الأسهم تصعد 88 نقطة.. المؤشر عند 12,123    رغم الأزمات.. كم إنفاق الألمان على رحلات السفر ؟    مصادر ل«عكاظ»: الزلفي يتفق مع القروني    الرئيس اللبناني يصل إلى الرياض وفي مقدمة مستقبليه نائب أمير المنطقة    مَارَسَ الاحتيال.. «الفنانين العراقيين»: إيقاف مسار الحجامي 6 أشهر    أمير القصيم يزور عدداً من القضاة والمشايخ ويهنئهم بحلول شهر رمضان    من «مسافر يطا» إلى «هوليوود».. فلسطين حاضرة في منصة تتويج «الأوسكار»    جوزاف عون: الزيارة فرصة للتأكيد على عمق العلاقات اللبنانية السعودية    محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية يجدد مسجد القلعة بالمدينة المنورة ويعزز الحضارة الإسلامية للمملكة    تجمع الرياض الأول يطلق حملة "صم بصحة" لتعزيز الوعي الصحي في رمضان    أمير القصيم يستقبل محافظ الرس وفريق عمل ملتقى "وطننا أمانة"    تحديد مدة غياب كانسيلو عن الهلال    علامة HONOR تكشف عن استراتيجيتها المؤسسية الجديدة التي تسعى من خلالها لإتمام انتقالها إلى شركة متخصصة في نظام الأجهزة الذكية المدعومة بالذكاء الاصطناعي.    نائب أمير الشرقية يستقبل رئيس مجلس إدارة جمعية "مقتدر"    الهدنة تتهاوى.. شهيدان وجرحى في قصف إسرائيلي على غزة    مباريات الهلال من دون جواو كانسيلو    أخصائية تغذية: تناول الوجبات الغنية بالدهون يؤثر على صحة الصائم    أمير الشرقية يستقبل سفير جمهورية طاجيكستان    لماذا استقال مساعد الرئيس الإيراني ؟    وزير الحرس الوطني يستقبل أمراء الأفواج بالوزارة    زيلينسكي: استبدالي ليس سهلاً    استشهاد فلسطينيين برصاص الاحتلال الإسرائيلي جنوب قطاع غزة    رابطة دوري روشن توضح: الأندية هي المعنية بتحديد أسعار تذاكر المباريات التي تستضيفها    المهندس علي الدمنهوري ضيفاً في CNBC عربية    الذهب يصعد مع تراجع الدولار    ارتفاع أسعار النفط إلى 73.57 دولارًا للبرميل    مبادرة ل «مكافحة التستر» لتمكين الامتياز في نشاط صيانة السيارات    قمة خليجية تجمع الوصل بالسداوية    بن عثيمين: السحور تأسٍّ بالرسول عليه السلام    المملكة تحيي ذكرى «يوم شهيد الصحة»    في ختام الجولة 23 من دوري روشن.. الاتحاد يسقط في فخ التعادل أمام الأخدود    إغلاق طريق كورنيش جدة الفرعي والطرق المؤدية حتى نهاية أبريل    الأميرة فهدة بنت فلاح تكرّم الفائزات بجائزة الملك سلمان بن عبدالعزيز لحفظ القرآن    «الإعلام» تكرم الفائزين بجائزة التميز الاثنين المقبل    السلمي يحتفل بيوم التأسيس مع "التوفيق" لرعاية الأيتام    أمطار رعدية على مناطق المملكة حتى يوم الجمعة المقبل    تستُّر التطبيقات    السجن ل «حمو بيكا» بتهمة حيازة سلاح    المواطن رجل الأمن الأول في مواجهة الإرجاف    بدعم القيادة.. تدشين حملة «جود المناطق 2»    الدفاع المدني: هطول أمطار رعدية على مناطق المملكة حتى يوم الجمعة المقبل    82 موقعاً للإفطار الرمضاني لأهالي المدينة    التسوق الرمضاني بين الحاجة والرغبة    تجديد تكليف الدكتور الرديني مديرا لمستشفى الملك فهد التخصصي في بريدة    رمضان وإرادة التغيير    محافظ جدة يشارك قادة ومنسوبي القطاعات الأمنية الإفطار الرمضاني في الميدان    علوم الأجداد وابتكارات الأحفاد    الرفض العربي للتهجير يعيد الحرب إلى غزة    تصحيح فوضى الغرامات وسحب المركبات في المواقف    بر سراة عبيدة توزع 1000 سلة غذائية    وزير الشؤون الإسلامية يعتمد أسماء الفائزات على جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن في دورتها ال 26    185 مليارا للمستشفيات والصناعات الطبية في 2030    أُسرتا كيال والسليمان تتلقيان التعازي في فقيدهما    3500 قطعة أثرية تحت المجهر    جزر فرسان عبادات وعادات    الصميدي يتبرع لوالدته بجزء من كبده وينهي معاناتها مع المرض    أمير تبوك يستقبل المهنئين بشهر رمضان المبارك    محمد بن فهد.. أمير التنمية والأعمال الإنسانية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من لحس الأحذية إلى حذاء فان غوخ -2-
نشر في الشرق يوم 15 - 07 - 2014

الحسنة الوحيدة لهنري ميللر، في سردياته التي جمعها في سيرته القرائية «الكتب في حياتي» هي أنه يذكرنا برسائل فان غوخ إلى شقيقه ثيو.. فهنري ثرثار مضجر، لا يدع لك مجالاً لأي تأويل مع تقريريته الفاقعة، ونصه المنهك بالحشو والإسهاب التكراري والوصايا المدهشة.. الحسنة الوحيدة هي الإشارة إلى فان غوخ.. وعلى الفور، فتحت الجهاز وبحثت عن الرسائل.. ودون تمهل من ناحية التحقيق التاريخي أو الترجمة التهمتها سريعاً.. رسائل كتبها البائس والمصروع فنسيت، دون أن يحسب أن بوسعها الخلود كقطعة نثرية غاية في الرهافة والأحاسيس الإنسانية والروحية المتسامية… وإلى جانب الرسائل اشتهرت أعماله الفنية التي تناثرت هنا وهناك وعالجت مواضيع شتى، لكن الأشهر لديه هي وجوهه التي رسمها لنفسه وأحذيته التي تركت أصداءها وأدهشت النقاد والفلاسفة..
فان غوخ ترك حذاءه ورحل.. رحل تاركاً حشداً من الأحذية، وبروتريهات تحكي قصصاً وحكايات، ورسائل تضج إنسانية وتفرداً ونقمة على الزيف والتبجح والاغتراب، ومن رسائله إلى شقيقه «ثيو» كتب يقول: «يجدر بالمرء في بعض الأحيان أن يدخل إلى العالم ويتصادم مع الآخرين.. مع أن المرء يكون مضطراً في بعض الأوقات أن يفعل ذلك.. ولكن ذلك الذي يفضل أن يعمل وحيداً بهدوء وعندما يريد أن يصادق أحداً، فإنه لا يصادق إلا عدداً قليلاً من الناس.. فسوف يمضي بسلام عبر العالم وبين الناس… يجب على المرء ألا يثق بالزمان أبداً عندما لا يواجه أي مصاعب أو هموم أو مشكلات.. كما يجب على المرء ألا يأخذ الأشياء ببساطة شديدة.. يجب على المرء ألا يترك النار تنطفئ في روحه بل يجب أن يتركها مشتعلة.. والذي يختار الفقر لنفسه ويحبه فإنه ينال كنزاً عظيماً ويسمع دائماً صوت ضميره واضحاً.. ذلك الذي يسمع ويطيع ذلك الصوت الذي هو أغلى هبة من الله، يجد في النهاية صديقاً في ذلك ولن يبق وحيداً أبداً».
كل ما يراد قوله ههنا هو سحب الاعتراف عن مثقف الترضية خاصة الفنان والمبدع الخائن للخواص الجوهرية في كل عمل فني وإبداعي، العمل المتمخض عن مقاومة كما يقول الفيلسوف دولوز «الإبداع لا يعني التواصل بل المقاومة»..وإلى جانب المقاومة هناك الفصاحة، أن تقوم الذات المثقفة بتفصيح الخطاب، ولكن أي خطاب؟ نعرف جميعاً أن الخطاب تعبير عن الحقيقة، والمثقف هو الذي يقولها ولكن ليس للسلطة، وإنما -وفقاً لفوكو- «للذين لم يكونوا يرونها وباسم الذين لا يستطيعون قولها: إنه الوعي والفصاحة».
امتزاج الوعي والفصاحة بالخاصية التي حددها دولوز بالمقاومة ينتج تقابلاً.. هناك المثقف المتفذلك الزائف الوصولي وماسح الأحذية، من يتوجب رميه في سلة المهملات.. وهناك آخر عجنت جيناته بالرفض، مثقف مزعج ديدنه المشاكسة والتحطيم وعشق أبدي للتدمير والهدم، إنه صاحبنا المتذمر الساخط والكافر بكل شيء.. يحلو له التشرد خارج كل قولبات السلطة/ هذيانها/ خطابها ولاحسي أحذيتها.. إنه دائماً وأبداً «خارج المكان» وضد السلطة بكل أشكالها خاصة تلك التي تتخفى خلف أقنعة الدين، أعني سدنة النفاق والتلون والخيانة المزمنة للذات.. وفي وسط يصبح فيه الأقل جبناً أشجع الشجعان تبدو المعادلة واضحة: المثقف/ الناشط إما أن يكون انشقاقياً أو هو حتماً في المكان الخطأ، الحياد هنا خطيئة.
حذاء فان غوخ كينونة فنية تجسد شيئاً مبتذلاً، شيئاً عادياً، يملكه الجميع ويفهمه الجميع، أحذية فان غوخ لا تهتم بالمقولات النبيلة والأدب الرفيع والمتعاليات بقدر انهماكها بتصوير الأشياء المنتشرة والأقرب إلى حياتنا اليومية، إنه انزياح بالأدب من فضائه الأرستقراطي النبيل إلى فضاء ديمقراطي، الأدب إذن هو الافتتان بالأشياء العادية واليومية ولكن بقالب جمالي ورؤية منغمسة في عالمها الأرضي.. عوض الانغماس في الكلمات والشكل وتصوير كل ما هو متعال، ينغمس الأدب في الأشياء نفسها، وبعبارة أخرى، لا يهتم الأدب بتسمية الأشياء- المتعالية أو المحايثة- بل يهتم قبل ذلك بكينونة الأشياء: الأشياء هي التي تتكلم من خلاله.
دعوني أقترح المرور بمثال من مجموعة من المقالات والدراسات للكاتب اليساري الفرنسي «جاك رانسيير» الذي جمعها في كتاب يحمل عنواناً لافتاً جداً: «سياسة الأدب».. متوجاً فرضياته وأشكاله وتقاطعاته -وهي عناوين فصوله- بحقيقة مفادها أن الأدب والسياسة يتقاطعان متى ما شيد ذلك الفضاء من اللاتمايز بين الهامش والمتن، بحيث تنتهي هذه الفوضى إلى هستيريا لا تسر ملاك الثقافة وحوانيت «الأدب الرفيع».. هذه الهستيريا من الاستثارات والخطابات يقترح علينا «رانسيير» أن نسميها «ديمقراطية» بحيث تتحدد قبل كل شيء ورغم استحالاتها التطبيقية ببساطة الكلمات التالية: الديمقراطية صوت من لا صوت له.. إنها تمنح -كما يفعل الأدب- صوتاً لأولئك الذين أسكتهم التاريخ، وأسكتتهم السياسة والسلطة وغرور المثقفين واعتدادهم الصفيق بأنفسهم.. يقول مثلاً: «والحق أن ذلك هو الأدب: إنه فن الكتابة الذي يطمس التمييز بين عالم الفن والحياة الواقعية بجعل المواضيع كلها متكافئة. ولطالما كان هذان المجالان منفصلين في عصر الكتابة الأدبية التقليدية، أو عند أصحاب الذوق الرفيع على الأقل.. لا يوجد فصل بين مجال الأشياء الشعرية ومجال الأشياء العادية»..
جاك رانسيير هنا سيخيب آمال الكثيرين.. فمنذ اللحظة لن تكون هناك «حديقة سرية» لمثقف مغرور ومتبجح ونخبوي صدق أكاذيبه وألاعيبه مع نفسه، أو لبرجوازي ورأسمالي وقح ومقيت، أو لسياسي سلطوي يحتكر الخطاب والسلطة وكل شيء.. إن رانسيير يحرق حوانيتهم وحدائقهم الخلفية واحدة تلو الأخرى، يكسر أصنامهم ويفتت لغتهم وخطابهم وأدبهم وسياستهم ليفتح كل ذلك ودون أدنى تردد لكل محتقر ومنبوذ ومهشم…


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.