث عن حل لكارثة بلدهم مع اميركا وغيرها من الدول المعنية بالقضية العراقية عربية كانت أم اجنبية، على ان تقوم تلك المباحثات على أسس تخدم مصلحة العراق لا المعارضين أنفسهم. كان أمام واشنطن مجموعة من الاختبارات لمعاينة خصوم الحكومة من العراقيين ذاتهم، فوجدت نفسها في حال تنافر مع المعارضة الجذرية والقديمة للنظام العراقي من الشيوعيين والاسلاميين، وكان بعض رجال الاعمال والمنشقين عن النظام من البعثيين والعسكريين اكثر تماهياً مع المشروع الاميركي، الأمر الذي طرح امكان التشاور العملي القائم على تحاور صراعي يقرب الاميركان من حقيقة القوى والأوضاع في العراق. ولعل الطريقة الاميركية في التعاون مع المعارضة على أساس الهبات المالية التي توزعها على مواليها، أربك الاجواء بين الفصائل المختلفة، فبدأ الحصول على المال مقابل النضال الذي يتسم في الأساس بطابعه السلمي، نشط امكانات التعامل مع القضية العراقية باعتبارها مسلسل صفقات وعروضاً تجارية مربحة، وهو المبدأ الصدامي ذاته في كسب الموالين له. الأمر الذي أدى الى حرف الجدل المفترض بين الأطراف المعارضة في الخارج وترجيح كفة بعضها على البعض الآخر. ان سياسة الأمر الواقع التي تفرضها أميركا على المعارضة العراقية، عززت ثقة بعض الاطراف بنفسها كبدائل حتمية للنظام يتصرفون على هذا الاساس في كل عمل يقومون به. تلك المعمعة التي اختلط فيها الحابل بالنابل، جعلت احتمال انقسام المعارضة على بعضها من الامور المرجحة. فالأقوياء مالياً يستقطبون بسهولة من تعود على السياسة العراقية الرسمية ويبقوه على التصور القديم نفسه عن مبدأ الرشوة في السياسة، وهو مبدأ خطير، لعله الأصل في خراب العراق على يد صدام حسين. وهذه السياسة تمنح المتعاملين مع اميركا، الثقة بالانفراد بمركز القرار ومن لا يقبل من الفئات الاخرى فله ان يشرب البحر! ووصلت الجرأة ببعضهم حد تأليف اتحاد للكتاب العراقيين اكثر منتسبيه من الهامشيين في الحياة الثقافية العراقية جرياً على عادة عدي صدام حسين في فرض شبابه حتى على اتحاد سلطة أبيه. هذا الاتحاد الجديد هو اعادة انتاج المثقف التابع الى السياسي، بعد ان حاول ويحاول الكتاب الذين خرجوا من العراق مبكراً ان يعمدوا الى تهشيم هذا المبدأ، ان لم يتمكنوا من عكسه، كما الحال في بلدان العالم المتقدمة. الصراع بين سلطة مثل سلطة صدام يقتضي من المعارضين أفعالاً تقف على الضد من ممارسات هذه السلطة، فكيف لنا ان نصدق ان اميركا جادة في بناء مستقبل الديموقراطية في العراق. ويبقى الحصار الاقتصادي، القضية التي لا يمكن تجاهلها بأي حال من الاحوال. ولا قيمة لأي مطلب معارض، مهما كانت حسن نواياه، من دون ان يدرك ان كارثة الحصار ينبغي ان تتوقف لكي يلتقط الناس أنفاسهم، فالحصار أضحى سيف النظام القاطع أو الورقة الأخيرة لبقائه أو المراهنة على استعادة قوته عربياً ودولياً. ويطلعنا تقرير "يونيسيف" الأخير على حقائق مخيفة عن موت الاطفال وانتشار الأمراض، كما يشير الى استخدام السلطة الحصار وسيلة لابتزاز مشاعر العالم ولمعاقبة الشعب ايضاً، فليس هناك وفيات في المناطق الكردية، وسياسة النفط مقابل الغذاء لا تؤدي الى كارثة شبيهة بالكارثة في المدن العراقية الأخرى، بل ان كردستان العراق تشهد ازدهاراً وحركة مع شحة الأموال فيها، لكونها أصبحت منفذاً للتنفيس عن احتقان المناطق العراقية الواقعة تحت كماشة السلطة. في الظن ان تشتت الحلول على المستوى الغربي والعربي أضعف الانتباه الى الجانب الانساني في حسم قضية العراق، في حين تجد الدول الغربية الامكانية على الالتقاء على أمور أصعب من هذا الأمر. موت العراقيين لا ينتظر التأجيل، وليس هناك من مبرر لإبقاء الحصار والعراق الرسمي تحت كماشة اميركا في المعنى المجازي والحقيقي. ولعل من باب التعويل على عامل مهم في حسم موقع السلطة مقابل موقع الناس، ان يتم رفع الحصار عنهم، وفرض نظام رقابة صارم على تحرك النظام فيما يخص التسلح واستثمار النفط لأغراض غير المنفعة العامة. ولن يكون تشديد الحصار على أقطاب النظام ومنعهم من التحرك الديبلوماسي، وحسم محاكمة صدام وتشديد العزلة حوله، إلا أحد الحلول السريعة التي على الغرب ان يضع بديلاً لها في حال عجزه عن تحقيقها. وهذا البديل هو مفاوضة النظام لا على أمن جيرانه، فهو أضعف من ان يتحرك ضدهم، بل على حقوق العراقيين وأمنهم، لأن عنف صدام بدأ في الداخل ثم امتد الى الخارج. الحل الوطني لن يصبح سلاحاً ماضياً الا بمساعدة العالم على احداث حال انفراج نسبي يمهد تدريجياً لإجراء تغييرات حقيقية في تركيبة السلطة ونوع التعامل مع المواطنين والاهم من ذلك تحجيم آلة القمع الضاربة. فإن كانت هناك فسحة حقيقية للمجتمع الدولي لتفهم الحال العراقية والاقتراب من مشاكلها، وربط قضية رفع الحصار بالديموقراطية والتعددية وحماية الشعب من بطش النظام، فإن على هذا المجتمع ان يعمل على تقوية الموقف العراقي المعارض في الخارج بدعم استقلاله، وتوحيد جهده النزيه من اجل ان يكون بديلاً يحظى باحترام الناس في العراق ويمثل صوته المقموع بحق امام الرأي العام العالمي. * كاتبة عراقية.