الخوض في لوحات فان غوخ، تقييماً وتحليلاً وتفسيراً ونقداً، كان أمراً عسيراً على نقّاد الرسم الذين حاولوا ذلك بعد إعادة اكتشافه، لأن ضربة ريشة فان غوخ والألوان التي يسيطر عليها الأصفر وكيفية إبرازه المواضيع التي يتناولها، كلها من صنع يديه وعينيه وعصبه ووحشته ووحشيته وضعفه، وحيداً، بلا أبوة فنية يمكن اعتبارها مرجعية للقياس بها. كان فان غوخ يشقّ طريقاً خاصاً في الرسم، بينما كانت المدارس الفنية الكلاسيكية والمحدثة في زمنه تحيط به من كل جانب. هذا في الشكل. ولكن هناك الوحشية «الفانغوخية» في عرض باطن لوحته. أي الوحشية النفسية المتأتية أولاً من وسم أهله إياه بغرابة الأطوار، تحديداً أمه وأباه القس، وكذلك بسبب تقلباته الإيمانية بين أن يكون مبشراً دينياً، وهو المترعرع في عائلة شديدة التديّن، وأن يكون رساماً وكاتباً، هارباً منفياً هائماً على وجهه في قاع نفسه، حيث المنفى الأول والأخير، وفق ما عبّر هو نفسه. ولقراءة لوحات فان غوخ، لا بد من التمعّن في سيرة حياته المضنية، تلك التي لم يكن التنفيس أو التصعيد النفسي فيها إلا عبر الرسم، الذي ينقل كل قلقها بواسطة الريشة الوحشية حيناً والرقيقة أحياناً. وللخوض في سيرته لا بد من العودة إلى رسائله لأخيه ثيودور، الذي كان وحده يتفهمه من بين أفراد العائلة، ووحده يؤمن بموهبته، وبأنه سيصبح رساماً عظيماً، ووحده أيضاً من كان يأخذه بعطفه وحنانه فيلقي عليه جناحاً يحميه من دوامة عقله تلك التي ما فتئت تدفعه إلى الجنون. وهذه الرسائل، ليست سيرته المكتوبة فقط، بل وأعماله الأدبية، التي جمعت في كتاب وترجمت إلى عدد كبير من اللغات. هما أمران متلازمان إذاً، خوض في سيرة فان غوخ يؤدي إلى فهم لوحته، وخوض في لوحته لفهمه كإنسان ثم كفنان، أو العكس، لأن كل صفة صنعت الآخر. أي أن فان غوخ هو ثنائية متوحدّة في شخص. مثلاً، لا يمكنك أن ترى فان غوخ الشخص إلا كما رسمه فان غوخ الفنان في الأوتوبورتريه. فنحن نراه كما أرادنا هو نفسه أن نراه وبعينيه «الذئبيتين حتى النهاية» (كما يصفهما) وبخبط ريشته. الشاعر قاسم حداد في كتابه «أيها الفحم، يا سيدي- دفاتر فنسنت فان غوخ» (دار مسعى، المنامة) قام بالأمرين معاً أي قرأ اللوحة والسيرة، وأضاف إليهما عنصراً ثالثاً هو استدخال سيرته. فقد توحّد في شخصية الرسام، ونظر من خلال عينيه، وتكلم ب «أنايَين»، هما أناه حيناً وأنا الرسّام أحياناً، فتختلط على القارئ طوال قراءته للكتاب شخصية المتكلم، هل هو الكاتب (الشاعر) قاسم حداد، أم هو الرسّام فان غوخ، وهذه ثيمة جمالية قيّمة ومبهرة تشكّل الكتاب، بل وتأخذنا إلى سيرة حداد نفسه، الذي وحّد بين تجربته الشخصية ثم نظرته إلى الحياة مع تلك التي لغوخ. توازي التجربتين، واستعداد الشاعر البحريني لكتابة نصّه عن فان غوخ منذ أكثر من ثلاثين عاماً، بعدما قرأ وجمع المصادر والمراجع. فجمع مكتبة كبيرة عن هذه التجربة -هو المأخوذ بالرسائل الكثيرة التي كتبها «فنسنت» لأخيه- أبدته باحثاً متعمقاً في ما يكتب، يقدّم جديداً في فن كتابة سيرة فنان آخر بواسطة النثر الشعري. فيبدأ كتابه «أضع روحي في المهب، وأبدأ بكتابة الرسم». والكتاب هو ثمرة منحة تفرّغ إبداعي من «أكاديمية العزلة» في ألمانيا، ضمن برنامج «زمالة جان جاك روسو»، وهي منحة التفرّغ المخصّصة للأدباء من العالم، لإنجاز المشاريع الأدبية. يقول حداد في إحدى مقابلاته:» كنت أعبر عن عشقي العميق لفان غوخ، في اللحظة التي أحاول التحديق في حياتي. لستُ كاتب سيرة، ولا روائياً. الشعر وعشق الرسم هما ما كانا يقودان خطواتي أثناء الكتابة». ويكمل حداد قائلاً عن تجربة الكتابة «التقنية» للنص وخلالها وكيفية الربط بين راهن حياته وماضي حياة غوخ : «في شتاء كامل بين مدينة شتوتغارت و «بيت هاينريش بيل» في ريف ديورين القريبة من مدينة كولن، كنتُ (أقرأ/ أكتب) النص محاولاً التعبير الشخصي عن عشقي لفنسنت. أذكر، أنه عندما يبدأ الظلام باحتضان هضبة العزلة المطلة على مدينة شتوتغارت، والصمت العظيم يغمر فضاء المنطقة. يصبح المكان هو الأجمل على الإطلاق لكي يدخل الشاعر إلى الكتابة. كان عليّ أن أرى المشهد الشاسع لتجربة أوروبا في ذروة نهضتها الحديثة، بين القرنين التاسع عشر والعشرين، فيما أحملق محدقاً في حياتي في لحظتنا الراهنة». نثر الشعر، كتابة الرسم لا حاجة للدخول هنا في نوع الكتابة في «أيها الفحم، يا سيدي»، قصيدة نثر، أو نثر شاعري، أو كتابة فلسفية شاعرية، فالكتابة تجمع الأنواع هذه بعضها مع بعض من دون انحياز لأي منها، ومن دون أن يكون الكاتب مهموماً بالنوع الكتابي الذي يتقصّاه، بل هي كتابة تستهدف التعبير عن مفاهيم لدى الكاتب يستقيها من قرينه الذي يكتب عنه. «من يضع الدلالة في فهرس اللغة، وينهر المعاني كي تبدأ الكلمات في النص، تعظُم مهماته». شارك الكاتب مفاهيمه مع الرسّام، فأعاد شرح لوحاته، ثم أضاف على مقولات فان غوخ ما يعتمل في نفسه تجاه هذه المفاهيم، سواء في الدين أو الحرية أو العلاقات مع المجتمع أو الجنون أو الانتحار أو النظر إلى الحياة من مختلف جوانبها، فجاءت المقاطع وكأنها نتائج لنقاش مفتوح. «أضع ألوان قلبي في كلمات، أقرأ الرسم بالرسائل، وأكتب الرسائل بالرسم» (من قصيدة أجنحة أكثر من الريح). أو في «يمكنك أن تعتقد برداءة لوحة زهرة عباد الشمس، لكن من المؤكد أنك لن تقدر على نفي الفن وتجاهله أو تفاديه، خصوصاً عندما يتصل الأمر بالإبداع، فهذه المسألة ليست من الزراعة لكي تكون في متناول أخصائي الهندسة الوراثية. إنه أمر يتوقف على الشمس وهي تشهق بالبشر الأموات لكي يستيقظوا من وهدتهم الآبدة، أمر يتصل بإعادة النظر في مخلوقات الله» (قصيدة لم يكن يسأل، كان يعرف). في «أيها الفحم، يا سيدي» يرسم قاسم حداد بنفس عصب ضربة ريشة فان غوخ، وبالكتابة، أي بالأحرف والكلمات والجمل، يكشف الغطاء عما تحت اللون الذي به كان يكتب فان غوخ.