رغم رحيله عن عالمنا منذ سنوات إلاّ أنّ حياته لا تزال مصدراً ثرّاً مُلهِماً، إنه الأديب الموسوعي الكبير خورخي بورخيس الذي عدّه النقّاد والمثقفون العالميون أكبر موهبة ثقافية مرّت في القرن الحديث بالإضافة للكاتب والمسرحي البريطاني اللامع شكسبير. هذا الأديب الذي أحيا نموذج المثقف الأنواري في موسوعيته كما قال عبدالكريم الخطيبي، كان له الفضل في إعادة تشكيل التراث الثقافي لموطنه الأصلي الذي لم يكن يمتلك -بحسب ما يروى- تراثات قوية، وأنّه بعمله الثقافي الجبّار الذي اضطلع به لوحده تمكّن من خلق تراث لبلد لا تراث له، وهو ما دفع مجايله الكاتب الأرجنتيني إرنستو ساباتو أن يقول في حقّه: "لقد كان بورخيس أحد كبار الكُتّاب في زمننا وأحد سادة اللغة الإسبانية". ولأنّ حياة بورخيس من الحيوات الملهمة فعلاً التي تستحقّ التأمّل فالكتابات عنها لا تني تأخذ أشكالاً عديدة وبتواتر متصاعد يرسّح كونيّة الأديب المثقف المؤثّر والعابر للأجيال. ومن الكُتُب المهمة التي تناولت فكر وأثر هذا العملاق الأدبي كتاب "بورخيس - صانع المتاهات" الذي أعده محمد آيت لعميم الذي رأى أنه رغم ترجمة أعماله إلى لغات عديدة فمع الأسف فإنّ ترجمته إلى العربية لم تشفِ غليلاً ولم تُداوِ عليلاً وأنّ كل هذه الجهود للتعريف تظلّ غير كافية. يذهب النقاد إلى أنه لولا نثر بورخيس لما كانت هناك أصلاً رواية أميركية إسبانية، ويذهب فوينتس إلى أن بورخيس دمّر كلّ الحدود بين الآداب، وأغنى مأوانا القشتالي بكل الكنوز المتخيّلة لأدب الشرق والغرب، وكان قد مكّننا من الذهاب إلى الأمام بإحساس امتلاك أكثر مما كتبنا، يعني أن نمتلك كل ما قرأناه. إضاءات مهمة ولافتة أشار إليها كتاب "صانع المتاهات" منها ما يتعلق بصيت بورخيس في العالم جرّده من الجنسية، وأنّ قراءته ككاتب بلا جنسية، وكعظيم من العظماء، مبرّرة من النواحي الجمالية، ومع هذا لا يوجد في الأرجنتين كاتب أكثر أرجنتينية من بورخيس، وهو ما يقودنا إلى أن المحلية هي المُنطَلَق للعالمية كما حدث مع نجيب محفوظ. لا تكمن عظمة بورخيس من كونه أعمى استطاع أن يضيء لبني قومه بل للعالم لمعات الفكر والثقافة العالية التي تمتح من المخيال والرؤى المتبصّرة ومضاتها، بل من كونه أنموذجاً للدأب والصبر والمثابرة والوفاء للموهبة، فهو -كما أشار الكاتب- لم يتبرّم من العمى، بل قبل به دون أسى، إذ سيجعل من تردّده وسط الظلال موضوعاً للمديح (مديح الظّل)، لأنه كان يستشف من خلاله نوراً داخلياً، ولذلك سمّتْهُ مارغريت يورسنار "الأعمى الرائي". ومن اللافت أيضاً -وهي نقطة جديرة بالتأمّل- أنّ بورخيس لم يكن يفخر بالصفحات التي كتبها، بل بالصفحات التي قرأ، وفيما يتعلّق بالكتابة فإنه كان ينتظر أن تجود عليه آلة الإلهام، فلا يعتريه قلق إن تأخرت الكتابة، فهو لا يضخّم المسألة، إذ كل شيء بسيط، إن أتت الكتابة يكتب، وإن لم تأتِ لا يقلق. بقي أن نشير إلى كتاب "صانع المتاهة " كتاب خليق بالقراءة الفاحصة التي من شأنها تثمير وعينا بأهمية الاستضاءة بفكر ولمعات الإبداع لتلك القامات الاستثنائية في الفكر والثقافة، فالكتاب بذل فيه مترجمه جهداً مضاعفاً في الحوارات والمقالات التي أنجزها لتكون مقاليد لفتح كنوز بورخيس.