يتضمن الجزء الاول من "أرشيف ميتروخين"، الذي صدر حديثاً في لندن عن دار "بنغوين برس" للنشر، تفاصيل الحرب الاستخبارية التي شنّها جهاز الاستخبارات السوفياتي سابقاً "كي. جي. بي" في بيروت في الستينات والسبعينات ضد جهاز الاستخبارات البريطاني "إم. آي. 6" الذي يُعرف ايضاً بجهاز الاستخبارات السري "إس. آي. إس". ويصف الكتاب خطط "كي. جي. بي" لاستخدام "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" في الشرق الاوسط واوروبا، وكيفية تجنيد الدكتور وديع حداد نائب زعيم الجبهة في 1970. ورتّب "كي. جي. بي" قيام حداد بخطف نائب مسؤول محطة وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية "سي. آي. أي" في لبنان تمهيداً لنقله الى الاتحاد السوفياتي، لكن الخطة فشلت. وفي 1975، اصدر يوري اندروبوف رئيس "كي. جي. بي" آنذاك تعليمات شخصية باجراء اتصالات مع قادة الاحزاب الشيوعية في سورية والعراقولبنان في اطار مسعى لتجنيد عملاء عرب ل"كي. جي. بي". وكانت هذه بين امثلة عدة عن عمليات "كي. جي. بي" في الشرق الاوسط تضمنها الكتاب الذي يستند على نسخ بخط اليد لوثائق تفصيلية من ارشيف الجهاز هرّبها المنشق السوفياتي فاسيلي ميتروخين ونقلها الى بريطانيا في 1992. ألّف الكتاب، بالتعاون مع ميتروخين، كريستوفر اندرو بروفسور التاريخ الحديث في جامعة كامبردج. وكان المنشق السوفياتي والضابط السابق في "كي. جي. بي" نقل معه تفاصيل عن آلاف العملاء السوفيات في انحاء العالم. ويقول البروفسور اندرو انه "لا يمكن لأحد من الذين تجسسوا لمصلحة الاتحاد السوفياتي في أي فترة بين ثورة اكتوبر وعشية عهد غورباتشوف ان يكون واثقاً في الوقت الحاضر بأن اسراره لا تزال مصونة". وأمكن حتى الآن بفضل الكتاب كشف هوية جواسيس بريطانيين عدة عملوا لمصلحة "كي. جي. بي"، من ضمنهم "الجدة العجوز" مليتا نوروود 87 عاماً، والضابط السابق في اسكوتلنديارد جون سيموندس الذي درّبه "كي. جي. بي" للقيام بدور "الجاسوس روميو" لاغواء ديبلوماسيات وموظفات في السفارات الغربية لحساب موسكو. ويشارك هذان الجاسوسان في مسلسل تلفزيوني يستند على ارشيف ميتروخين، بعنوان "لعبة التجسس"، ويُبث ابتداءً من الاحد المقبل على قناة تلفزيون "بي بي سي 2". ويقع المجلد الاول الضخم من ارشيف ميتروخين في 995 صفحة ويبلغ وزنه 7،1 كيلوغرام. وهو يركز على عمليات "كي. جي. بي" في اوروبا والغرب. ويعد البروفسور اندرو ان يتضمن المجلد الثاني، الذي لم يتقرر بعد موعد صدوره، الصورة الكاملة عن عمليات "كي. جي. بي" في الشرق الاوسط. وفي الفصل المتعلق بباريس، حيث كان عدد عملاء "كي. جي. بي" يفوق أي مكان آخر في اوروبا الغربية، يشير الكتاب الى إنحياز مزعوم في صحيفة "لوموند" في السبعينات ضد اميركا لمصلحة الاتحاد السوفياتي. ويحدد الارشيف هوية اثنين من كبار الصحافيين وكتّاب في الصحيفة اعتاد "كي. جي. بي" استخدامهم لبث معلومات مضللة. كما اخترق "كي. جي. بي" وكالة "فرانس برس" للانباء داخل فرنسا وخارج البلاد. وفي تموز يوليو 1981، تلقى يوري اندروبوف رئىس "كي. جي. بي" آنذاك رسالة من قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي تحضه على ترتيب دعوة لزيارة افغانستان من قبل صحافي في "لوموند" زُعم ان تقاريره ستكون "متعاطفة" وكان قبل ذلك ببضع سنوات أشاد بسخاء بالزعيم الليبي العقيد معمر القذافي. يصف المجلد الاول كيف كانت اول عملية كبيرة للقوات الخاصة التابعة ل "كي. جي. بي"، التي اُنشئت في 1974، تهدف الى قتل الرئىس الافغاني حفيظ الله امين الذي كان استولى على السلطة في ايلول سبتمبر 1979. فقد نفذ 700 من افراد هذه القوات، بعدما تنكروا بالزي العسكري الافغاني ونُقلوا في عربات عسكرية تحمل شاراتٍ افغانية، عملية هجوم على القصر الجمهوري في كابول في 17 كانون الاول ديسمبر 1979، وقُتل اكثر من 100 شخص منهم قبل ان يجري الاستيلاء على القصر فقتل امين. ويقول البروفسور اندرو ان المجلد الثاني من ارشيف ميتروخين سيغطي الحرب في افغانستان. كما يشير الى انه سيصف كيفية ايصال الحزب الشيوعي العراقي أرشيفه الى الاتحاد السوفياتي لحمايته. وبين العمليات الاكثر اهمية في الشرق الاوسط التي يتناولها الكتاب "عملية روبن"، وهي عملية حققت نجاحاً كبيراً ومكّنت "كي. جي. بي" من كشف هوية عملاء بريطانيين كثيرين في الشرق الاوسط واوروبا. وأُطلقت العملية في أعقاب هرب الجاسوس السوفياتي البريطاني كيم فيلبي في الى موسكو في 1963 من بيروت، حيث كان يعمل كصحافي وعميل مزدوج في جهاز "إم. آي. 6" و"كي. جي. بي". فقد جنّد "كي. جي. بي" في 1964 خادمة ارمينية في السفارة البريطانية في بيروت، اسمها اليزابيث اغاسابيت غزاريان، بواسطة مطران ارمني يُرمز اليه باسم "اولاف" وكان عميلاً للجهاز منذ 1947. يتناول احد فصول الكتاب اختراق "كي. جي. بي" للكنائس السوفياتية، وهو ما ترتّب علىه ايضاً نتائج خارج الاتحاد السوفياتي. وقامت الخادمة الارمنية، التي اُعطي لها الاسم السري "زولوشكا" سندريلا، بزرع ميكروفونات لاسلكية صغيرة جداً في مكاتب السير ديريك ريتشيز السفير البريطاني وبيتر لون رئىس محطة "إم. آي. 6" في بيروت الذي كان يعمل تحت غطاء منصبه كسكرتير اول في السفارة. وكان فيلبي، الذي عمل في بيروت كصحافي وعميل ل "إم. آي. 6" من 1956 حتى هروبه الى موسكو في 1963 بعدما اكتشفت الاستخبارات البريطانية خيانته، اعطى "كي. جي. بي" معلومات مفصلة عن بيتر لون. كما قامت "زولوشكا" بزرع ميكروفون في مكتب نائب لون الذي كان يحمل الاسم السري "باريتون". وفي 1967، ابلغ ميخائيل ستيبانوفيتش تسيمبال، نائب رئىس مديرية الاستخبارات الخارجية في "كي. جي. بي"، اندربوف رئىس الجهاز آنذاك بان "عملية روبن" كشفت هويات اكثر من 50 عميلاً بريطانياً في الشرق الاوسط واوروبا. "وبين الامور الاكثر إثارة للاهتمام كشف هوية مجموعة من عملاء "إم. آي. 6" تتألف من مراسل وعميلين في أرفع الاوساط الحكومية في العراق". كما زُعم ان "إم. آي. 6" لديه "عميل مهم" في مصر يملك قناة اتصال مع الرئىس جمال عبدالناصر و"مصادر" متنوعة من ضمنها وزير خارجية بلد شرق اوسطي ورئيس اركان القوات المسلحة في بلد آخر. كما اظهرت "عملية روبن" ان "إم. آي. 6" اخترق الحزب الشيوعي اللبناني. وكان اهم عملاء الجهاز البريطاني محام عضو في المكتب السياسي للحزب وصديق شخصي لأمينه العام نيقولا الشاوي. لكن "كي. جي. بي" كان متردداً في تحذير الشاوي من ان احد اقرب رفاقه هو عميل ل "إم. آي. 6"، وربما يرجع السبب الى ان الاستخبارات السوفياتية كانت تخشى ان يؤدي ذلك الى تنبيه "إم. آي. 6" عبر عميله الى وجود اختراق لعملياته. وفي 1971، بعد عام على اكتشاف "إم. آي. 6" لعملية تنصت على محطته في بيروت، أذن المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي باطلاع الشاوي على موضوع المحامي عميل "إم. آي. 6" خلال زيارة قام بها لموسكو. وأقر الشاوي بانه كان تلقى في وقت مبكر يرجع الى 1949 تقريراً عن لقاء سري بين المحامي والقنصل البريطاني. واضاف ان المحامي ذهب الى لندن مرتين منذ 1968 بحجة العلاج من اصابة عينه بالماء الازرق. وكشفت "عملية روبن" ايضاً ان "إم. آي. 6" كان زرع ستة جواسيس في "كي. جي. بي" وجهاز الاستخبارات العسكرية السوفياتي وجهاز الامن والاستخبارات التشيكي. وابرز هؤلاء شخص يحمل الاسم السري "شون"، كان يملك وكالة اعلانات في دمشق ويؤدي دور عميل مزدوج تحت اشراف "باريتون"، نائب لون. وتمكن "شون" من إفشال سلسلة من عمليات "كي. جي. بي" التي شارك فيها، من ضمنها اتصالات بين الملحق العسكري السوفياتي ورئىس الاركان العامة السورية، ومحاولة لتجنيد احد موظفي سفارة المانيا الغربية في دمشق، وتجنيد الاسباني "غوميز" الموظف المسؤول عن جهاز التشفير، اذ اُعتقل اثر عودته الى اسبانيا. وكشفت "عملية روبن" في 1967 انه كان لدى "باريتون" 16 عميلاً داخل الحزب الشيوعي اللبناني وتنظيمات يسارية اخرى. وكوفئت "زولوشكا" في تلك السنة على عملها بمنحها الجنسية السوفياتية سراً. وعلى امتداد السنوات الاربع التالية، واصلت تقديم وثائق سرية ومعلومات استخبارية اخرى من السفارة البريطانية ومحطة "إم. آي. 6" في بيروت. وفي 1971، بعدما جرى استجوابها في شأن العثور على الميكروفونات، نُقلت على وجه السرعة الى الاتحاد السوفياتي واستقرت في ارمينيا مع راتب تقاعدي. كما حصل "كي. جي. بي" عبر عملية التنصت على محطة "إم. آي. 6" في بيروت على معلومات استخبارية عن "سي. آي. أي". ومكّنت هذه المعلومات "كي. جي. بي" من احباط محاولة لزرع اجهزة تنصت في مكتب وكالة "نوفوستي" للانباء في بيروت. وفي 1969، حاول "كي. جي. بي" ان يخترق "سي. آي. أي" عبر عمل يشبه ما نفذته "زولوشكا". فوجّه احد عملائه اللبنانيين، وهو مالك فندق يحمل الاسم السري "مارات"، بان ينشىء وكالة تشغيل لاجتذاب خادمات وخدم منزليين يمكن استخدامهم في عمليات. وكان من ابرز العناصر الواعدة الذين تقدموا للعمل في الوكالة ماري ماتروسيان اسمها السري "فيرا"، وهي خادمة لبنانية من عائلة ارمنية تعيش في سورية. وكانت عملت الى 1967 في مقر اقامة السفير الاميركي في بيروت، لكنها لجأت مع عائلتها الى سورية خلال حرب حزيران يونيو 1967. واثر عودتها الى بيروت في 1969، رتّبت وكالة "مارات" لماري الحصول على اعمال منزلية لدى سلسلة من عائلات ديبلوماسيين اميركيين. وطلبت الوكالة منها ان تقدم معلومات عن مخدوميها وان تنقل وثائق من منازلهم. وابلغها "مارات" ان الجالية الارمنية وزعماء الكنيسة بحاجة الى هذه المعلومات لضمان اطلاعهم على مخاطر محتملة على الشعب الارمني. ونجح "كي. جي. بي" عبر "فيرا" في زرع اجهزة تنصت في شقة احد ضباط "سي. آي. أي". ويلاحظ القسم المتعلق بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الكتاب ان "السابقة المتمثلة باستخدام الثوار الساندينيين سابقاً ضد اهداف اميركية في اميركا الوسطى والشمالية شجع اندروبوف والقسم الخامس على السواء على النظر في استخدام ارهابيين فلسطينيين كوكلاء في الشرق الاوسط واوروبا". وفي 1970، جُنّد الدكتور وديع حداد كعميل ل "كي. جي. بي" تحت اسم "ناتسيوناليست". والأرجح انه وافق على العمل لصالح "كي. جي. بي" كي يحصل على اسلحة للجبهة الشعبية. وطلب اندروبوف الأذن من بريجينيف كي يستخدم حداد لخطف نائب مسؤول محطة "سي. آي. أي" في لبنان وترتيب نقله الى الاتحاد السوفياتي. وقال ان "بالنية تنفيذ عمليات عبر عميل موثوق، "ناتسيوناليست"، يتولى إدارة عمليات التخريب التي تنفذها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهو ذو خبرة في تنفيذ اجراءات ذات طابع هجومي". وزاد اندروبوف ان المسؤول في ال "سي. آي. أي" سيٌُسلّم الى ضباط تابعين ل "كي. جي. بي" في منطقة دمشق، ثم يُنقل بصورة غير شرعية الى الاتحاد السوفياتي من دمشق بواسطة طائرة او سفينة. واعطى بريجينيف موافقته في 25 ايار مايو 1970، وسلّم "كي. جي. بي" حداد عندئذ ملفاً مفصلاً عن مكتب ال "سي. آي. أي" الذي اُعطي الرمز "في آي آر" مع تفاصيل عن منزله وسيارته وسلوكه الشخصي بما في ذلك انه اعتاد ان يخرج بانتظام سيراً على الاقدام برفقة كلبه الاسود من فصيلة البودل. وفي حزيران يونيو 1970، وافق بريجينيف على طلب من اندروبوف لايصال اسلحة لحداد. وسُلّمت الاسلحة تحت جنح الظلام في قارب مطاط قرب عدن، وجرى تحميلها على متن الزورق الذي يملكه حداد في عملية اُطلق عليها الاسم الرمزي "فوستوك". وتضمنت شحنة الاسلحة 60 مسدساً من صنع الماني غربي 10 منها مزودة كاتم صوت مع 5 الاف طلقة، و50 رشاشاً من نوع "إم جي - زد1" مع 10 الاف طلقة، و 5 بنادق "سترلينغ" آلية بريطانية الصنع مزودة كاتم صوت مع 36 الف طلقة، و 50 بندقية "أي آر-16" آلية اميركية الصنع مع 30 الف طلقة، و 15 لغماً مموهاً و 5 الغام من نوع "سنوب" موجهة عن بعد باللاسلكي . وكان هذان الصنفان من الالغام يُعتبران من ضمن الاسلحة الصغيرة الاكثر تطوراً في الترسانة السوفياتية. كما انهما، وبعض اجهزة كاتم الصوت، لم تعط ابداً من قبل حتى للدول الاعضاء في حلف وارسو. واعتبر "كي. جي. بي" انجاز عملية "فوستوك" بنجاح نصراً كبيراً، ومنح سبعة من القادة البحريين الذين شاركوا فيها هدايا تذكارية قيمتها 600 روبل بالاضافة الى علاوات نقدية قيمتها 600 روبل ايضاً. واستخدم "كي. جي. بي" حداد والجبهة الشعبية بشكل ناجح في عدد من العمليات الخاصة في الشرق الاوسط، خصوصاً ضد اسرائيل. ويقول البروفسور اندرو ان هذه العمليات ستُغطى في المجلد الثاني من ارشيف ميتروخين. لكن محاولات الجبهة الشعبية لخطف نائب مسؤول محطة ال "سي. آي. أي" في بيروت فشلت عندما غيّر روتينه اليومي، وفشلت ايضاً خطط لاغتياله بدلاً من ذلك. كما كان الفشل نصيب محاولة لاستخدام الجبهة الشعبية لقتل اثنين من المنشقين السوفيات نفذا في 1970 عملية خطف طائرة ركاب تابعة لشركة "ايروفلوت" وفرا الى تركيا. وجرى التخلي الى حد كبير عن خطط للاستفادة على نطاق اكبر من الجبهة الشعبية لملاحقة وتصفية منشقين سوفيات. لكن قرار اندروبوف استخدام وديع حداد لتنفيذ عمليات خاصة، وموافقة بريجينيف عليها، شكل نقطة تحول في تاريخ عمليات "كي. جي. بي"، وفتح الباب امام اجهزة استخبارية تابعة لبلدان اخرى في الكتلة السوفياتية لأن تحذو حذوها في فترات لاحقة باستخدام جماعات ارهابية بشكل مباشر او غير مباشر.