انتهت الانتخابات الرئاسية في اليمن بفوز الرئيس علي عبدالله صالح بمنصب رئيس الجمهورية في أول انتخابات رئاسية شعبية ومباشرة يشهدها اليمن خلال القرن العشرين وفاز علي صالح - كما كان متوقعاً وربما "مرسوماً" سلفاً - غير ان علي صالح يعتبر هذه الانتخابات التجربة الأولى. ولأن الانتخابات الرئاسية في اليمن هي التجربة الأولى فانها لم تكن تحتمل مرشحاً منافساً للرئيس علي صالح غير نجيب قحطان الشعبي كما ان أي محاولة لحزب سياسي بثقل التجمع اليمني للاصلاح او بتجربة وقوة الحزب الاشتراكي اليمني للدفع بمرشح ينافس علي عبدالله صالح بهدف الفوز بالانتخابات الأولى يعد مجازفة ورهاناً خاسراً، لأن الرئيس علي صالح لا يزال هو الرجل الذي يستحيل على سواه قيادة البلاد خلال السنوات القادمة بكل طموحات المستقبل وإخفاقات الماضي وإبعادها عن شبح الصراعات وأطماع مراكز النفوذ وثارات الخصوم، كما ان معظم اليمنيين ينظرون للرئيس بأنه حقق الوحدة اليمنية عام 1990 ودافع عنها ضد الانفصاليين عام 1994، ومنح الاحزاب والناس حقوقاً ديموقراطية بضمانات دستورية لممارسة المعارضة والصحافة الحرة وحق الترشيح والانتخاب في الانتخابات "البرلمانية" عامي 93 - 1997، والانتخابات الرئاسية وقريباً انتخابات المجالس المحلية. وفي عهد الرئيس صالح تم استخراج النفط في الشمال لأول مرة، وإعادة بناء سد مأرب، واهتم بقضايا المرأة وحقوق الانسان واستيعاب القوى السياسية المتعددة الاتجاهات والتيارات في تنظيم المؤتمر الشعبي العام حين كان الدستور يحرم الحزبية، ونالت المؤسسة العسكرية في عهده اهتماماً كبيراً تنظيماً وتسليحاً والتزاماً بحدود مهماتها ودورها من دون تدخل مباشر في التأثير على الجانب السياسي للحكم على رغم انه جاء من هذه المؤسسة وهو قائدها الأول او لأنه كذلك. وما دام الرئيس صالح يؤكد التزامه على انهاء مظاهر الفوضى واستكمال مسيرة البناء والتنمية والاستقرار والحد من مظاهر الفساد والاختلالات الأمنية والاقتصادية والمالية والادارية في مفاصل الدولة ومحاربة الفقر والجهل والمرض والالتزام بالديموقراطية والتداول السلمي للسلطة فإنه جدير بالثقة لأنه يلتزم بما وعد، هكذا تقول غالبية اليمنيين قبل خوض الانتخابات الرئاسية... ولهذا منحناه اصواتنا هكذا يقولون بعد الانتخابات الرئاسية وفوزه بأغلبية 96.3 في المئة من أصوات الناخبين. ولأن الانتخابات الرئاسية في اليمن هي التجربة الأولى فقد فشل الحزب الاشتراكي اليمني - المعارض - في استيعاب اهميتها والتعامل سياسياً واجتماعياً مع معطياتها وأهدافها القريبة والبعيدة في حين استوعب حزب "التجمع اليمني للاصلاح" كل تلك الظروف المحيطة بالانتخابات الرئاسية وبادر - وفق حسابات سياسية دقيقة - الى ابعاد نفسه عن خوضها منافساً والمشاركة فيها حليفاً عندما اعلن أمين عام الاصلاح محمد اليدومي بأن الرئيس علي صالح هو مرشح "الاصلاح" للانتخابات الرئاسية قبل خوضها بعدة أشهر في حين كان "الاشتراكي" يحاول لملمة أوراقه القديمة والجديدة بما فيها مجلس "التنسيق الأعلى للمعارضة" الذي يتزعمه استعداداً لخوض الانتخابات الرئاسية واضعاً نصب عينيه النيل من الرئيس صالح والحكم عبر وسائل الاعلام الرسمية والحزبية ووسائل الدعاية الانتخابية خلال فترة الحملة الانتخابية والتي يكفلها قانون الانتخابات ويكون بذلك حصل على منابر قوية لممارسة خطابه السياسي ضد خصومه وعبر الوسائل التي يمتلكونها بهدف الاستحواذ على تعاطف شعبي على حساب الرئيس والحزب الحاكم يزيد من رصيده ويعزز من قوة اوراقه بخاصة في محافظات الجنوب التي لا يزال "الاشتراكي" يراهن على ميول ابنائها الى اطروحاته وقياداته "الجنوبية" خصوصاً، وبالتالي كان "الاشتراكي" يرغب في اثبات ميوله للمشاركة في الانتخابات الرئاسية بعد الانتقادات الداخلية والخارجية التي واجهها اثر قراره بمقاطعة الانتخابات النيابية عام 1997م وربما كانت حسابات "الاشتراكي" المنطقية حيال الانتخابات الرئاسية كتجربة أولى محدودة او غائبة بخاصة وقادته البارزين امثال جارالله عمر وعبدالغني عبدالقادر والدكتور سيف صائل وعبدالباري طاهر وحتى الأمين العام علي صالح عباد مقبل كانوا مدركين نتائجها سلفاً، ناهيك عن خصوصياتها وظروفها كتجربة اولى وبأن فوز مرشح "المعارضة" سواء مقبل أو غيره شبه مستحيل امام مرشح بقوة ومكانة علي صالح. اما "الاصلاح" فمن الواضح انه وضع حساباته السياسية في مقدمة أولوياته وهو يدرس مسألة الخوض في الانتخابات الرئاسية وتوصل الى نتائج وفق تلك الحسابات التي تراعي مصالحه ووجوده وعلاقته بالرئيس علي صالح التي منعت عنه سطوة الحزب الحاكم "المؤتمر الشعبي العام" ونوايا بعض تياراته وقياداته في تقليم أصابع الاصلاح ومصالحه منذ انحسار الخصم المشترك "الحزب الاشتراكي" من المعادلة السياسية بعد حرب عام 1994 وتعامل "الاصلاح" وفق هذا المفهوم مع "الانتخابات الرئاسية" من منطلق خوضها منافساً او خوضها حليفاً وقرر ان يكون حليفاً لأنه الاصلاح يدرك بأن دخوله حلبة المنافسة للرئيس علي صالح ولو من الباب الذي دخل منه نجيب قحطان الشعبي من الاستحالة وإقناع قواعده ومناصريه عدم ممارسة حقهم في تأييد مرشح "الاصلاح" خلال الحملة الانتخابية وبالتالي لا يمكن ضمان منع تناول الرئيس صالح بالانتقاد المباشر وهو الاصلاح جرب نفسه في الانتخابات النيابية عام 1997م "ودفع في مقابل الابقاء على مقاعده البرلمانية التي حصل عليها عام 1993م استحقاق الخروج من السلطة بهدوء ومن دون ضجة"، وبالتالي فإن "الاصلاح" رأى ان في غير صالحه ان يخسر الرئيس صالح بقرار منافسته وتجديد العلاقة معه بالتحالف تعني تحالفه مجددا مع حزب "المؤتمر" ليضمن تحييده مستقبلاً او عدم مواجهته وتأمين مصالحه ونشاطه بالاضافة الى ضمان عدم فتح جبهات جديدة اذ يعلم "الاصلاح" انه في حال ان قرر منافسة الرئيس علي صالح فانه يفتح الأبواب على مصراعيها للمساومة بين "المؤتمر" و"الاشتراكي" وسيدفع ب"المؤتمر" الى تقديم تنازلات ل"الاشتراكي" على حسابه، ومن المتوقع ان يكون "الاصلاح" ورط نفسه في مواجهات عدة جبهات وهو في غنى عنها. ولأن قادة "الاصلاح" ينظرون بموضوعية الى واقعه كحزب يقوده جناح "الاخوان المسلمين" القوي والظروف المحيطة به داخلياً وإقليمياً ودولياً ما قد يترتب على اي قطيعة مهما كانت مع الرئيس صالح او خصومه في حزب "المؤتمر" ودخول "الاشتراكي" كجبهة ثالثة من استحقاقات اضطرارية يدفعها "الاصلاح" على حساب وجوده ومصالحه ومشروعه السياسي وطموحاته المستقبلية بخاصة وانه يتعامل مع الديموقراطية كمنحة من الحاكم توجب الحرص على بقائها وتعزيزها بسلوك وممارسة متدرجة لا تدفع بالحاكم الى انتزاع منحته كلما شعر بالخطر منها وبالتالي يصبح "الاصلاح" خارج اللعبة وربما بتأييد ومباركة من الداخل والخارج. لكن "الاشتراكي" خيب آمال عدد من القيادات البارزة في "المؤتمر" برعونة تعامله مع ظروف المرحلة السياسية والديموقراطية في البلد وطموحه في ممارسة ضغوط على الرئيس صالح والحزب الحاكم للحصول على مكاسب سياسية تصل الى مستوى يمكنه من العودة الى السلطة من نافذة الضرورات والحتميات وفق مفاهيمه ومن دون مراعاة لتفكير ومصالح الآخرين و"الاشتراكي" بهكذا تشدد وتصلب في مواقفه بإتجاه الحكم يمنع عن "المتعاطفين" معه في "المؤتمر" فرصة مساعدته لتجاوز واقعه المضطرب ويسهم في عزل نفسه معتقداً انه الأفضل والأكثر تأثيراً ومنطقية في خطابه السياسي والاعلامي وتعامله مع واقع الحال في اليمن. كما ان الحقيقة التي يؤكدها زعماء "المؤتمر" و"الاصلاح" بين حين وآخر بأنه لا وجود لصفقة سياسية مستقبلية بين الحزبين الحليفين مقابل التحالف بينهما في الانتخابات الرئاسية ودعم المرشح المشترك الرئيس علي عبدالله صالح فالاصلاح لا يتطلع الى استحقاقات في مقابل التحالف اكثر من الحفاظ على مصالحه السياسية والتنظيمية التي حققها خلال 9 سنوات بعد الوحدة اليمنية وتركه يمارس نشاطه من دون مضايقة او مصادمات مع المؤتمر الشعبي العام او غيره او محاولة احتوائه فيما تسود اوساط القيادات "المؤتمرية" مخاوف من محاولة "الاصلاح" الحصول على مكاسب جديدة في مقابل التحالف في الانتخابات الرئاسية مستقبلاً بل وصلت تلك المخاوف الى درجة اشاعة انباء روجتها دوائر في "المؤتمر" بأن عناصر حزب "الاصلاح" امتنعت عن المشاركة في الاقتراع بهدف احراج "المؤتمر الشعبي" أمام زعيمه المرشح الرئيس علي صالح وهي محاولة للنيل من العلاقة بين الرئيس والاصلاح وإقحامها في دائرة الشك تمهيداً لانهيارها مستقبلاً. ومن غير المستبعد ان علي صالح ترك الفرصة متاحة للراغبين في مغازلة "الاشتراكي" وسحبه الى حلبة اللعبة الديموقراطية على رغم تأكيده ان "الاشتراكي" مصرّ على السير خارج السرب متشدداً في خطابه ومواقفه ومتعصباً لطموحاته وغير مستعد لتقديم التنازلات وان في حدودها الدنيا وهو بذلك لم يكبح آمال قيادات "المؤتمر" الراغبة في مساومة "الاشتراكي" ولما أغلق "الاشتراكي" كل المنافذ تقريباً، اصبح التعامل مع مرونة "الاصلاح" واستعداده للتحالف بدلاً من المنافسة في الانتخابات الرئاسية ضرورة حتمية وبالتالي مقبولة على مضض وكثير من التحفظات لدى "المؤتمر" كحزب فيما كان يدرك "الاصلاح" ان استعداده للتحالف لا يكفي وعليه ان يمضي في دور الحليف الى النهاية، ومنع اصوات اعضائه في "البرلمان" من منح التزكية "البرلمانية" المطلوبة على مرشح الحزب الاشتراكي والمعارضة علي صالح عباد مقبل. وأدرك الرئيس صالح ان "الاصلاح" قادر على التكتيك والمناورة وسلوك طريق السلامة بنجاح مما يعكس مقدرة تنظيمية على التعامل مع حسابات الآخرين بما يحفظ له مصالحه وطموحه في البقاء والمشاركة فكان ان غير الرئيس صالح لهجته تجاه "الاشتراكي" والمعارضة من حملة الاتهامات العنيفة بممارسة العنف والتشدد والخصومة مع الشعب والوطن ومناهضة الديموقراطية والمنجزات وعدم الالتزام بالثوابت الوطنية والتآمر والكيد والطموح غير المشروع الى خطاب جديد فقد استعد الرئيس صالح منذ لحظة ادلائه بصوته لفتح صفحة جديدة بعد الانتخابات، معتبراً مقاطعة "المعارضة" للانتخابات حقاً ديموقراطياً مثله مثل المشاركة فيها كما استعد الرئيس علي صالح بعد اعلان فوزه في الانتخابات الرئاسية لخوض حوار مع الاشتراكي وقيادته في الداخل والخارج، مؤكداً على دعوته اغلاق ملفات الماضي والتحدث عن المستقبل ومتطلباته وضروراته التي تحتم تعاون وتكاتف جميع القوى السياسية الفاعلة في البلد. والتقط قياديون بارزون في "المؤتمر" لا يخفون تعاطفهم مع "الاشتراكي" اشارة الرئيس بسرعة، وأعلن العميد يحيى المتوكل الأمين العام المساعد ل"المؤتمر" ان الحزب الحاكم سيبدأ حواراً فورياً مع "الاشتراكي" وأحزاب المعارضة المؤثرة. وفي ضوء تصريحات الرئيس، مفيداً ان "الاشتراكي" صاحب دور تاريخي في قضية الوحدة وله مؤيدوه وقواعده ومن الصعب تجاهله غير ان المتوكل اشترط الحد الادنى من التنازلات التي ينبغي على "الاشتراكي" تقديمها وتتمثل في ادانة الانفصال والقيادات التي صدر بحقها حكم قضائي الموجودة خارج البلاد. وعندما سألت السيد جارالله عمر عضو المكتب السياسي ل"الاشتراكي" سكرتير لجنته المركزية عن رأيه في تصريحات الرئيس علي صالح باتجاه "الاشتراكي" بعد انتهاء الانتخابات اعتبرها "مناورة" ومضمونها واضح هو المزيد من الضربات الموجعة ضد "الاشتراكي". والسؤال الذي يفرض نفسه: ما الذي يريده "الاشتراكي" بعد كل هذا المخاض والتجارب؟ الحزب الاشتراكي امام محك حقيقي فإما يثبت انه ربح رهانه مع التجربة الاخيرة وقرر التعامل مع الواقع والنتائج ويقبل بكل اطراف اللعبة "الديموقراطية" او يبقى خارج دائرة التفاعل مهدداً من داخله بالانهيار ومن خارجه بالتهميش وربما الانقراض والفرصة لا تزال مواتية امام الاشتراكي ومنظومة المعارضة التي يتزعمها لتغيير المعادلة السياسية في اليمن لتصبح بين طرفين بخاصة وان الطرف المهيمن على الواقع يشعر بالحاجة الى ان يلعب مع خصم جديد بالمنافسة لأنه ملّ اللعب مع نفسه ومحيطه وأنصاره و"الاشتراكي" إما ان يقبل رهان الآخرين او يخسر من جديد. * كاتب من أسرة "الحياة".