كان الخطاب العروبي الليبي ومنذ زهاء ثلاثين عاما، أحد السرديات الكبرى في العالم السياسي للعرب، الذي شكلته السياسة بأكثر مما شكله الفكر. وحتى اليوم، لا تزال هذه السرديات تمتلك، بخلاف ما يعتقد، جاذبية غير محدودة، وقدرة بلاغية ربما لا يستهان بها، على تقديم مفهومات تجريدية، باستمرار، عن الواقع العربي وقضايا العرب المصيرية. ان مفهوم "العروبة" في هذا الاطار، وكما عرضته السردية السياسية الليبية، ظل محكوماً بشروط انتاجه كمفهوم قابل للتجريد بطبيعته، ولذلك فإن النقد الذي يصدر اليوم عن ليبيا، وعن قائد الثورة الليبية الأخ العقيد معمر القذافي، لمفهوم العروبة بوصفه "مفهوماً عاطفياً"، انما يكتب أهميته وضرورته من كونه نقداً حقيقياً ومشروعاً، يمكن تطويره كأساس جيد لنقد سائر السرديات العربية الأخرى. وقد يكون من الضروري، في هذا السياق، اعادة قراءة المضمون الحقيقي الذي ينطوي عليه الخطاب الليبي الجديد، بما هو خطاب موجه أصلاً لنقد هذه السردية، التي تحولت بموجبها أقدس قضايا العرب فلسطين والصراع العربي - الاسرائيلي، من مادة تمس، في الصميم، وجود العرب التاريخي، الى مادة للمزايدات السياسية العلنية. ان المراجعة الجريئة التي قام بها قائد الثورة الليبية، تستحق، برغم كل ما يقال عن طابعها الانفعالي، وقفة تأمل وامعان فكر في دلالاتها والنتائج التي يمكن استخلاصها منها، ذلك ان هذه المراجعة قامت، أصلاً، على نقد مفهوم قائد الثورة نفسه "للعروبة" ولنظريته في الكتاب الأخضر. وعلى هذا الأساس، يمكن استخلاص ثلاثة عناصر جوهرية في الخطاب الجديد، تشكل برأينا، أساساً صلباً لنقد راديكالي لا بد لحركة القومية العربية من أن تنهض به. الأول: ان المفهوم المطلق، التجريدي بطبيعته لفكرة العروبة كما أرساها الآباء المؤسسون للقومية العربية، هو اليوم، وفي نهاية المطاف، مفهوم قابل للنقد والمساءلة ولإعادة صياغته ومقاربته من الواقع، لأن قيمة أي مفهوم نظري لا تكمن في جاذبيته النظرية، وانما في فعاليته في أرض الواقع. اليوم تكتشف ليبيا ان مفهوم العروبة كان يستجيب للحاجات العاطفية للعرب، بأكثر مما يستجيب واقعياً للتحديات التي تواجههم. صحيح ان العروبة هي المكون التاريخي للعرب وليست شعاراً، ولكن الصحيح أيضاً ان هذا المكون لم يكن قادراً، من الناحية الفعلية، على تخطي ارادة النظام السياسي الحاكم. لقد خضعت فكرة العروبة، باستمرار، لارادة النظام السياسي العربي، وكانت عرضة للتلاعب، بحيث أنها لم تمنع الحاكم العربي من أن يكون حليفاً للغرب في العدوان على بلد عربي آخر، هذا ومن دون ان يتمكن العرب لا من منعه ولا من مقاومته. بهذا المعنى فإن النظام العربي هو الذي تحكم، طوال الوقت، في مفهوم "العروبة" وليس العكس. المراجعة الليبية، اذن، بإعادة التسليم بوجود "جوهر عاطفي" لهذا المفهوم، لا تفعل أكثر من الإقرار بحقيقة لا مناص من تجرّع مرارتها: فالعروبة "ثقافة" انتماء لامة خاضعة، ولأنها كذلك، أي محكومة بالشروط التاريخية الراهنة للتجزئة والهيمنة والاحتلال والخضوع لارادة العدو الاسرائيلي، وبالتالي لسياسات التحالف غير المعلن مع الولاياتالمتحدة الأميركية، ضد كل محاولة جادة للوحدة والتحرر والتنمية، فإن من العسير تخيل انتصارها أو حتى فعاليتها في حدود التأثير على القرار السياسي العربي الرسمي. والذين يربطون هذه المراجعة ب "الانفعال" و"الغضب" الليبي من أوضاع العرب الراهنة، لا بد من التذكير بأن هذه المراجعة مصممة لكي تذهب الى أبعد من مجرد الانفعال. وحتى في هذا النطاق فإن "ظاهرة" لعن الأمة وكيل الشتائم لها وصب السباب على رأسها، ليست أمراً شاذاً أو خاصاً بالعرب، فلقد عرفت أمم أخرى مثل هذه الظاهرة. وتذكر الأدبيات الروسية الكلاسيكية مثلاً أن لينين، قائد الثورة البلشفية الروسية 1917 كان ينظر الى الشتائم واللعنات التي ظل الكتاب الروس القوميون على وجه الخصوص يصبونها فوق رأس الأمة الروسية الرازحة تحت نير القيصرية، على أنها تكثيف حقيقي للحلم في الانعتاق والتحرر والتطلع الشعبي الى أمة روسية عظيمة. وبالفعل فما أن سقطت القيصرية حتى تعالت صحيات التمجيد بعظمة الأمة، حتى من جانب اولئك الذين كانوا يلعنونها بالأمس. بهذا المعنى فإن حنق العقيد القذافي وبرمهِ، من حالة التردي التي يعيشها العرب، وهو بذلك يشاطر السواد الأعظم من مواطني الأمة المغلوبين على أمرهم انما هو تكثيف حقيقي للحلم بأمة تنفض عن نفسها غبار التاريخ. النقد الذي يوجهه الخطاب الليبي الجديد لمفهومات العروبة والوحدة العربية والمصير العربي المشترك، ينطلق، اذن، من أساس أهم من مجرد "الانفعال"، وهذا ما يتوجب على العرب رؤيته بامعان، وان يروا اليه بوصفه نقداً راديكالياً للسردية السياسية السائدة، يصدر عن أحد صنّاعها وربما أبرزهم. الثاني: ان اسقاط المفهوم المجرد، العاطفي، للعروبة والوحدة، لا يعني مع ذلك، في الخطاب الليبي الجديد، اسقاطاً للمفهوم التاريخي للعرب كأمة. ما اسقطه هذا الخطاب، فعلياً، هو الجزء العاطفي المبتذل وغير الواقعي من مفهوم العروبة كمكون تاريخي. وبكلام ثان، جرى انزال العروبة من سماء التأمل الى أرض الواقع، والتعامل معها في اطار جديد ومختلف. سوف تكتسب هذه المراجعة جذريتها المطلوبة، فقط، عندما تتمكن ليبيا من انشاء شبكات مصالح سياسية واقتصادية جديدة، تعيد دمجها في كيانها الافريقي، فهذا هو الأساس الوحيد والصحيح لكل "دفاع مشترك" يمكن توقعه. لقد كان العرب يرتبطون مع بعضهم البعض بمعاهدة دفاع عربي مشترك، ولكنها كانت مجرد وثيقة أي كانت نمطاً آخر من التجريد المفهومي بحيث ظلت حبراً على ورق، ما دامت الأمة لم تفلح في ربط أقطارها، فعلياً، بشبكات مصالح اقتصادية ومادية وثقافية حقيقية. وكيف يمكن توقع دفاع مشترك مع غياب كل أساس مادي، تقريباً، لهذا الدفاع؟ ولذلك، لا بد من القول هنا، ان ليبيا تستطيع، عبر مثل هذه الخطوة، لا عبر شعار جديد عن الوحدة مع دول الجوار الافريقي، ان تتوقع دفاعاً جدياً من الآخرين عن استقلالها وكرامتها. ان استكمال أفرقة ليبيا بما هي بلد عربي - افريقي عاش عقوداً من الغربة عن حاضنته الجغرافية، لا يتم إلا من خلال تحويل الأفرقة الى مهفوم فعّال وواقعي، بانشاء وتأسيس مصالح مادية مباشرة، فهذا ما يساعد، حقاً، في تصعيد الاحساس الجماعي لبلدان القارة بالمصير التاريخي المشترك. ومع ذلك لا بد من لفت نظر القيادة الليبية الى ضرورة التخلص من إرث الخطاب القديم وما استتبعه من سياسات، وفي أساسها طرائق استخدام المال الليبي، لأن الملايين من الجياع والفقراء في افريقيا، سوف يتطلعون الى مساهمة هذا المال في انشاء الطرق والمدارس والمستشفيات والمرافق العامة والمنشآت التي توفر فرص العمل. وبالطبع فإن أحداً من الفقراء لن يسعد بأية "مكافآت" تمنح للحكام وحسب. قد تبدو المراجعة النقدية، الجريئة والمثيرة للجدل، التي شرع بها قائد الثورة الليبية منذ نحو شهرين، وكانها تأسيس لنظرية جديدة عن انكفاء ليبيا الى الداخل الافريقي بالابتعاد عن الخارج العربي، لكن هذا مجرد انطباع متسرع في الواقع، لأن ما يهدف اليه نقد الخطاب القديم بشكل صريح ومباشر، انما هو إعادة تعريف ليبيا لنفسها، فالداخل الافريقي المعاد اكتشافه مع استمرار الحصار، يبرهن على امكانات "مقاومة" تفوق امكانات الخارج العربي. ولأن ليبيا تسعى في هذه الآونة، الى تعريف نفسها في اطار النظام الافريقي، فمن البديهي أن تجرب امكانية فحص "عروبتها" بعد عقود من التجريد. من المؤكد ان سياسة ليبيا ازاء افريقيا، خلال سنوات الحصار، دللت على أنها يمكن أن تعطي ثماراً صالحة للأكل، وهذا ما يشجع المراجعة النظرية ويدفع بها الى أمام، لأن العون المتوقع لم يأت من الخارج العروبي بل من الداخل الافريقي ليكشف لليبيا عن حقيقة هامة مفادها: ان الجيران الأفارقة يظهرون مقداراً أكبر من الاستقلالية و"المقاومة" حيال الهيمنة الاميركية مما هو متوقع. لقد اكتشفت ليبيا ان "المصالح العاطفية" التي ربطتها بالعالم العربي، ليست أساساً صالحاً لمواصلة الرهان على امكانية الحصول على دعم معقول من "الخارج" العربي لسياساتها ومواقفها. وحتى البيان الأخير للجامعة العربية بخصوص لوكربي، ومسألة تسليم المشتبه بهما أو مثولهما امام محكمة اسكوتلندية في هولندا، وهو بيان رأت فيه طرابلس مخيباً للأمال، لم يقدم، عملياً، سوى "نموذج" جديد لا عن ضعف الأداء الرسمي للسياسة العربية، وانما كذلك. عن المستوى المريع من التدهور في "الموقف" العربي، الأمر الذي ضاعف من الاحساس بأهمية وضرورة هذه المراجعة. ويبدو ان الليبيين أصغوا، منذ وقت، وبانتباه شديد، الى النصيحة الفرنسية المقدمة أصلاً للعراق والقائلة: إن الحصار لن يرفع بقرار من مجلس الأمن، ولذا، وبدلاً من اضاعة الوقت في انتظار قرار قد لا يصدر قط، لا مناص من التوجه صوب بلدان الجوار وتعميق الحوار معها وتوطيد كل الصلات معها، سياسياً وتجارياً وثقافياً، فهذا وحده ما يدعو للأمل برفع الحصار أو تفكيكه. الثالث: "إن المصالحة" الجغرافية التي تقوم بها ليبيا، تعرض، في سياق الخطاب الجديد، كمفهوم قابل للتجريد هو الآخر، فكما ان فكرة "العروبة" رفعت الى مصاف القدسية في الخطاب القديم وتم تصويرها على أنها هي المخلص، فإن فكرة الانكفاء الى "الداخل" الافريقي، يجري تقديمها اليوم وكأنها هي الحل الوحيد المطروح أمام ليبيا. ولذا تبدو محاولة ليبيا اعادة تعريف نفسها كبلد افريقي، محفوفة بالمخاطر، اذا ما استمر الخطاب الجديد في رفع هذه الفكرة الى مصاف القداسة. كما فعل الخطاب القديم مع "العروبة". ومن الأجدى، لاسناد ودعم هذه المقاربة في الخطاب الجديد، ان تعرض مسألة تعريف ليبيا لنفسها في اطار تصور أعم، اساسه العودة الى الواقع، فليس الأمر المطروح أمام ليبيا ان تختار بين العروبة والأفرقة كما لو كانا تعريفين متعارضين، بل كيف تستخدم امكانات العمق الافريقي بالكف عن تجريد المفهومات النظرية. سوف يرتطم الخطاب الليبي الجديد، عاجلاً أم آجلاً بمشكلة تعريف ليبيا لنفسها، اذا ما سارت على خطى السردية القديمة، فهل هي ليبيا الافريقية التي تعد فحص عروبتها وتقوم ثورياً بالانقلاب عليها؟ أم هي ليبيا العربية التي يرغمها الواقع على اعادة اكتشاف أفريقيتها؟ * * * رمزياً، تبدو ليبيا، في هذه الآونة، وكأنها، بابتعادها عن صحراء المشرق العربي والتحاقها بالصحراء الكبرى الافريقية، لا تفعل أكثر من مجرد التحرك داخل الفضاء ذاته الذي تريد مغادرته. هذا المعطى الجغرافي، اذا ما جرى استخدامه في التعريف النظري الجديد لپ"من هي ليبيا؟" يمكن ان تدل الليبيين الى الحقيقة عن أنفسهم، فهم لا يواجهون مشكلة هوية: عرب أم أفارقة؟ وانما يواجهون "أزمة" في استرداد العمق الجغرافي، الذي تراءى ذات يوم عربياً ويتراءى اليوم افريقياً. ان القطيعة الرمزية مع العروبة في الخطاب الليبي الجديد، تفصح برغم كل شيء، عن امكانية حقيقية لاعادة اكتشاف البعد الافريقي لهذا البلد، وتخطي عقبات الاسترداد عبر الإقرار بأن اسقاط البعد الافريقي لصالح البعد العروبي العاطفي كان أحد أكبر الاخطاء الاستراتيجية في الخطاب السياسي القديم، وان تصحيح ليبيا لفكرتها عن نفسها، يمكن ان يتم بإجراء مصالحة جغرافية جديدة لا تقطع مع عالم العروبة الواقعي. ترى من يلوم قائد الثورة الليبية الأخ العقيد معمر القذافي، الذي ظل ثلاثين عاماً يغني أغنية الوحدة والعروبة؟ بل من يلومه على المراجعة؟ أغلب الظن ان العرب سوف يكتشفون قيمة استثنائية لالتحاق ليبيا بجغرافيتها، فهذا مكسب لهم ومصدر قوة جديدة، ذلك ان افريقيا التي تركها العرب للسياسات الاسرائيلية الماكرة، ستعود عبر البوابة الافريقية الى موقعها الطبيعي في مقاومة مشروع الهيمنة الاميركية - الاسرائيلية، الذي لم يعد مقتصراً على العرب وانما معهم الأفارقة ايضاً. لا شك ان القطيعة الرمزية مع "العروبة" بإزالة خريطة الوطن العربي من نشرات الاخبار في التلفزيون، والتوقف عن بث الاناشيد العربية "الثورية" لا هدف لها أبعد من حدود توطيد التعريف النظري الجديد. وقد يكون من الأجدى للعرب، ايضاً، ان يشاطروا الليبيين برمهم وضيقهم من الحالة العربية الرديئة، وان يبادروا الى تصحيح فكرتهم عن نفسهم باجراء "مصالحات جغرافية" مماثلة، ولا بأس ان يؤدي ذلك الى سقوط الاناشيد أو الخرائط. * باحث عراقي مقيم في هولندا.