ينفتح قلبها في الليل، كأنه كان ينتظر انقضاء الصخب النهاري. صخب زملاء العمل وأوامر المدير، وغسيل المواعين، والباعة الجائلين، والعين إذ تلتقط كل غضب العيون. في الليل يهدأ إيقاع دقَّات القلب، ويُعاود الحياة. تعجب منه وتُربت عليه وهي تبتسم: - ولكنك قلب غر لا ترضى بغير السعادة. تغمض عينيها وتعيش في الأحلام. أصبحت الأحلام كالمغامرة، كل يوم تحمل لغزاً أو فرحة. دنيا جديدة تدخلها، أم مطاردة. كل يوم يغلبها السؤال فتغمض عينيها استجداءً للإجابة. * أغمضتُ عيني فإذا بفتيات يقلن: - أقبلي أيتها العروس. ووجدتهن يحملنني عارية ويضعنني على شط جدول للماء رائق وطيب، تجري مياهه بين صخور كسَتها أعشابٌ، قيل: - اشربي. كان أمام الجدول جبل شاهق، وكان الماء ينزل من السماء إلى قمته، ومنها إلى نهرٍ، يتهادى حتى يعرج على جدول على يساره، ربما لأستحمَ فيه وحدي. وقيل: - خذي انصياع الماء للصخور حين تحدد مجراه. قيل: - كوني أُنساً وبهجة، الرواءَ للظمآن، العشقَ للمُريد، القلبَ للجسد، المشاعر للقلب. نزلتُ إلى الجدول، فغمرَني الماء. شعرتُ بخدر في أعضائي، كأنها الروح عادت من جديد. تحممتُ بماءِ السماء. قيل:- من يمسه ماء السماء لا يُعطي نفسه لأديم الأرض. وكُتب عليَّ الظمأ. * علَت الأصواتُ تحذرني، فيما كنتُ ألتقط الأزهار من فوق الجبل. زهرات صفراء وبنفسجية صغيرة يانعة. انتثرث على قمة الجبل تزينه. تسلقته من دون حِبال ووصلت إلى القمة. وإذ رحتُ أطوف حول الرأس المدبب الذي ظل يضيق كلما صعدتُ، حتى إنه الآن لا يتسع إلا لموضع قدم، صرخ الآمنون في السهل وعلت أصواتهم تحذرني، من موتٍ محدق. التقطت الأزهار اليانعة، ورحت أتشممها. رائحتها تحث القلب على المواجهة. تنفستُ النفَسَ الأخيرَ، وتركت ساقي تنزلق. * كنتُ عطشى وكان أمامي تمر وماء. شربتُ من الماء ولم أرتوِ. يدي تمتد إلى الصينية، المشغولة بوردات على حافتها، حيث تظهر جنزرة النحاس بلونها الأخضر الداكن. أخذت بلحةً. دفست الحبَّةَ في فمي فشعرتُ بملوحتها. ليالٍ طويلة أنظر فيها إلى السماء، فأرى سحابات كثيفة ثقيلة اللون تتعاشق وتتمدد تنادي بعضها بعضاً فتصبغ السماء بلون داكن، فيدير القمر وجهه لأنه على موعد مع أليفةٍ، تدور حول كوكب بعيد. تخفُتُ نجوم السماء، ما إن يصلها إنذارٌ بأنهم سيسرقون ثيابها، فيبين سوادُ جسدها وضموره. حفيف أوراق الشجر المتناجية يخيف عفريتاً فيفرد جناحيه محلقاً. صوت ضفدع وحيد يزعق لوليفته الراقدة وسط بركة الطين تحملق في الظلمة. كل هذا ولا أحد. *** حاولت فتحَ عينيها إذ شعرت بصخب الصباح لكنها لم تستطع. دارت الأحلام بها، ثم عاد الصخب من جديد. عاودتها الأحلام فامتزجت بها، حتى صارت هي حياتها. تحسست ساقها الوحيدة ثم غرقت في النوم.