كان العام السابق عام الانتصارات التركية على الحلفاء الذين كانوا أذاقوا الامبراطورية العثمانية مرارة الهزيمة خلال الحرب العالمية الثانية. وكان مصطفى كمال أحد أهم اللاعبين الذين تمكنوا من المزاوجة بين المناورات السياسية والتحركات العسكرية، لتحقيق تلك الانتصارات التي أعادت الى الاتراك كرامتهم، ولو على حساب النهاية الكأداء التي كانت من نصيب دولة السلاطين والخلافة. وهكذا حين تلت الانتصارات، في ربيع العام 1923، جلسات مؤتمر السلم الدولي في لوزان في سويسرا، وأسفرت تلك الجلسات في صيف العام نفسه عن الاعتراف ب"وجود دولة تركية جديدة مستقلة كلياً"، كان في إمكان مصطفى كمال ان يشعر ان عليه الآن ان ينتقل كلياً من العمل العسكري والتآمري، الى العمل السياسي. ولا سيما بعد ان كان الرجل قد قام أوائل ذلك العام نفسه بجولة في المناطق الشرقية من تركيا، برفقة عصمت اينونو، كشفت له، حسب تعبيره، كم ان الشعب يحبه ويتوقع منه الآن ان يحدث في البلد انطلاقة سياسية بعد الانجازات العسكرية الكبرى. من هنا كان من الطبيعي لمصطفى كمال ان يعلن يوم الحادي عشر من ايلول سبتمبر 1923 عن التأسيس الرسمي لحزب سياسي جديد هو "حزب الشعب الجمهوري"، وكان من الطبيعي ان يعلن الحزب انه عقد مؤتمراً انتخب خلاله مصطفى كمال رئيساً له... وذلك حتى من قبل تعيين لجنة تنفيذية للحزب. وكان مصطفى كمال قد أعلن منذ نهاية العام 1922 عن ضرورة تكوين قاعدة سياسية حزبية تحقق "المبادئ التسعة" التي كان أعلنها بوصفها قواعد تأسيسية للجمهورية التركية. وفي ذلك الحين كانت السلطنة قد ألغيت، وابقي على الخلافة، لكن الخلافة نفسها كانت قد أضحت أمراً صُورياً لا أكثر. ما عنى ان الأجواء باتت مهيأة فعلاً لإعلان تركيا جمهورية. وهو ما سيحدث بالفعل في نهاية شهر تشرين الأول اكتوبر من ذلك العام، أي بعد أقل من شهرين من تأسيس مصطفى كمال لحزبه الجمهوري. الحزب الذي لم يجد حاجة الى اخفاء نزعته الجمهورية في ذلك الحين. بالنسبة الى "المبادئ التسعة" نذكر ان مصطفى كمال كان أعلنها، على شكل برنامج انتخابي يخص المرشحين للانتخابات النيابية، منذ خريف العام 1922. وبعد الانتخابات، وبعد حصول تركيا على استقلالها، وحين لاح لمصطفى كمال ان الوقت قد حان لاعلان الحزب، جمع النواب المنتخبين على لائحته، يوم 7 آب اكتوبر من ذلك العام، تحت رئاسته للبحث في مستقبل عملهم السياسي ووضع أسس قيام حزبهم العتيد. وبالفعل تم خلال ذلك الاجتماع تبني فكرة انشاء الحزب وتسميته و"المبادئ التسعة" بوصفها دستوراً له، و"فعل ايمان بتركيا المستقبل" - حسب تعبير عصمت اينونو - وظل النواب ومساعدو مصطفى كمال يتداولون طوال أسابيع في التفاصيل المتعلقة باعلان الحزب، حتى عشية يوم 11 ايلول. وكان من الواضح ان القرارات والنظم كافة تصب في صالح هيمنة مصطفى كمال الكلية على الحزب، الذي كان فاز بالغالبية العظمى من مقاعد البرلمان حتى من قبل تأسيسه، وبالتالي على الحياة السياسية في البلاد. والملفت هنا ان مصطفى كمال ظل على الدوام، خلال تلك المرحلة، حريصاً على عدم توضيح أي من مشاريعه السياسية وما يخبئه، شخصياً، لمستقبل تركيا، خارج اطار المبادئ التسعة التي كانت مجرد عموميات مليئة بالشعارات والنوايا الطيبة، قد تصلح لتجميع أنصار من حول زعيم، لكنها لا تصلح أبداً لوضع استراتيجية حكم لبلد كبير ومتشعب المشاكل مثل تركيا. كان مصطفى كمال يتفادى الإعلان عما يضمره لأنه كان يعرف، حسب كاتبي سيرته "انه حتى ضمن حلقة أنصاره الأكثر ولاء له، سوف يلقى معارضة شديدة، ما أن يتعلق الأمر بإحداث تبديل جذري في المؤسسات، أو دفع الناس الى تبديل الأعراف والعادات التي كانت أقرب اليهم، دائماً، من حبل الوريد. فمصطفى كمال، لوحده تقريباً، كان قد قرر ان يؤسس دولة تركية جديدة ومعاصرة، غايتها، في رأيه "ان تنافس، وفي المجالات كافة، أكثر الامم تقدماً في العالم". كان يريد ان يجعل الحكم المطلق في البلد ل"العلم والعقل" بوصفهما الوسيلتين الوحيدتين للتصدي "للعقلية الضيقة والمحافظة التي حكمت الامبراطورية طوال قرون عدة من الزمن، ووقفت على الدوام حائلاً دون تقدم الشعب ودخوله العصور الحديثة من أبوابها الواسعة". والحال ان مشروع مصطفى كمال الذي بدا خيالياً أول الأمر، يطبق وسط معارضة عنيفة له، سادت حتى داخل حزب مصطفى كمال، الذي كان تأسيسه في مثل هذا اليوم من العام 1923، اشارة أولى الى دخول تركيا العصور الحديثة.