تسارعت التطورات في الساحة الفلسطينية في الاسبوعين الأخيرين، وشهدت تبدلات في مواقف بعض الأطراف، كانت أشبه بانكسارات في سياستها، أو حتى بانقلابات على مواقفها السابقة. وبات الاتجاه الغالب هو الداعي الى إنهاء الانقسام الفلسطيني، عبر ادارة حوار يقود الى استعادة وحدة منظمة التحرير الفلسطينية، ووحدة مؤسساتها، كما الى استعادة برنامجها الوطني، على أعتاب استحقاقات مفاوضات الحل النهائي. وهي في حقيقتها تطورات مهمة شدت أنظار المراقبين واهتمامات الشارع الفلسطيني وكذلك العواصم في المنطقة. ومن حق المواطن الفلسطيني ان يبدي دهشة لتسارع الانقلابات في المواقف، وان هذه الاطراف انتقلت من موقع الى مواقع من دون مراجعة سياسية تتقدم بها الى الشارع، تقيم فيها مواقفها السابقة، تنتقدها أو تزكيها، وتوضح أسباب انتقالها. وهي، في كل الاحوال، ظاهرة اعتدنا عليها في العمل السياسي الفلسطيني، اذ تقيم بعض القوى والأطراف اعتباراً للعديد من العوامل، لكنها قلما تقيم اعتباراً للعامل الشعبي، وهو أمر ينعكس بوضوح في اشكال تعاطيها مع الشارع الفلسطيني وحركته السياسية، وأشكال تنظيمها لهذا الشارع وتفاعلها مع همومه ومزاجه السياسي، واستخلاص مواقفها وتكتيكاتها من مصالحه المباشرة. ويدرك الجميع ان التبدلات الحاصلة في المواقف تمت تحت تأثير التطورات في الخريطة السياسية الاسرائيلية في ضوء الانتخابات الأخيرة التي جاءت بباراك وائتلاف العمل الى الحكم، على رغم ان هذه القوى نفسها بادرت، بعد اعلان نتائج الانتخابات الاسرائيلية الى نفي حدوث تغير ما في الدولة العبرية، مساوية بذلك بين باراك ونتانياهو. إلا ان الانقلاب المفاجئ جاء استجابة لنصائح اقليمية بأن المنطقة مقبلة على تغيرات وتطورات يجدر أخذها بالاعتبار، والتآلف معها سياسياً، لأنه لم يعد من الحكمة في شيء تجاهلها. وهكذا، بعد ان كانت الدعوة للمشاركة في مفاوضات الحل النهائي، وفقاً لآليات وضوابط نهائية وتحت سقف منظمة التحرير الائتلافية تصور على انها دعوة للالتحاق بأوسلو، وجد الكثير من تيارات المعارضة ان الحكمة السياسية تفترض التقدم نحو مفاوضات الحل النهائي، أقلها لتخفيف الخسائر، والضغط على الطرف الفلسطيني المفاوض، والحد من اندفاعته التنازلية. ونحن لا نسوق مثل هذا الكلام من موقع اعتراضنا على الموقف المستجد لهذه الأطراف، بل من موقع التقييم الموضوعي للمتغيرات الواقعة، ومن موقع التنبيه الى ضرورة ان يتخذ الحوار شكله الجاد، وان يتسم بالحرص على تفويت الفرصة على الجانب الفلسطيني المفاوض لاستغلال مثل هذه التبدلات في أهداف تكتيكية ضيقة على غرار ما فعل في وقت سابق في جلسات الحوار السابقة. فإذا كان التعنت ورفض مبدأ الحوار والوصول الى وحدة وطنية متجددة، يعتبر في حد ذاته موقفاً خاطئاً، فإن من الخطأ ايضاً الانتقال المفاجئ من التعنت والعناد الى التساهل والليونة. فالحوار المطلوب ليس الدخول في مجاملات. والوحدة الوطنية لا تبنى بتبويس اللحى وتبادل القبلات أو تبادل جمل العتاب، أو الاتفاق على تجاهل الماضي وعلى قاعدة عفا الله عما مضى. الحوار، كما هو معروف، قضايا وملفات مطروحة للنقاش. وهي قضايا وملفات لا زالت موضع خلاف، وفي مقدمها اتفاقات "أوسلو" و"واي ريفر" وما تفرضه من التزامات مجحفة، بحق الشعب الفلسطيني. كما من قضاياها كيفية اعادة بناء المنظمة ومؤسساتها، واستعادة دورها وموقعها التمثيلي، باعتبارها المرجعية الجماعية لأية مفاوضات. كما من ملفاتها مسألة بسط السيادة الوطنية على أرض الدولة الفلسطينية المحتلة بعدوان الخامس من حزيران يونيو 1967، حتى لا ينجرف المفاوض الفلسطيني في مفاوضات تقوم على ذات الأسس التي قامت عليها مفاوضات اوسلو وقادت الى اتفاق الواي. وعلينا ألا ننسى ولا للحظة ان قضية اللاجئين الفلسطينيين ستبقى واحدة من القضايا الكبرى على جدول أعمال أي حوار وطني. فالخطر الجدي يتهدد مصير ما لا يقل عن أربعة ملايين فلسطيني تدعو اسرائيل الى اسقاط حقهم في العودة الى ديارهم والى توطينهم في أماكن اقامتهم. وبالتالي تصبح منظمة التحرير الفلسطينية، ومؤسساتها والقوى المؤتلفة فيها مطالبة بتوفير خطة سياسية وشعبية للتصدي لخطر التوطين وخطر اسقاط حق العودة، واعتبار مثل هذا الحق غير قابل للمساومة، وثابت غير قابل للتنازل. إن القضايا المطروحة على جدول أعمال الحوارات الوطنية اكبر من ان تحل بجلسة أو جلستين بين قوتين سياسيتين، وهي تحتاج بالضرورة الى معالجات مستفيضة ومثابرة دؤوبة كما أن حجم هذه القضايا، وكونها من القضايا الوطنية بامتياز، تمس مصير الشعب والأرض والقضية، يفترض بنا ان نقول ان الحوار حولها لن يكون من اختصاص الوفود الرسمية الممثلة للقوى السياسية فحسب، بل ان الحوار الوطني الشامل مهمة ملقاة على عاتق الشارع الفلسطيني قبل غيره، فهو المعني بانجاح هذا الحوار عبر الضغط على الأطراف الفلسطينية المعنية لتتجاوز عامل الانقسام فتسقط اتفاق اوسلو والتزاماتها من حسابها، لصالح العودة للالتزام بالبرنامج الوطني، الذي من دون ان استعادته لموقعه واستعادة وحدة الموقف من حوله، ستبقى المصالح الوطنية معرضة للخطر. ومن الطبيعي ان تقابل دعوات الحوار بردود فعل متباينة وليس غريباً ان تصر بعض الأطراف المعروفة بعشقها للجملة الثورية على التمسك بمواقفها الجامدة، متجاهلة الوقائع المستجدة، وضرورات الانتقال الى مواقف تأخذ في الاعتبار مجمل المصالح الوطنية والنظر اليها من منظار المسؤولية الاشمل وليس من منظار المصلحة الفئوية الضيقة التي تبني سياساتها على ردات الفعل وعلى عقلية ثأرية. يجدر أخيراً ان ننبه الى خطورة الاستغراق في التفاؤل، أو خطورة الوقوع في التشاؤم، فالحوار عملية سياسية معقدة تنطلق مرة، وتتعطل مرة، تسير الى الامام مرة، وتصطدم بعراقيل مرات اخرى. المهم المثابرة على التمسك بالموقف الوطني المتوازن، وادارة المعركة بحكمة، وعلى قاعدة ان الشارع هو المحارب الأول فيها، وانه من دون الاعتماد على نضالاته المتنوعة تبدو مسألة الوصول بالحوار الى بر الأمان أمراً غاية في التعقيد، ومسيرة محفوفة بالمخاطر. * كاتب فلسطيني.