على أبواب الانتخابات الرئاسية في اليمن، والتي ستبدأ يوم 23 ايلول سبتمبر الجاري، ارتأت "الحياة" ان تستطلع آراء نخبة من الكتاب اليمنيين، ذوي الولاءات السياسية المحددة، والذين يمثلون ألوان الطيف السياسي اليمني. وبما ان انتخابات الرئاسة ليست مسألة شخصية بقدر ما هي مسألة سياسية عامة، وبما انها تثير سلسلة من الأسئلة والقضايا، فقد كان توجهنا ان نطرح على الكتاب المعنيين سؤالاً مركزياً يمس جوهر الحياة السياسية اليمنية، ليطل كل منهم على انتخابات الرئاسة، من خلاله، وبما يعمق مناقشة القضايا، ويطلع القارئ على التوجهات الحقيقية للحوار الدائر في اليمن. وكان سؤال "الحياة": وأنهم على أبواب الانتخابات الرئاسية، ما هي المشكلة الأساسية في اليمن من وجهة نظركم، هل هي الديموقراطية، أم الوحدة الوطنية، أم التنمية الاقتصادية، وكيف يكون العمل لتحقيق أولويات المستقبل؟ وقد تجاوب مع دعوة "الحياة" كتاب يمنيون بارزون، سننشر مداخلاتهم بالتوالي. فيما مضى كان السؤال، كيف نحقق الوحدة وكيف نحميها؟ وكيف نعلن الديموقراطية؟ وكيف نطبقها؟ وكانت الاجابة بالايجاب تتجاوز حدود الممكنات الى ما يشبه المستحيلات حتى ولو اقترنت بالاستعداد للتضحية بالمال والجهد والروح والدم. ولكن مع الارادة اصبح المستحيل ممكناً عبر مزيجاً من العمل السلمي والعمل العسكري، اكسبت الوحدة والديموقراطية مقومات الديمومة والاستمرار. وأصبح السؤال ونحن قاب قوسين أو ادنى من الانتخابات الرئاسية الأولى. ثم ماذا بعد الوحدة والديموقراطية وإغلاق ملفات الماضي واعادة بناء ما دمرته الحرب وتضميد النازف من الجروح؟ وأصبحت الاجابة ونحن على مفترق طرق. بين ماضٍ تحقق ولا يمكن الغاؤه، وبين مستقبل يجب ان يتحقق ويحتاج الى جهود متضافرة. تضع التنمية الاقتصادية الاجتماعية المستدامة هي الهم الأول والأخير لجميع الخيرين الذين تقع عليهم مسؤولية بناء اليمن الحضاري الجديد. وخصوصاً أولئك الذين يستوعبون حقيقة الترابط الجدلي بين السياسة وبين الاقتصاد. دعك من تلك المفردات التي تنظر للسياسة انها غاية لذاتها. حكم لمجرد حكم. لأن التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة غاية الحكم. الكفيلة بتغليب الكفاية على الحاجة والغنى على الفقر، والتقدم على التخلف، في مجتمع فقير طموحاته اكثر بكثير من امكاناته، يقيس النجاح والفشل بمدى ما يتحقق من الرخاء الواعد بالسعادة للجميع عبر خلق فرص عمل جديدة لجميع الخريجين والعاطلين. أقول ذلك وأقصد به، ان الوحدة اصبحت اليوم مجموعة من الامكانات والثروات والموارد الطبيعية البشرية توفر للتنمية الاقتصادية فرص نجاح لا يمكن المقارنة بينها وبين ما كان متاحاً في ظل التجزئة من الفرص الضئيلة التي لا تصمد في مجال المقارنة والمفاضلة. وبالقدر ذاته من الأهمية تصبح الديموقراطية القائمة على التعددية الحزبية والسياسية والتداول السلمي للسلطة، مجموعة من الطاقات والجهود الجماعية الباحثة عن افضل الأساليب وأفضل الوسائل لوضع الخطط والبرامج العلمية وما تحتاج اليه في ميادين التطبيق والممارسة العملية من تعاون وتكامل بين من هم في موقع الحكم ومن هم في ساحة المعارضة على قاعدة المصالح الاقتصادية والاجتماعية المشتركة للشعب. وفي واقع كهذا اصبحت المعاناة المشتركة هي الموروث الذي يتضرر من جرائه من هم في الحكم ومن هم في المعارضة وأصبحت الحاجة اساس التعاون الباحث عن مقومات الاستقرار والأمن. ولا يمكن للتعاون ان يشكل تصادماً مع التعدد والتنوع في الوحدة الوطنية والديموقراطية الضاربة جذورها في اعماق الشعب، باعتبارهما الحياة والحرية والتقدم الباحث عن الرخاء. ان الوحدة في نطاق الاختلاف تؤكدها مجموعة الحقوق والحريات التي كفلها الدستور وتنظمها القوانين النافذة على قاعدة المواطنة المتساوية المستندة الى منظومة من افضل القوانين تجعل المواطنة المتساوية هي الثابت الأول ولا أقول الوحيد بين اخوة متساوين في الحقوق وفي الواجبات. قد يختلفون وقد يختصمون وقد يتشاجرون على المصالح وعلى المبادئ، لكن احداً منهم لا يستطيع ان ينكر على الآخر حقه في المشاركة الديموقراطية والمنافسة الانتخابية طالما كان يستند الى قواعد وأحكام قانونية ودستورية جاهزة. قد يكون من حق المعارضة ان تبالغ في تجسيم اخطاء الحكومة. وقد يكون من حق الحكومة ان تقلل من الحجج الدامغة للمعارضة. ولكن لا يكون بمقدور المعارضة تشويه ايجابيات الحكومة ولا يكون بمقدور الحكومة النيل من ايجابيات وفوائد المعارضة في مجتمع ديموقراطي مفتوح لتعدد الآراء وصراعها باستمرار في نطاق الوحدة الباحثة عن التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي يستفيد منه الجميع ولا يتضرر منه احد قط... ومهما بدت المكايدات والمناكفات الحزبية مؤلمة لكنها سنة الحياة القائمة على المفاضلة بين رحمة الخلاف وبين لعنة الكراهية والحقد. اقول ذلك وأقصد به وبتجرد من الأنانية وحب الأنا ان اختلاف الاحزاب والتنظيمات السياسية ومنافستها على التداول السلمي للسلطة لا يخول للحكومة حق اللجوء الى اجراءات غير قانونية لحرمان المعارضة من حقها في المشاركة لأن واجبها ان تحكم اليوم بعقلية من سيعارض في الغد حتى لا تكون ضحية لسنة سيئة سنتها تحت تأثير الخوف على السلطة. ومن المنطلق ذاته فإن حق الاختلاف لا يخول للمعارضة لحق اللجوء الى مطالبة الحكومة بتحقيق منجزات كالمعجزات خارج نطاق القوانين والبرامج السياسية، لأنها تعارض اليوم بعقلية من سيحكم في الغد حتى لا تكون في الغد ضحية لسنة سيئة سنتها اليوم تحت تأثير الطمع في السلطة. لأن الشراكة في الوطن توجب الشراكة بالمسؤولية ولكن من مواقع مختلفة. الشعب هو مصدر السلطة والبرامج هي العقد الاجتماعي بين المرشحين وبين الناخبين، في العملية الديموقراطية. وفي مجال التنمية الاقتصادية الديموقراطية لا بد على الأغلبية الحاكمة والأقلية المعارضة على حد سواء من اعادة كتابة البرامج الانتخابية بلغة الأرقام والعلم، بدلاً من البرامج التقليدية الانشائية المكتوبة بلغة الأدب والشعر وخيال القدرة على التفلسف. ولا يمكن للمراجعة الجادة والمجربة ان تستمر من دون الاستعداد للتقارب من السفسطة الى الموضوعية والواقعية. ومعنى ذلك ان على الذين اعتادوا التطرف الى الامام في ظل الشمولية ان يتراجعوا خطوات الى الخلف وعلى الذين اعتادوا التطرف الى الخلف في ظل الديكتاتورية ان يتقدموا خطوات الى الأمام حتى يتحقق اللقاء على مائدة وسط مستديرة لا غالب فيها ولا مغلوب بدافع البحث عن الحلول العلمية والعملية الكفيلة بتحقيق التقدم القادر على التعامل مع المتطلبات التقنية والتكنولوجية للألفية الثالثة، من خلال اولويات ومهمات تنظيمية يتم الاتفاق عليها في كيفية ادارة عجلة الخلاف القائم على التعدد والتنوع في المرجعية الدستورية والقانونية. وإذا كان بناء مؤسسات المجتمع المدني أمنية عريضة يتطلع اليها من هم في الحكم ومن هم في المعارضة فإن القفز فوق الواقع مسألة خيالية تنطلق من الفراغ وتنتهي الى الفراغ، لأنها تستبدل الواقعية والموضوعية بالأحلام السرابية المتناثرة فوق جدار المستحيل وحتى يكون ما أقصده واضحاً لا بد من الاعتراف ان البنية الاجتماعية في اليمن لا زالت في سياق التطور التاريخي مزيجاً من تداخل ما هو اسري بما هو قبلي وما هو قبلي بما هو عشائري، ولا زالت الثقافات الهادفة الى اضافة التجهيل الى الجهل موجودة وفي حالة صراع مع الثقافات الجديدة. وما زال الحراك الاجتماعي الاقتصادي مزيجاً من ذلك وذاك لأن التنظيمات السياسية ما زالت تعاني من التخلف الذي يجعل تأثير القبلية والسلالية في الاحزاب اكثر من تأثير الاحزاب في النزعات السلالية والعشائرية والقبلية. والدليل على ذلك ان الصحافة الحزبية حاكمة كانت او معارضة تهتم في نقل الظواهر السلبية كأعمال الخطف وتدمير انابيب النفط وأعمال الثأر والاقتتال بين القبائل والاقتتال على الأراضي الخ... اكثر من اهتمامها بنقل الظواهر الايجابية في المجالات العديدة والمتنوعة للاستثمار والسياحة. حتى القبيلة والعشيرة التي نناضل من اجل غزوها في التعليم والمواصلات وفرص العمل الجديدة كأهداف نسعى اليها لا تخلو من الايجابيات، على رغم ما لديها من العيوب والسلبيات. يعتقد البعض من المزايدين على بناء المجتمع المدني بجرة قلم، ان واجب الدولة يحتم عليها توصيل المدنية الى القبلية محمولة على متن المدفع والطائرة والدبابة والصاروخ، حتى ترضخ للقوانين تحت وطأة التهديد والوعيد بالدماء والدمار والخراب، ولا يضع هؤلاء في الاعتبار مغبة العواقب الوخيمة للعنف قياساً الى ظروف وعوامل التأثير الداخلية والخارجية المحيطة بالقبيلة، سواء تلك المتمثلة بالجهل والفقر، او تلك المتمثلة في المغريات المادية والسياسية. وبالطبع فإن من يحكم اكثر ادراكاً وحرصاً على انتهاج الأساليب السلمية والعقلانية في معالجة المشاكل والمناكفات والثارات القبلية ربما لأنه يعرف على الأقل كيف ومتى يستخدم العقل وكيف ومتى يستخدم القوة. ولا اعتقد ان المعارضة سيكون لها اسلوباً آخر في الحلول العلمية والعملية اذا اصبحت في موضع الحكم. ولا اعتقد ان من هم في الحكم سوف يحتفظون بالسياسة المرنة نفسها اذا تحولوا الى المعارضة طالما بقيت الذاتية متأرجحة بين التصرفات الانفعالية تحت تأثير الخوف على السلطة او تحت تأثير الطمع فيها. ومعنى ذلك ان الحديث عن بناء المجتمع المدني، هو في ابعاده حديث عن تطبيق القوانين من حيث هي سلسلة من الحقوق والواجبات والعلاقات. والحديث عن الاستقرار السياسي هو في ابعاده حديث بناء المؤسسات الدستورية للدولة القادرة على تطبيق القوانين من حيث هي سلسلة من الحقوق والواجبات والعلاقات، والحديث عن الاستقرار السياسي هو في ابعاده حديث عن الاستقرار الاقتصادي من اجل حياة حرة مزدهرة يتحقق فيها الأمن بمفهومه القضائي والغذائي والخدمي الخ... وحتى لا يأخذنا الاستطراد الى اغفال الحديث عن المرشحين للرئاسة، لا بد من الاشارة الى ان بعض احزاب المعارضة وقفت الى جانب المؤتمر الشعبي العام في ترشيح الرئيس علي عبدالله صالح اعترافاً بما لديه من دور تاريخي في تحقيق وحماية منجزات بحجم الوحدة، ونظراً لما يحظى به من الثقة في الأوساط الشعبية والعسكرية والحزبية تجعله الأقدر على بناء الدولة اليمنية الحديثة والقادرة على احراز النجاحات الاقتصادية والاجتماعية في هذه المرحلة الاستثنائية المهمة من تاريخ الشعب اليمني على نحو يمكن للمؤسسات من القيام بدور القيادات التاريخية المجربة. غير ان بعض احزاب المعارضة حاولت الدخول الى المنافسة الانتخابية بأساليب فجة وخالية من ابسط مقومات المرونة السياسية الصادرة من عقلية حوارية تتخذ الديموقراطية وسيلة للتحول من ساحة المعارضة الى موقع الحكم. فراح مرشحها يكرر اللغة القديمة الأقرب الى لغة الحرب منها الى لغة التداول السلمي للسلطة غير معترف بشرعية المؤسسات الدستورية التي صعدت الى الحكم عبر انتخابات برلمانية شرعية بغض النظر عن مقاطعته المعبرة عن قناعاته. ولما كان الدستور والقوانين النافذة تقف في صف الاكثر تأثيراً في مجلس النواب فإن الامتناع عن تزكية هذا المرشح احد الحقوق الدستورية المكفولة لأصحابها لا تعني الانتقاص من الديموقراطية طالما كانت في نطاق الشرعية الدستورية ولا تتصادم مع سيادة القانون. ولو كان امين عام الحزب الاشتراكي حريصاً على الدخول في الانتخابات الرئاسية لما كان قاطع الانتخابات البرلمانية. ولو كان حريصاً على البقاء في السلطة لما كان لجأ الى الانفصال. لو كان حريصاً على التعاون لما كان لجأ الى لغة التحدي. وسواء شارك في المنافسة او لم يشارك فإن الانتخابات الرئاسية محسومة سلفاً وليست اكثر من الالتزام بالقواعد الدستورية طالما اجمعت عشرة احزاب على الدخول بمرشح واحد بحكم دوره وخبرته وليس تحت تأثير عوامل الخوف او المصلحة الذاتية. وخير شاهد على ذلك اصواتها في اول انتخابات برلمانية وثاني انتخابات برلمانية مقارنة بأصوات احزاب مجلس التنسيق حينما كانت في الحكم وحينما اصبحت في المعارضة. خلاصة القول ان المشكلة الاقتصادية في اليمن التحدي الأول الذي يوجب على كل الاحزاب والتنظيمات السياسية اعطائه الأولوية في برامجها السياسية ووسائلها الاعلامية. * الأمين العام للحزب الناصري الديموقراطي، والأمين العام للمجلس الوطني للمعارضة.