الحذاء القديم في لوحة "الحذاء" للفنان فان غوخ لم يكن حذاء مهملاً لمحارب راحل. بل ولم يكن حذاء ضائعاً أو مفقوداً صاحبه معروف، وهيئة البهدلة والبؤس أسبابها معروفة. الناقد الفني ريتشارد كورك يُعطينا كثيراً من التفاصيل عن حذاء فان غوخ في صفحة الفن من جريدة "التايمز". اشترى فان غوخ "فردتي الحذاء" من سوق باريسية ودفع فيهما ثمناً رخيصاً. ولكنهما لم تكونا على درجة من البؤس والتهتك على نحو يرضي فان غوخ، ولذلك انتعلهما وأخذ يسحبهما في شوارع باريس وأزقتها مسافات طويلة واسابيع عدة حتى اصبحتا متسختين مهترئتين ولائقتين باللوحة الشهيرة. ولم يكن فان غوخ يهدف الى التعبير عن أوهال الحروب وأحزانها وأثر ذلك في احذية المحاربين، ولكنه، وكما نتوقع من الموضوع البائس للوحة، كان يفكر في قضية بائسة حزينة. فلا يمكن لفنان ان يفكر في رسم حذاء قديم من دون ان يكون الموضوع الذي يمتلك تفكيره موضوعاً قاتماً وحزيناً. النقاد يعلقون على مواضيع النقد، ويخلقون ظلالاً لا نراها وأموراً لا نفهمها وخلفيات لا تتضح لنا للوهلة الاولى. والذي يصاحب ريتشارد كورك في زيارته للحذاء المعلق في الغرفة الخامسة والاربعين من الصالة الفنية الوطنية في لندن، سيفهم حذاء فان غوخ على نحو افضل، وسيستوعب معانيه العميقة، وربما فهم الكثير عن شخصية فان غوخ وفلسفته الاجتماعية وعاداته اليومية وتاريخه الفني. كان فان غوخ، على مسؤولية الناقد ريتشارد كورك، يريد ان يعبر بلوحة الحذاء عن معاناة الطبقة العاملة وحياتها البائسة في حواضر القرن التاسع عشر، ويؤكد تضامنه مع الطبقات المسحوقة المغمورة في محيط الظلم الاجتماعي والطبقية الاقتصادية الظالمة. ولم يشأ فان غوخ أن يختار لذلك سترة ممزقة، أو وجه طفل معكر بالفحم، أو دخان المصانع الداكن، أو امرأة متسولة تحمل طفلاً رضيعاً، بل اختار حذاء قذراً، هرماً، ومتآكلاً. رسم فان غوخ الحذاء بارزاً في مقدم اللوحة، واختار اللونين الاسود والبني، ولم يُضمّن لوحته الواناً واشكالاً اخرى تشغل الناظر عن الحذاء الذي ينظر اليك ويُبحلق فيك ويشدّك اليه. تنظر الى اللوحة الفصيحة فتشعر بالشقوق على سطح الجلد، وتغوص في جوف فردة الحذاء اليسرى، وتستنشق عُفونة الرطوبة، وتلمس لزوجة الوحل المختلط بعرق الاقدام الكادحة. تعود الى سطح الحذاء فيفاجئك رباط الفردة اليسرى من الحذاء وهي تنطلق هاربة نحو الفردة الأخرى المجاورة. وترمز هذه الحركة الهروبية الى تأكيد الوحدة المصيرية، والرفقة الابدية لفردتي الحذاء اللتين تشاركتا في المشاوير الموحلة البائسة. يلعب الحذاء دوراً مهماً في الحياة اليومية للفنان فان غوخ. فقد كان يحب المشي كثيراً، وكان يمضي ساعات طويلة يتجول في شوارع باريس وحاراتها الضيقة، باحثاً عن مواضيع للوحاته في الحياة اليومية للأشخاص والمباني والمقاهي والعربات. هذا حذاء قديم في لوحة فنان كبير يحكي كثيراً عن الزمان والشخص والفلسفات الاجتماعية السائدة وظروف الحياة ومعاناتها. الحكاية ظريفة ومثيرة ومباشرة لا يمكن الانشغال عنها، وهي اكثر دلالة وفصاحة من شهود العصر الآخرين. الأحذية تحكي كثيراً وتتحدث فصيحاً عن زمانها ومكانها وأشخاصها، والقضية تحتاج الى دليل مثل ريتشارد كورك يقودنا حُفاة نحو تفاهم أفضل مع أحذيتنا.