شهدت الستينات والسبعينات ظهور حركات اجتماعية جديدة - حركة التحرير السوداء، والحركة النسوية، وحركة المطالبين بحرية الشذوذ الجنسي، بين حركات اخرى - التي لم يكن اليسار السياسي التقليدي يوليها اهمية. وفي الآونة الاخيرة، برزت نزعات بين هذه الحركات تذهب الى ان ما بعد الحداثة هي الفلسفة التي تعبر عن طموحاتها، بهذا الشكل او ذاك. فهل هناك علاقة منطقية بين هذه الحركات الاجتماعية الجديدة وما بعد الحداثة؟ والى اي مدى او بأية نسبة اعتنق اعضاء هذه الحركات ما بعد الحداثة، ولأي غرض؟ لا شك في ان احد اسباب انحياز الحركات الاجتماعية الجديدة الى ما بعد الحداثة يكمن في استيائها من اورثوذوكسية اليسار القديم. فاليسار التقليدي، في شقيه الماركسي واللاماركسي، اعتبر نفسه بصورة عامة الوريث الشرعي للتنويرية وتجسيداً للعلم والعقلانية. وأكدت الماركسية على المادية الفلسفية في تفسير التأريخ وفي التركيز على دور الاقتصاد والصراع الطبقي. يقول ألن سوكال وجان بريكمون ان قصر النظر الواضح في هذا المنظور الاخير شجع بعض التيارات في الحركات الاجتماعية الجديدة على رفض، او على الاقل التشكيك، بالعلم والعقلانية بحد ذاتهما. وفي رأي الكاتبين ان هذا خطأ مفاهيمي يعكس خطأ مماثلاً ارتكبه اليسار الماركسي التقليدي الذي اعتبر التغير الاجتماعي حقيقة علمية لا يأتيها الباطل. خيبة أمل سياسية ومن بين الاسباب الاخرى لانتعاش افكار ما بعد الحداثة، الوضع الميؤوس منه وضياع صواب اليسار، وهو وضع يبدو استثنائياً وغريباً في التأريخ. فقد انهارت الانظمة الشيوعية، ومارست الاحزاب الاشتراكية - الديموقراطية، التي بقيت في السلطة، سياسة ليبرالية جديدة اقل راديكالية، وتخلت حركات العالم الثالث التي قادت بلدانها الى الاستقلال، في العديد من الحالات، عن اية محاولة للتنمية الذاتية. وصفوة القول، ان اقسى اشكال الرأسمالية القائمة على مبدأ "حرية السوق" بدا وكأنه الأفق الذي لا يقبل النقاش للمستقبل المنظور. ولم يحدث قبل الآن ان يُنظر الى مُثُل عليا، كالعدل والمساواة، كشيء طوباوي. ومن دون التطرق الى تحليل اسباب هذا الوضع ناهيكم عن طرح الحلول، يبدو من السهل توقع نوع من اليأس الذي يعكس نفسه جزئياً في ما بعد الحداثة. وقد عبر عالم اللسانيات والمفكر السياسي نعوم تشومسكي عن ذلك خير تعبير في قوله: "اذا كنت تشعر حقاً، انظر، انه لمن المشقة ان تتعامل مع المشاكل الحقيقية، وهناك غير وسيلة لتجنب ذلك. احداها ان تحاول اصطياد الأوز البري الذي لا اهمية له. او ان تغرق في اعتاكافاتٍ اكاديمية بعيدة جداً عن الواقع وتصونك من التعامل مع العالم كما هو على حقيقته. هناك الكثير من هذه المواقف، بما في ذلك من هم في صفوف اليسار. لقد صادفت حديثاً نماذج مخيبة للأمل من مثل هذه في زيارتي لمصر قبل اسبوعين كتب هذا في 1994. كنت هناك لأتكلم عن الشؤون العالمية. هناك جالية ثقافية متحضرة وحيوية جداً، أناس جريئون جداً أمضوا سنوات في سجون عبدالناصر وتعرضوا الى تعذيب مميت وواصلوا نضالهم. لكن هناك الآن في جميع انحاء العالم الثالث إحساساً باليأس وخيبة الامل لا مثيل لهما. ان ما انعكس هناك، في دوائر مثقفة جداً لها علاقات مع اوروبا، آل الى غرام تام بآخر حماقات باريس الثقافية وتبنيها بالمطلق. فعندما كنت القي كلمات عن الاوضاع الجارية، حتى في معاهد البحوث التي تعالج الشؤون الاستراتيجية، ابدى المشاركون رغبتهم في ترجمتها الى هذر ما بعد حداثي. وبدلاً من ان يطلبوا مني ان اتحدث عن تفاصيل ما يجري في السياسة الاميركية او الشرق الاوسط، حيث يعيشون، وحيث الوضع زري جداً ولا يحسدون عليه، تراهم يودون ان يعلموا كيف تطرح اللسانيات الحديثة باراديغماً جديداً للخطاب حول الشؤون العالمية يخلف النص ما بعد البنيوي. كان هذا ما ينشدونه. وليس ما يعكسه سجل الحكومة الاسرائيلية حول المخططات الداخلية. ان هذا شيء يدعو لخيبة الامل حقاً". تشومسكي: Keeping The Rabble in Line، 1994. لا شك في ان تشومسكي ينطلق هنا من كوننا، نحن ابناء العالم الثالث، لا نزال بحاجة الى استكمال المرحلة التنويرية التي ترتبط بخطاب الحداثة. لكننا نعتقد بأننا ما دمنا نعيش في عالم واحد، هو عالم العولمة، سواء اردناه ام لم نُرده، فلا بد لنا من ان نكون على علم بخطابات هذا العالم الجديد، بما فيها خطاب ما بعد الحداثة. اما ان نتبنى هذا الخطاب الاخير على حساب المفاهيم التي تبشر بها التنويرية، فنحن نتفق مع تشومسكي في جزعه. لكننا نعود الى كتاب "مثقفون دجالون"، لنرى ان ألن سوكال وجان بريكمون يخلصان الى القول، بعد مقتبس تشومسكي، ان بقايا اليسار ساهموا، بهذه الطريقة، في دق آخر مسمار في نعش المُثُل التي تبشر بالعدل والتقدم. ويتمنيان، بتواضع، ان يكون كتابهما بمثابة نسمة خفيفة، بأمل ان تستيقظ الجثة يوماً ما. ثم يؤكدان: انه لمن السذاجة ان نتصور ان ما بعد الحداثة لم تستهدف العقلانية في تحدياتها. فالعقلانية باتت هدفاً سهلاً، لأن اي طعن فيها اصبح يجد اصداء كثيرة بين المؤيدين: كل اولئك الذين يؤمنون باللاعقلانيات، لا سيما التقليديين على سبيل المثال الاصوليون او تيار "العصر الجديد" في الولاياتالمتحدة. وحسب رأي ألن سوكال وجان بريكمون ان ما بعد الحداثة تنطوي على جوانب سلبية اساسية ثلاثة: هدر للوقت في العلوم الانسانية، وارتباك ثقافي يخدم الظلامية، وإضعاف لليسار السياسي. فأولاً، ان الخطاب ما بعد الحداثي، المتمثل في النصوص التي اقتبسها المؤلفان، يصبح في جانب منه طريقاً مسدوداً بعد ان فقدت بعض قطاعات من الانسانيات والعلوم الاجتماعية بوصلتها. ليس هناك بحث، سواء على صعيد العلوم الطبيعية او الاجتماعية، بوسعه ان يتقدم اذا كان مرتبكاً في مفهومه ومنفصلاً بصورة جذرية عن البيّنات الامبريقية. والأدهى، في نظرهما، هو التأثير السلبي للتخلي عن التفكير الواضح والكتابة الواضحة على التعليم والثقافة. فالطلبة يتعلمون كيف يرددون ويزخرفون الخطابات التي لا يفهمونها الا بصعوبة. بل ان بوسعهم ايضاً، اذا كانوا محظوظين، ان يمارسو مهنة اكاديمية من هذه الصنعة عندما يصبحون خبراء في فن الرطانة المعرفية مع ان هذه الظاهرة لا علاقة لها بما بعد الحداثة. وعلى اية حال، أفلح احدنا، كما يقول المؤلفان، بعد دراسة لم تتجاوز ثلاثة اشهر، في فهم الرطانة ما بعد الحداثية بما فيه الكفاية لاصدار مقال في دورية شهيرة. وكما علقت كاثب يوليت Katha Pollitt: "ان كوميديا المقال الذي كتبه ألن سوكال تؤكد على انه حتى ما بعد الحداثيين لا يفهمون كتابات بعضهم البعض الآخر…". ومن بين الأشياء التي يروج لها الخطاب ما بعد الحداثي، النسبوية Relativism، التي يزداد خطرها عند تطبيقها على العلوم الاجتماعية. وبهذا الصدد ينتقد المؤرخ البريطاني أريك هوبسباوم "انتشار الموضة الثقافية ما بعد الحداثية في الجامعات الغربية، لا سيما في دوائر الأدب والانثروبولوجيا، التي تذهب الى ان كل "الحقائق" التي تقوم بالوجود الموضوعي ليست سوى مواقف ثقافية. وبكلمة، انه ليس هناك فارق واضح بين الحقيقة والخيال. هذا في حين ان هذا الفارق موجود، وبالنسبة لنا نحن المؤرخين، حتى بالنسبة لخصوم الوضعية المتشددين من بيننا، فان القدرة على التمييز بين الاثنتين اساسية بصورة مطلقة". ويعكس هوبسباوم كيف ان النقاش التأريخي الدقيق من شأنه ان يدحض الحكايات التي يختلقها المتعصبون الرجعيون في الهند واسرائيل والبلقان وغيرها، وكيف ان ما بعد الحداثيين يجردوننا من اسلحتنا في التصدي لمثل هذه التهديدات. وفي الوقت الذي تخيم الخرافة والظلامية والتعصب القومي والتعصب في المعتقدات في العديد من انحاء العالم - بما في ذلك الغرب "المتقدم" - سيكون من غير الشعور بالمسؤولية، كأقل ما يمكن ان يقال، التعامل بمثل هذه اللاإكتراثية مع الموقف العقلاني من العالم. ان التركيز المفرط على اللغة والشعور بالنخبوية المقترن باستعمال التعابير المتنفخة يسهمان في حصر اهتمام المثقفين في نقاشات عقيمة وعزلهم عن الحركات الاجتماعية التي تمارس عملها خارج ابراجهم العاجية… واذا كانت كل الخطابات مجرد "حكايات" او "سرديات"، ولا شيء اكثر موضوعية او صحة من الآخر، فعلى المرء ان يسلّم بأن اسوأ اشكال التعصب العنصري او الجنسي واكثر النظريات الاقتصا - اجتماعية رجعيةً هي "صحيحة على قدم المساواة"، على الأقل في اطار تفسير او تحليل العالم الواقعي اذا افترضنا ان المرء يؤمن بوجود عالم واقعي. لا شك في ان النسبوية منطلق ضعيف جداً لبناء نقد للنظام الاجتماعي القائم. وماذا بعد؟ يقول ألن سوكال وجان بريكمون انهما دافعا في كتابهما "مثقفون دجالون" عن الفكرة القائمة بوجود شيء كالبيّنة وان الحقائق لها اهميتها. ومع ذلك، ان العديد من الامور التي تتسم بأهمية اساسية - لا سيما تلك المتعلقة بالمستقبل - لا يمكن الاجابة عليها بصورة قاطعة بالاستناد الى البيّنة والعقل، لكنها تدعو البشر الى الاغراق في التأمل. ويحب المؤلفان انهاء كتابهما بقليل من التأمل حول مستقبل ما بعد الحداثة، في قولهما: كما اكدنا مراراً، ان ما بعد الحداثة شبكة معقدة من الافكار - لا يربطها سوى رابط منطقي ضعيف - يبدو من الصعب وصفها بأكثر من سمة عصر Zeitgeist غامضة. ومع ذلك، فليس من الصعب تشخيص جذور سمة العصر هذه، وذلك بالعودة الى اوائل الستينات: تحديات الفلسفات الامبريقية التي طرحها كوُن Kuhn، ونقد الفلسفات الانسانوية للتأريخ التي جاء بها فوكو Foucault، والتحرر من وهم الخطابات الكبرى للتغير السياسي. وكأي تيار ثقافي جديد، قوبلت ما بعد الحداثة في البدء، بمقاومة من الحرس القديم. لكن الافكار الجديدة تمتلك القدرة على كسب الشبيبة اليها، ولم تلبث المقاومة ان انهارت بوجهها. وبعد اربعين سنة تقريباً، شاخت الافكار الثورية وتكرست الهامشية. وانحطت الافكار التي تنطوي على شيء من الحقيقة، الى نص مقبول عند الجمهور يجمع بين ما هو غامض غريب ومبتذل منتفخ. ويبدو ان ما بعد الحداثة، على رغم ما اتسمت به من ايجابيات في البدء كحركة تصحيحة للأرثوذوكسيات المتحجرة، تجاوزت هذه المرحلة، وهي الآن تجري مجراها الطبيعي. ومع ان الاسم لم يتم اختياره ببراعة تامة في اطار الخلافة ماذا يمكن ان يأتي بعد المابعد؟، فإننا نعتقد - يقول المؤلفان - اعتقاداً لا مفر منه بأن الأزمنة تتغير. احدى علامات ذلك هي ان التحدي في ذه الايام لا يأتي فقط من المؤخرة، بل كذلك من اناس هم ليسوا وضعيين عنيدين ولا ماركسيين من طراز عتيق، وممن يتفهمون المشاكل التي يواجهها العلم، والعقلانية، والسياسات اليسارية التقليدية، بل من الذين يعتقدون بأن نقد الماضي ينبغي ان ينوّر المستقبل، لا ان يؤدي الى التأمل في الرُفات. Alan Sokal & Jean Bricmont: Intellectual Impostures profile Books, London1998 * باحث عراقي مقيم في لندن.