على أبواب الانتخابات الرئاسية في اليمن، والتي ستبدأ يوم 23 ايلول سبتمبر الجاري، ارتأت "الحياة" ان تستطلع آراء نخبة من الكتاب اليمنيين، ذوي الولاءات السياسية المحددة، والذين يمثلون ألوان الطيف السياسي اليمني. وبما ان انتخابات الرئاسة ليست مسألة شخصية بقدر ما هي مسألة سياسية عامة، وبما انها تثير سلسلة من الأسئلة والقضايا، فقد كان توجهنا ان نطرح على الكتاب المعنيين سؤالاً مركزياً يمس جوهر الحياة السياسية اليمنية، ليطل كل منهم على انتخابات الرئاسة، من خلاله، وبما يعمق مناقشة القضايا، ويطلع القارئ على التوجهات الحقيقية للحوار الدائر في اليمن. وكان سؤال "الحياة": وأنهم على أبواب الانتخابات الرئاسية، ما هي المشكلة الأساسية في اليمن من وجهة نظركم، هل هي الديموقراطية، أم الوحدة الوطنية، أم التنمية الاقتصادية، وكيف يكون العمل لتحقيق أولويات المستقبل؟ وقد تجاوب مع دعوة "الحياة" كتاب يمنيون بارزون، سننشر مداخلاتهم بالتوالي. حقيقة لم يعد اليمن يطرق أبواب انتخابات رئاسية مقررة في 23 ايلول سبتمبر الجاري، ولا نافذتها. فقد حسمت المعركة قبل ان تبدأ، حين رفض مجلس النواب التابع للاصلاح والمؤتمر تزكية مرشح المعارضة. بينما اعطى الإصلاح البيعة لصالح مرشح المؤتمر الشعبي الرئيس علي عبدالله صالح. وما سيجرى إذاً مجرد استفتاء أو بيعة أو ماشئت. ولكنها بالتأكيد ليست انتخابات. فالانتخابات في أي قاموس سياسي أو تجربة ديموقراطية هي تنافس بين البرامج والاحزاب والاشخاص والاتجاهات، والمناهج، وبين يمين ويسار ووسط. وما يجري الآن في اليمن اخراج تمثيلية جاهزة لكأنها "أمر دبر بليل". وحسب مؤتمره السادس تصل عضويته الى مليون و300 ألف عضو وهي وحدها ان صحت كافية لفوز مرشح المؤتمر بأكثر من 55 في المئة من الأصوات. وجرى تنافس وسباق بين المؤتمر الشعبي العام الحزب الحاكم والتجمع اليمني للاصلاح ثاني أهم الاحزاب وهو تحالف قبلي اسلامي على من يسبق في اعطاء البيعة للرئيس. وكان الاصلاح كعادته سباقاً في وأد الديموقراطية والافتئات عليها، وتحويل الانتخابات الى بيعة. وتضع التجربة اليمنية الواعدة أو تعيدها سيرتها الأولى في مضمار الوضع العربي العام في منطقة يستطيع الحاكم دائماً ان يفوز بأكثر من عدد أصوات السكان جميعاً: أحياء وأمواتا. ولعل الإضافة اليمنية ان حكومتنا الموقرة، بل والحزب الحاكم بعد ان حشد سجلات قيد الناخبين بالاحياء والأموات والأسماء المتكررة والوهمية وبما يقرب من مليون ناخب حسب حزب الاصلاح وأحزاب المعارضة. وبعد ان رفض أحكام القضاء في تصحيح هذه الجداول والمشهود ببطلانها. وعدم التقيد بالاتفاق بين رئيس الدولة رئيس المؤتمر الشعبي العام وبين الاحزاب خارج الحكم: أحزاب مجلس التنسيق الأعلى للمعارضة والإصلاح على تنقية جداول القيد. أي بعد رفض تسوية أرض الملعب للسباق وتعبيده لطرف واحد وحيد منع الطرف الآخر المعارضة من مجرد دخول حلبة السباق. اما المرشح الثاني الاستاذ نجيب قحطان الشعبي فهو عضو قيادي في حزب المؤتمر الشعبي العام عضو لجنة دائمة لجنة مركزية فقد كفانا مؤنة التشكيك في صحة منافسته بتصريحه بعدم قبول استقالته من قيادة المؤتمر وان برنامجه برنامج الرئيس نفسه. إذاً فأين التنافس؟ وعندما لا يوجود إلا شخص واحد ثم يصطنع الحكم مرشحاً تكتيكياً لتبرير النص القانوني والدستوري وللإيحاء النفسي بوجود شخص آخر منافس يبرر الفوز بحصد كل الأصوات ربما بما في ذلك الصوت المنافس نفسه. فلسنا إذاً إزاء انتخابات بأي معنى. واعتقد ان هذا الوضع هو ما يعطي الصدقية الحقيقية لسؤالكم. ما هي المشكلة الاساسية هل هي الديموقراطية أم الوحدة الوطنية أم التنمية الاقتصادية؟ وفي اعتقادي ان السؤال يلم أو يجمع كل مفاصل الوجع اليمني المزمن، القديم الجديد. فاليمن المجزأ لأكثر من قرن ونصف القرن على يد الاستعمار البريطاني والاحتلال التركي ذات التركيبة القبائلية والعشائرية القوية والضاربة بجذورها في عمق الواقع والتاريخ التي قامت بثورتها وحققت استقلالها بأداتين ثوريتين قوميتين متباينتين، البعث وحركة القوميين العرب. ودار بينهما صراع كان من ثماره المرة حربان: حرب 1972 وحرب 1979 وصراعات أدلجة اليمين واليسار في ظل تركيبة تعود الى عصر ما قبل الدولة. وقد حقق اليمن انجازه التاريخي ببيان الثلاثين من تشرين الثاني نوفمبر 1989 وأقام في 22 من أيار مايو 1990 كيانه الواحد الجمهورية اليمنية. ولا شك في ان الوحدة كانت جمعاً للمزايا والعيوب والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية في النظامين والأداتين. وكانت الديموقراطية هي الأسلوب الفاعل والخلاق لقيام دولة الوحدة، إلا أنها تحققت بحزبين كبيرين اقرا واعترفا بالتعددية السياسية والحزبية، وبهامش للحريات الصحافية، حرية الرأي والتعبير واستقلال المنظمات الجماهيرية. وكان المناخ الديموقراطي يؤكد الوحدة الوطنية بين اليمنيين كأحزاب وكبرامج وكقبائل وكمناطق وكشرائح وفئات. وجاءت الحرب القاسمة صيف 1994 لتعيق مجرى التطور الديموقراطي. وعندما أقر خيار الوحدة بالنهج الديموقراطي كبرت الصعوبات الاقتصادية، وأعباء التنمية. وبدلاً من التوجه للبناء الاقتصادي أتجه الجميع، أقصد الجميع، لشحذ الأسلحة القديمة الجديدة واحتكموا الى الأمر الواقع. وما أسهل العودة للأمر الواقع لأنه يزودنا بكل المبررات الجاهزة الناجزة بما فيها المبررات الدينية القيمية والاخلاقية والسياسية. إنني أتفق تماماً مع مجمل تحليل الاستاذ بلال الحسن في "الحياة" قبل بضعة أسابيع، الذي أثار عاصفة من ردود الفعل غير الصائبة والانفعالية. فأزمة اليمن مرتبطة بضعف مواردها وصعوبة وضعها الاقتصادي. والعجز عن إيجاد تنمية اقتصادية فاعلة لتكون البديل عن الصراعات السياسية الدامية وبحاجة الى اعادة صياغة وتجديد وحدتها الوطنية التي هشمتها حرب 1994 وأضرت بها كثيراً ولن تتحقق تنمية اقتصادية حقيقية ولا مصالحة وطنية من دون النهج الديموقراطي. فهذا المثلث الذهبي الذي يطرحه سؤالكم هو المخرج من أزمة تتفاقم وتقوى وتكبر. فالصعوبات الاقتصادية المتزايدة وشح الموارد وتآكل الدخول وتزايد الفساد والبيروقراطية وترهل الجهاز الاداري وتخلفه اضافة الى المشكلة الرئيسية وهي التركيبة القبلية التي همشت أو تكاد اتحاد المجتمع المدني ودفعت به الى الخلف. وبمقدار ما تتعاظم الصعوبات الاقتصادية وتتراجع خطط التنمية بمقدار ما نلاحظ التضييق على الهامش الديموقراطي وتهميش ركائز المجتمع المدني الأحزاب السياسية والمنظمات الجماهيرية والجمعيات الصحافية والنوادي، وفي المقابل تتصلب شرايين التخوين والتفكير والبحث عن متهمين وضحايا لدوامة الصراع وطاحونة العنف التي تجد سندها في العسكرة والقبيلة التي تزكي دائماً مبدأ الاحتكام الى القوة وتريد بهذه القوة حل المعضلات الاقتصادية والإجابة على أسئلة التطور السياسي ومشاكل التنمية. وبقراءة للوضع الاقتصادي فإن مؤشر الخطورة تبدو جلية فمداخيل النفط والزراعة وعائدات المغتربين تراجعت كثيراً. فالنفط لا يزيد عن 450 ألف برميل في اليوم، وأسعاره غير مستقرة. وعائدات المغتربين التي وصلت الى بليون و200 مليون دولار قبل حرب الخليج الثانية تراجعت ايضاً، ودخل السياحة ضربه التفلت الأمني وعمليات الاختطاف. وألقت حرب الخليج بظلالها القاتمة على اليمن، حين عاد ما يقرب من مليون مهاجر يمني أضافوا أعباء ثقيلة على الوضع الاقتصادي الذي يعاني من اختلالات هيكلية حادة وركود وتباطؤ في النمو وتصاعد وتيرة التضخم والعجز المتصاعد في الموازنة العامة وميزان المدفوعات. ويتآكل باضطراد دخل الفرد، اذ تراجع متوسط دخل الفرد من 550 دولاراً خلال مطلع التسعينات الى 350 دولاراً في العام 1997 حسب التقرير الانمائي الصادر عن الاممالمتحدة. وهو الآن لا يتجاوز أو يتراوح ما بين 240 و260 دولاراً. وهو تراجع مخيف في ظل تصاعد وتيرة ارتفاع الأسعار بسبب الجرع الاقتصادية وارشادات البنك والصندوق الدوليين. وتحتل اليمن حالياً المرتبة 142 من بين الدول الأقل نمواً والأكثر فقراً وتتبوأ مرتبة متقدمة جداً في الأمية، اذ تتجاوز 60 في المئة في صفوف الرجال واكثر من 80 في المئة في صفوف الإناث، ولم يتجاوز النمو 2.5 وهي نسبة ضئيلة جداً اذا ربطت بالنمو السكاني. ويأخذ اليمن حصته من جبل الدين الخارجي الذي ترزح تحته البلدان النامية. وعلى رغم ان اليمن اتفق مع صندوق النقد والبنك الدوليين على برنامج الاصلاح لوقف التدهور الاقتصادي الا ان سعر الصرف ما زال في تدهور مستمر وصل الى 160 ريالاً للدولار وزادت معدلات البطالة والتضخم مع استمرار العجز. وتركزت المعالجات على تحميل الفئات الوسطى والفقيرة أعباء الاصلاح والتنمية ويجري التقيد بإرشادات الصندوق الدولي بحرفية شديدة ما ألحق أضراراً خطيرة بذوي الدخل المحدود وغابت روح العدالة عن معالجات قاسية وأليمة تجلت في انخفاض القوة الشرائية وتفشي البطالة وارتفاع جنوني في الاسعار. واتخذت المعالجات الحكومية شكل قرارات سرية وتركزت في جانب مهم على رفع الاسعار، ولم تتحول الى وثيقة تكون محل حوار وطني شامل وعلمي يتسع للاحزاب السياسية والنقابات والهيئات والمؤسسات والكفاءات وذوي الاختصاص وحتى تعبر عن توافق عام، او مصالحة وطنية شاملة تسهم في تبصير الناس بقضايا تخص مصيرهم ومستقبل اسرهم وتوزع الاعباء الاقتصادية وأعباء التنمية بروح الانصاف والعدل وحسب الدخل، وعوائد الثروة وبما يخدم ويعزز الوحدة الوطنية ويحقق العدل الاجتماعي. ويلاحظ ان الاصلاحات في مراحلها الأولى والثانية على تداخلها غير ناجعة. وعدم نجاح معالجتها ليست إلا مجرد اجراءات تحويلية لجزء من الدخل والثروة من قطاع الى قطاع ومن نشاط اقتصادي الى آخر. وهي وان حققت وقف التدهور الآني والسريع إلا أنها لا تمثل معالجة صائبة وحقيقية على المدى البعيد. كما ان هذه الاصلاحات بسبب طابعها الاداري، ومحدوديتها لم تصل الى مكمن الداء في الجهازين: المالي والاداري وضبط الانفاق. ومثل هذا الاصلاح يحتاج الى ان يتحول الى ادارة سياسية والى نهج سياسي عام ووحدة وطنية. إن رفض الدولة للمصالحة الوطنية يمثل اضراراً مدمراً بالوحدة الوطنية ويؤكد الحرص على رفض التطور الديموقراطي في اليمن. فاليمن بأمس الحاجة لحوار وطني شامل ولمصالحة وطنية تفتح أبواب الحوار على مصراعيه وتجنب اليمن استمرار دوامة التوتر والعنف والاحتكام الى القوة. فالمصالحة في القاموس اليمني هي الوسيلة الوحيدة لتجاوز آثار الحروب والصراعات الدامية والاتجاه لبناء تنمية اقتصادية شاملة بالنهج الديموقراطي وبتحويل المجتمع والدولة الى مجتمع مدني آمن ومسالم والى دولة مدنية تكفل الحقوق والحريات الاساسية وتحد من نفوذ وطغيان الحياة العسكرية والقبلية التي زجت باليمن في آتون الحروب الجزئية والثارات التي طالت المدن وتهدد يومياً الحياة الآمنة في المدن الرئيسية. إن هيبة الدولة تتلاشى مع كل طلقة رصاص طائشة أو غير طائشة تستهدف حياة المدنيين الآمنيين. واضطرت الدولة أكثر من مرة النزول عند حكم القبيلة وتستجيب لخروجها عن القانون وتحتكم الى أعرافها وتلبي سراً وعلانية اسقاطها لهيبة الدولة والعدوان على سيادتها وتهديد المصالح الوطنية العليا. وحقاً فإن هناك تلازماً عميقاً وواقياً بين التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وبناء الوحدة الوطنية والديموقراطية وانه ليستحيل الحديث عن الديموقراطية مع تفشي المجاعة وازدهار الفقر وتآكل فرص العمل للمواطنين، كما ان ليس بالبطن وحده يحيا الانسان. وكانت الميزة الوحيدة لليمن انه يمارس حقاً محدوداً من حقوقه السياسية بالمشاركة في اختيار نوع نظامه السياسي على قوته وفساده وتخلفه، ولكن هذا الحق بدأ في التلاشي مع غياب هيبة الدولة وانتصار الأعراف والثأر وحوادث التقطع والاختطافات التي اضرت ايما اضرار بالأمن والسلام وهددت موارد البترول. ولا تزال الدولة مكفوفة الايدي عن معالجات سياسية واجتماعية وثقافية وتربوية تستوعب القبيلة في توجهها العام نحو بناء كيان يمني ديموقراطي يقوم على العدل الاجتماعي ويوزع موارد البلاد بالقسطاس المستقيم ويفرض هيبة الدولة واحترام الدستور والقانون وتحقيق مواطنة لا يأكل فيها القوي الضعيف ولا يستطيع أحد أياً كان ان يكون فوق النظام والقانون والدستور. كما ان اغلاق باب التداول السلمي للسلطة والوقوف عند اعتاب نتائج شرعية حرب 94 ونبذ مجرد الحديث عن وثيقة العهد والاتفاق التي مهرها المؤتمر والاصلاح ورفض المنافسة مجرد المنافسة ليس على رئاسة الدولة وانما على انتخاب مدير ناحية أصغر وحدة في النظام الاداري ورفض الحكم المحلي ورفض توحيد مناهج التعليم الذي صدر به قانون نافذ لغايات سياسية كثمن للتحالف مع الاصلاح. كلها تشكل العقبات الرئيسية أمام تطور اليمن واستقراره. * كاتب وصحافي وعضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني المعارض.