عِنوانُ المقالِ هو أقل ما يمكنُ وصفه لما يحدثُ في أروقةِ السياسةِ الداخليةِ في تركيا حينَ فَجَّرَ أحدُ نوابِ حزبِ العدالةِ والتنميةِ الحاكم في لقاءٍ تلفزيوني على قناة «سي إن إن تورك» الإخبارية أحد أخطر الموضوعات والمحرمات في السياسة التركية. النائب البرلماني إيهان أوغان وهو برلمانيٌ بارزٌ ينتمي لحزب العدالةِ والتنميةِ الذي يرأسه رئيسُ الجمهوريةِ رجب طيب أردوغان وفي لقاءٍ تلفزيوني خاص بمرور عامٍ على المحاولةِ الانقلابية الفاشلة في شهر يوليو من العام الماضي وصف ما يقوم به اردوغان بأنه: «بناءُ دولةٍ جديدةٍ قائدها المؤسس هو الرئيس رجب طيب أردوغان». الثورة التي أحدثها هذا التصريح مفهومة لكل من يعرف التاريخ التركي المعاصر ومدى الارتباط الوثيق رسميًا وشعبيًا بتأسيس الجمهورية التركية الحالية. فأي رأي مخالفٍ للواقع التاريخي من أي كان يشكلُ تهديدًا للهويةِ التركيةِ التي آمن بها الأتراكُ مُنذ بداية تأسيس دولتهم المعاصرة بعد انهيار الدولة العثمانية واختفائها للأبد. في 29 أكتوبر من عام 1923م أعلن مصطفى كمال أتاتورك تأسيسَ الجمهوريةِ التركيةِ وإنهاء الخلافةِ بعد أن أنهى قبلها بعام السلطنة العثمانية ليكون بذلك التاريخ هو المؤسسُ الأوحد للجمهورية وليصنع تاريخًا جديدًا للأتراك بعيدًا بالكلية عن التاريخ العثماني بل سعى إلى إنهاء أي ارتباطٍ بين الاثنين حين غير قواعد وكتابة اللغة التركية وحرَّم الحديث عن دراسة التاريخ العثماني وأعلن صراحةً أن الجمهوريةَ التركيةَ ليس لها علاقة لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ مع الفترةِ العثمانيةِ وأن حدودَ دولتِه هي الحدودُ الجديدةُ للجمهوريةِ وهو بذلك يشكل هويةً تركيةً خالصةً. رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي طالب الرئيس أردوغان بإيضاح موقفِه والردِ على تصريحات نائبِ حزبِه بقوله: «أن القولَ: إن هناك دولةً جديدةً تتشكلُ معناه القبول بوجود دولةٍ قديمةٍ مستهدفةٍ وفي طريقِها للانهيار. هناك دولةٌ واحدةٌ اسمُها الجمهوريةُ التركيةُ وسوف تبقى على هذا النحوِ». كما أشار المتحدثُ باسم حزب الشعب الجمهوري وهو ثاني أكبر الأحزاب التركية الحالية ومؤسِّسُه هو كمال أتاتورك نفسه، بولنت ترجان إلى «أن تصريحات أوغان لا ترفع المسؤولية عن حزب العدالة والتنمية، وأنها ليست فقط معبرة عن رأي شخصي كما يحاول الحزب أن يصور». أمام الثورة التي أحدثتها تصريحاتُ أوغان وجد كبارُ قادةِ حزب العدالة والتنمية عدا الرئيس أردوغان أنفسَهم مجبرين إلى توضيح موقف الحزب وإلى نفي أي نيةٍ لديه في إحداث تغييرٍ في واقعِ تأسيسِ الجمهوريةِ ومؤسسِها أتاتورك. المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية ماهر أونال قال بوضوحٍ: إن تصريحات أوغان تعبيرٌ عن موقفٍ شخصي، ونؤكدُ مرة أخرى أن الزعيمَ المؤسسَ للجمهوريةِ التركيةِ هو بطلُ معركةِ جناق قلعة وحروب الاستقلال مصطفى كمال أتاتورك». ومعركة جناق قلعة وهو الاسم التركي لمضيق الدردنيل كانت المعركة الحاسمة التي قادها أتاتورك ضد قوات الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، والتي أدت إلى بداية تحرير جميع الأراضي التركية من سيطرة قوات الحلفاء. رئيس الوزراء التركي (بن علي يلدريم) بدوره أكد على تأسيس الجمهورية والاعتراف بدور أتاتورك حين وجه انتقادًا لتصريح أوغان بقوله: «أتمزح؟ الجمهورية التركية تأسست في 29 أكتوبر 1923م». كل هذه الضجة التي وصفناها بالثورة وهي كذلك إنما هي تأكيدٌ على أن الأتاتوركية بكل حُمولتِها خطٌ أحمر محرّمٌ تجاوزه أو حتى الاقتراب منه من أيٍ كان وأن تبعات ذلك قد تكون زلزالًا يقضي على الأخضرِ واليابسِ وهو ما فهمه أركان حزب العدالة والتنمية الحاكم ولهذا سعوا إلى تبرئة أنفسهم وحزبهم مما قاله أوغان خوفًًا من فقدان كلِ ما حقَّقوه خلال السنوات الماضية وحفاظًا على بقاءِ الحزبِ.