نتابع الفضائيات العربية وقد فقدنا الدهشة لما نشاهده من كم في برامج المنوعات والمسابقات والهز والفقش. لقد اعتدنا على ذلك تماماً كما اعتدنا على تميز بعض هذه المحطات في البرامج الاخبارية مثلاً. ولأن الفضائيات العربية تراهن في كل الاتجاهات علها تنجح في استقطاب المتلقي، جاذبة أياه من أحضان باقي المحطات وما أكثرها! سيما تلك الموجهة خصيصاً إلى المنطقة العربية، مستغلة التركيبة الاجتماعية المتحفظة، وأيضاً مستغلة الحضور الباهت، أو بمعنى أدق غير الفاعل للمحطات العربية. ومن ضمن أساسيات المراهنة الفضائية العربية في جذب المشاهد المسلسل العربي، هذا المسلسل الذي يتمزق بين جميع المحطات، ما يفقد المشاهد متعة المتابعة الحقيقية، والمشاهد العربي خصوصاً متعة وطقس المشاهدة. فالمسلسل العربي عندما يعرض في محطة ما ولا سيما إذا كان هذا المسلسل ناجحاً، يجد المحطة التي تعرضه تتخمنا بإعلاناتها البراقة، ونحن من حيث المبدأ لسنا ضد الإعلان، ولكن ما يحدث حقيقة في بعض المحطات هو أنهم يقطعون مسلسل الإعلانات بالقليل من مشاهد المسلسل وليس العكس؟!! لكن أهم ما يتعرض له المسلسل العربي هو البث المتوازي لا سيما في شهر رمضان المبارك الذي يتحول إلى مهرجان حقيقي للأعمال التلفزيونية. فالمسلسل نفسه يعرض في ثلاث أو أربع محطات في اليوم الواحد. وبالتالي فإن حرص المتلقي على المتابعة يضيع. إذ ما فاتته المحطة الأولى تابع المسلسل في المحطة العاشرة وهكذا... وفي النهاية سنرى ان المتلقي يتابع نتفة من المسلسل هنا ونتفة هناك وهكذا دواليك. وقد يقول قائل إن هذه هي جناية المنتج الذي يدفعه طمعه إلى نثر المسلسل في المحطات كلها. والجواب على ذالك واضح، فالمنتج من حقه في النهاية أن يبيع ليربح، ولو اشترت المحطات كلها مسلسله، فإن ذلك سيسعده بالتأكيد وهذا طبيعي. والحل؟ كيف يمكن ان نحافظ على طقس المشاهدة وعلى هوية المسلسل العربي وبالتالي على هوية المحطة؟ بعض المحطات العربية وجد الحل بطريقة ذكية ومكلفة، تسهم في تعزيز أرصدة المحطة وفي الوقت نفسه تقدم مسلسلاً واضح المعالم يستطيع المتفرج أن يتابعه من دون عناء الانتقال من محطة إلى أخرى، هذا الحل يتمثل في ما يسمى ب"العرض الأول"، إذ تقوم المحطة بشراء مسلسل ما بثمن مرتفع وتشترط ألا يتم بيع المسلسل إلى أية جهة إلا بعد عرضه في المحطة عرضاً أول، وبعضها لجأ إلى ما يسمى ب"الشراء القطعي"، بمعنى أن تقوم المحطة بشراء المسلسل كاملاً بحيث لا يحق لغيرها عرضه... وقد قامت محطة mbc ومحطة "أبوظبي" ومحطة "المستقبل" وart وغيرها بمثل هذه التجربة. وبغض النظر عن سوية هذه الأعمال، فإن التجربة اثبتت بأن هذا الأمر ساهم حقيقة في تميز بعض المحطات وخروجها عن نظام التشابه الذي يسير عليه معظم المحطات العربية. فقد قامت محطة أبوظبي وحدها بعرض "تاج من شوك" في رمضان ما قبل الماضي، فكان المشاهد، إن أراد متابعة هذا العمل عليه، مضطراً أن يتابعه في محطة أبوظبي، وكذلك فعلت الmbc مع مسلسل "العوسج" و"المستقبل" مع مسلسل "الموت القادم إلى الشرق"، و"الأوربت" والart... الخ. هذه التجربة تجنب المنتج الخسارة وتضطره إلى انتاج الأعمال المميزة، ذلك ان آلية هذه التجربة فرضت تميز العمل فنياً وفكرياً وانتاجياً. هذا يعني أن المحطة التي تنجز هذه التجربة تساهم بقوة في رفع مستوى الدراما العربية وجعلها تقترب بالتدريج من العمل العالمي، كما أنها تمنح المنتج المزيد من الحرية في حركة الانتاج، وهي بالتأكيد تحمي المسلسل العربي من النتف والتمزق وتعيد تأسيس طقوس المشاهدة. وقبل كل ذلك، فإنها تعزز أسهم المحطة نفسها، واعتقد ان معظم الاستفتاءات حول أكثر المحطات فاعلية ومتابعة انصبت في مصلحة هاته المحطات التي بالتأكيد لن يكفيها هذا الحرص على المسلسل العربي ومكانته وقيمته، بل تتجاوز ذلك إلى البرامج الاخبارية والثقافية وحتى المنوعات. ولا بد من الاعتراف قبل كل شيء بأن التلفزيون لا يزال يشكل واحداً من أخطر الاكتشافات البشرية، ذلك أنه وصل إلى مرحلة أصبح فيها بديلاً عن ثقافة الكتاب لدى 70 في المئة من الناس، وهذه أرقام عالمية، وهي بلا شك تتجاوز هذا الرقم لدينا بكثير. فإن كان التلفزيون وصل إلى هذا الحد، فالأجدى أن ننظر إلى خطورته في صنع وعي جمعي حقيقي، وألا يبقى مجرد جهاز تبث منه أخبار الزيارات و"الوداعات"، وهذا يستدعي جدياً إعادة النظر في بنية تلفزيوناتنا ليس فقط في البرامج الاخبارية والمنوعات، بل في كل "المبثوث" لا سيما الثقافي، وهو جانب شبه غائب، فيكفي أن نعرف ان اسماء مثل سعدالله ونوس، نجيب محفوظ، الطاهر وطار، حنيا مينا، توفيق الحكيم وغيرهم لا تتكرر ربما في عام كامل في محطاتنا، في حين يتردد اسم مطرب من الدرجة العاشرة مرات عدة في اليوم الواحد، الأمر نفسه ينطبق على المسلسل العربي، وعلى برامج الأطفال وهذه الأخيرة هي الأخطر على الاطلاق.