تبرعات السعوديين للحملة السعودية لإغاثة غزة تتجاوز 701 مليون ريال    حسابات منتخب السعودية للوصول إلى كأس العالم 2026    رسميًا.. رانييري مدربًا لسعود عبد الحميد في روما    القبض على 3 إثيوبيين في نجران لتهريبهم 29,1 كجم "حشيش"    إجتماع مجلس إدارة اللجنة الأولمبية والبارالمبية السعودية    الحقيل يلتقي في معرض سيتي سكيب العالمي 2024 وزيرة الإسكان والتخطيط الحضري البحرينية    «الداخلية» تعلن عن كشف وضبط شبكة إجرامية لتهريب المخدرات إلى المملكة    مركز الاتصال لشركة نجم الأفضل في تجربة العميل السعودية يستقبل أكثر من 3 مليون اتصال سنوياً    وزير الإعلام يلتقي في بكين مديرَ مكتب الإعلام بمجلس الدولة الصيني    «محمد الحبيب العقارية» تدخل موسوعة غينيس بأكبر صبَّةٍ خرسانيةٍ في العالم    المروعي.. رئيسة للاتحاد الآسيوي لرياضات اليوغا    أمير تبوك يطمئن على صحة الشيخ الضيوفي    أمير المدينة يلتقي الأهالي ويتفقد حرس الحدود ويدشن مشروعات طبية بينبع    أمير الرياض يستقبل أمين المنطقة    الذهب يتراجع لأدنى مستوى في شهرين مع قوة الدولار والتركيز على البيانات الأمريكية    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت".. في جدة    الأمير عبدالعزيز بن سعود يرأس اجتماع الدورة الخمسين للمجلس الأعلى لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    صندوق الاستثمارات العامة يعلن إتمام بيع 100 مليون سهم في «stc»    البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت    «هيئة الإحصاء»: معدل التضخم في السعودية يصل إلى 1.9% في أكتوبر 2024    اختتام مؤتمر شبكة الروابط العائلية للهلال الأحمر بالشرق الأدنى والأوسط    وزير الخارجية يصل لباريس للمشاركة في اجتماع تطوير مشروع العلا    "دار وإعمار" و"NHC" توقعان اتفاقية لتطوير مراكز تجارية في ضاحية خزام لتعزيز جودة الحياة    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    رقمنة الثقافة    الوطن    عصابات النسَّابة    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    أفراح النوب والجش    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    استعادة التنوع الأحيائي    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    أجواء شتوية    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    الذاكرة.. وحاسة الشم    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    تكريم الفائزين بجائزة الأمير سلطان العالمية للمياه في فيينا    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشيعة أكثرية عددية فيه والقيادة للموارنة والدروز . "جيش لبنان الجنوبي" أداة إسرائيل الأمنية وميليشيا العائلات والقرى والطوائف
نشر في الحياة يوم 09 - 08 - 1999

أربكت إسرائيل الدولة اللبنانية والشعب اللبناني عندما قررت سحب ميليشيا "جيش لبنان الجنوبي" من جزين. فهي فعلت ذلك، في ظل عدم تهيؤ لبنان واللبنانيين لخطوة الإنسحاب هذه، وما ترتبها من تفكير هادئ لا تلابسه سوى هموم ترميم صدوع لا أحد بريء من إحداثها. تخبط اللبنانيون كما دولتهم في مصير 200 عنصر من ميليشيا "الجنوبي"، وراحت الأسئلة في حينه تنهال من كل حدب وصوب، عن مصير هؤلاء. هل تتسلمهم الدولة لتحيلهم على القضاء؟ وما معنى تسلمها لهم؟ وهل يحاكمون كأفراد أو كمجموعة؟ وكأننا فجأة اكتشفنا أن عناصر هذه الميليشيا، لبنانيون، وأن أي انسحاب سيخلفهم وراءه، علماً ان ما حصل في جزين اقل بلا ريب من الذي سيحصل في اي منطقة اخرى، ستشهد انسحاباً اسرائيلياً.
فجزين كانت دائماً على قاب قوسين من الإنسحاب، وفاعلياتها مهّدت للبحث في مصير جنود الميليشيا قبل حصول الإنسحاب بسنوات، مما يعني أن الأمر كان مفكراً فيه. ثم أن هذه الفاعليات تبنّت قضية المجنّدين من أبناء المنطقة عبر التحدث عن أسباب تخفيفية. اما في المناطق المحتلة الأخرى من لبنان، فلم يفكر في عناصر هذا الجيش إلا بصفتهم قوة عدوة لا يهدف تفكيكها الى انقاذهم، بمقدار ما يهدف الى تدمير هذه القوة. لم يتجرأ احد من نواب المناطق المحتلة وفاعلياتها، وجميعهم مقيمون خارجها، على التحدث عن اوضاع اجيال كاملة في الشريط الحدودي لم تعرف ما هي الدولة اللبنانية، وبالكاد سمعت النشيد الوطني اللبناني.
فالتفكير في اوضاع ابناء الشريط الحدودي، والبحث في انواع الاستقطابات داخل "الجنوبي" يجعل اللبنانيين معنيين كثيراً، لا بل متورطين حتى العنق في هذه الاستقطابات. وإضافة الى محورها الرئيسي الذي هو اسرائيل، لا شك في ان اطرافها هي بلدات وعائلات وطوائف، وأن الحركة المولّدة للكثير من تصرفات هذا الجيش والمحددة لأوضاعه ولاندفاعة شبّان إليه، هي في جوهرها إنعكاسات لأوضاع أهلية محلية.
يبلغ عديد ميليشيا "الجنوبي"، نحو ثلاثة آلاف جندي، وفي دراسة غير منشورة أعدّها الإعلام الحربي ل"حزب الله" عن تركيبة هذه الميليشيا العسكرية والطائفية، يبدو من الواضح ان قيادة الجيش من المسيحيين، بدءاً من القائد مروراً بمساعده وصولاً إلى هيئة الأركان. وينقسم الجيش بموجب الدراسة الى لواءين: الاول هو اللواء الغربي ويقوده ماروني، والثاني هو اللواء الشرقي ويقوده درزي. وينقسم اللواء الغربي ثلاثة افواج: اثنان شيعيان والثالث ماروني. وينقسم اللواء الشرقي اربعة افواج: اثنان مارونيان وثالث درزي ورابع ارثوذكسي.
لكن هذا التقسيم يفقد قيمته الفعلية، ما أن يباشر المرء التدقيق في الأرقام. ففي معلومات مستقاة من الإعلام الحربي ل"حزب الله" أيضاً، يظهر ان نسبة ما بين 60 و65 في المئة من عناصر الميليشيا هم من الطوائف الإسلامية، ونسبة 35 الى 40 في المئة هم من المسيحيين. وطوائف العناصر بحسب الكثرة العددية هي على الشكل الآتي: شيعة، موارنة، دروز، روم أرثوذكس، سنّة. وتوحي هذه الأرقام مقرونة بالهيكل التنظيمي للجيش باحتمالين: اولهما التفاوت في التمثيل القيادي للقاعدة بين المسلمين والمسيحيين، والثاني عدم دلالة هذه الارقام والتوزيعات على الحقائق الميدانية، إذ كيف يعقل ان يكون الشيعة هم غالبية عددية، وهم لا يسيطرون إلا على فوجين فيما الموارنة يخلفونهم بالترتيب العددي، ويسيطرون على قيادة الجيش وعلى ثلاثة افواج.
تبدو خريطة تحركات "الجنوبي" ووظائفه الأمنية والعسكرية مغايرة الى حد ما لهذا التقسيم التنظيمي، ويجمع المتابعون على نفي طبيعة التنظيم الدقيقة له، فهو اقرب الى ان يكون ميليشيات متعددة أهلية ومحلية تدير المناطق وتشرف على المواقع القريبة من قراها، وأفواج هذا الجيش هي سلطات شبه مستقلة بمناطقها، تتفاوت صلتها بالقيادة، وتتفاوت أيضاً علاقتها بالإسرائيليين، ولهؤلاء الأخيرين مآرب مختلفة في علاقتهم مع هذه المجموعات يصعب سوقها في اتجاه واحد.
حكايات وانقسامات
تعيد الحكايات التي يرويها القرويون عن الإنقسامات في قراهم وبلداتهم، قصة وجود شبّان في "الجنوبي" من أبناء هذه القرى، الى ما قبل احتلال اسرائيل قراهم. وهذه الإنقسامات العائلية والطائفية والمناطقية، سبق أن غذت استقطابات وانتماءات سياسية اخرى. فبلدة عيترون المحتلة، في قضاء بنت جبيل، اكبر عدد من المجندين في الميليشيا هم من ابنائها، اذ يبلغ عددهم نحو 250 من اصل 4500 نسمة يقطنون البلدة اليوم صيفاً وشتاءً. وكان نزح من القرية منذ ما قبل احتلالها الى اليوم نحو 75 في المئة من سكانها. وهي نسبة تعتبر اقل من نسب النازحين من القرى الأخرى في الشريط.
تقليدياً انقسمت البلدة قبل احتلالها، اي بدءاً من الخمسينات قوتين: الشيوعيون من جهة، والأسعديون مناصرو زعامة أحمد الأسعد، ثم ولده الرئيس السابق للمجلس النيابي كامل الأسعد، وفي الستينات كانت البلدة ارضاً خصبة لكل القوى السياسية التي ازدهرت في تلك الحقبة، وبقي الأسعديون على قوتهم فيها ايضاً. وتقاطعت الصراعات السياسية مع المنافسات العائلية. فالعائلات الكبيرة وهي: مراد وحيدر وعباس كانت في معظمها أسعدية، في حين استطاع الحزب الشيوعي ان يستقطب ابناء العائلات المتوسطة والصغيرة. ولم يسلم الشيوعيون بدورهم من الإنقسامات، وعلى رغم اخذ هذه الانقسامات أشكالاً غير تقليدية كانخراط عدد منهم في حركة نخلة مطران الانشقاقية، او الجنوح نحو حركة القوميين العرب، بقي متحوى هذه الانشقاقات عائلياً ومحلياً.
عام 1976 انتقلت السلطة في البلدة من الدولة المقربة من الأسعديين آنذاك الى الفلسطينيين وحلفائهم اللبنانيين الممثلين بالحزب الشيوعي في البلدة. كان لهذا الانقلاب مفاعيله السياسية والأمنية، وهو فرز علاقات حادة بين العائلات والأحزاب. إذ اعتبرت الأحزاب أن الأسعديين هم أحد وجوه الدولة التي يحاربونها، فيما انكفأ الأخيرون وراحوا يعيشون بالحيلة. وساهم في اضطراب العلاقات الداخلية في البلدة دخول الفلسطينيين على خط الصراع الى جانب الأحزاب، وكذلك ساهم الجوار الإسرائيلي الذي كان بدأ بمد خيوطه الى البلدة من خلال المتضررين من الوجود الفلسطيني، ومن خلال مسؤولين في المنظمات والأحزاب تمكنت المخابرات الاسرائيلية من اقامة علاقات سرية معهم، إلى أن جاء الإجتياح الإسرائيلي الأول عام 1978 ليخلف واقعاً جديداً وليبدل في علاقات التصدر، ويستأنف صراعات داخل البلدة بالعدة الأهلية نفسها. ولم تتبدل السلطة وفق الانقسام التقليدي في البلدة، وإنما اقتصر دور هذه الانقسامات على اشاعة اوضاع مؤاتية للإستثمار من أي قوة تأتي لتسيطر على المنطقة.
فقد فوجئ ابناء البلدة بمجيء ابنها احمد السيد حسن "ابو برهان" مع الدبابات الإسرائيلية، وهو من كان نسف الإسرائيليون منزله اواخر الخمسينات، ثم التحق اوائل السبعينات بالمنظمات الفلسطينية ثم ب"جيش لبنان العربي" الذي انشق عن الجيش اللبناني. وأسس "ابو برهان" الحرس الوطني في البلدة، مستفيداً من التفاف عدد من ابناء عائلته حوله، وكذلك من وجود جو معاد للفلسطينيين من ابناء العائلات الأسعدية، وهو ما زال الى اليوم في موقعه، الى جانب عدد من الاجهزة المحلية الأخرى التي قد تتعارض اعمالها وقد تتقاطع. فهناك مثلاً نفوذ لعائلة علي حسن فقيه المسؤول في "الجنوبي" الذي قتل خلال عملية قام بها احد ابناء البلدة "محمد حسين حسن" بتكليف من المقاومة. ولحكاية مقتل فقيه دلالات وآثار ما زالت نتائجها الى اليوم، إذ هاجم يومها اشقاء القتيل منازل عائلة محمد حسين حسن، وخطفوا عدداً من ابنائها وقتلوا اثنين ومثلوا بجثتيهما في ساحة البلدة.
اليوم هناك مستويان من الإنتماء الى "الجنوبي" في عيترون: الاول الى الجهاز الأمني المحلي الذي يدير البلدة، والثاني الى الجيش، اي الخدمة في المواقع العسكرية المطلة على مناطق خارج الشريط، تلك القريبة من البلدة. ويبدو ان عناصر المستوى الثاني متقدمون على غيرهم ويتمتعون بامتيازات اكبر. إذ ان الخدمة في هذه المواقع المتقدمة خطيرة ومعرّض من يقوم بها للموت في اي لحظة، وهذا ما ولّد انواعاً من المنافسات والنزاعات بين العناصر المحليين والجنود، وجعل من الأخيرين أكثر عنفاً وتفلتاً من محاولات الضبط. فالخروج من البلدة الى المواقع، هو خروج ايضاً على سلطة الأهل والعائلة، وعودة من جديد الى البلدة مصحوبة بتعالٍ على نفوذ الوجيه او المسؤول. ويروي احد ابناء البلدة مشهداً شاهده او عاشه، قرب المدرسة الرسمية، يوم جاء عدد من هؤلاء الشبّان الذين قضوا ليلهم في احد المواقع المتقدمة، بسياراتهم القديمة الطراز والمزيّنة بأنواع من الألعاب والستائر السود وثيابهم الكاكية الملطخة بالغبار، وراحوا يطلقون ابواق سياراتهم تحرشاً بالطالبات. ورفضوا طلب مدير المدرسة المغادرة، مما اضطره الى الذهاب الى المسؤول الأمني الذي ابلغه ان هؤلاء الشبّان متعبون وقد قضوا ليلتهم على بعد امتار من الموت، ويجب مراعاتهم. ويقول الراوي ان هذا الجواب جعله يشعر ان علاقة هؤلاء الجنود بالموت، ومحاذاته حياتهم وانتقاله معهم من المواقع المتقدمة الى القرى، تجعل الموت ايضاً مجاوراً لكل من يرى هؤلاء او يعيش قربهم.
الإنفصال عن الدولة
عيترون محتلة منذ اكثر من 21 عاماً، وخلال هذه المدة خسرت شيئاً فشيئاً معظم صلاتها بالدولة اللبنانية. كل يوم كان يمر، كان يفصلها عن لبنان اكثر، ويربطها بدورة اخرى. على المستوى الخدماتي، انقطعت شبكات الماء والكهرباء عن مد البلدة، الى ان جاءت الشركة الاسرائيلية "ماغاريت" ووصلتها مع 14 قرية اخرى في قضاء بنت جبيل بشبكات اسرائىلية في مقابل اشتراكات شهرية. الطبابة ايضاً ربطت بالمساعدات الاسرائيلية، فأعاد الإسرائيليون تأهيل مركز ال17 الطبي الذي كان تابعاً للدولة اللبنانية، وعيّن الإسرائيليون له ادارة من جانبهم، ويعمل فيه اليوم عشرات الأطباء اللبنانيين المدرجة اسماؤهم على لوائح "المتعاملين مع اسرائيل".
ومن عيترون ايضاً ينطلق يومياً مئات الشبان والفتيات للعمل في اسرائيل، نتيجة ندرة فرص العمل في المنطقة المحتلة واقتصارها تقريباً على الخدمة العسكرية. والعمل في اسرائيل مرتبط الى حد كبير بالتطوع في جيش "الجنوبي". فالعائلة التي بين أبنائها جندي يمكنها ارسال ابنها الثاني الى العمل في اسرائيل. اما من لا يملك رقماً عسكرياً فيفقد هذه الفرصة التي قد تنقذ العائلة. والعمل في اسرائيل باشره العيترونيون يوم توقفت الدولة عن تسلم محاصيل التبغ منهم. إذ أن هذه الزراعة كانت تعتبر مصدر رزق اكثر من 60 في المئة من ابناء البلدة، والكثيرين من ابناء القرى الأخرى. وعند تعداد علامات السكن والإقامة والإستقرار في منطقة بنت جبيل، لا بد من أن تكون زراعة التبغ العلامة الأولى. فإلى اليوم ما زالت القرى التي اعتمدتها في الشريط الحدودي عامرة بأهلها، ويعتبر الخط الممتد من عيتا الشعب الى رميش فعيترون مروراً بدبل الخط المأهول الوحيد في قضاء بنت جبيل. وهو الخط الذي ربطت اهل قراه زراعة التبغ وثبتتهم في مناطقهم، فلم تشهد حركة نزوح او هجرة تذكر سواء كانت داخلية او خارجية، في حين شهدت القرى التي لم تزدهر فيها هذه الزراعة ومنذ الخمسينات الى اليوم حركة نزوح الى بيروت.
وفي الإحصاءات اليوم تعتبر هذه القرى من اكثر القرى التي ما زالت مأهولة. ففي رميش يعيش اليوم نحو خمسة آلاف نسمة وفي دبل نحو اربعة آلاف، وكذلك في عيتا الشعب، وهي، اضافة الى عيترون والقوزح، الخزانات البشرية لل"الجنوبي". ويقول احد ابناء هذه القرى "في السابق كنا نزرع التبغ، وندخل الجيش اللبناني، اما اليوم فزراعة الدخان تراجعت بعدما توقفت الدولة عن استلام المحاصيل، والجيش أوقف قبوله أبناءنا في صفوفه، فاستعيض عن الأمرين بالعمل داخل إسرائىل وبالإنتماء الى الجيش الجنوبي".
وبدءاً من العام 1986، بدأ مئات، بل آلاف، من أبناء هذه القرى بهجرة من نوع جديد. إذ يبدو أن انسداد الأفق في وجوههم دفعهم الى اختيار دول بعيدة ككندا وأستراليا وألمانيا. لكن المفارقة هنا ان كثراً منهم هاجروا عن طريق اسرائيل مما يوحي انهم فقدوا اي امل بالعودة. فالسفر عبر اسرائيل يعني ان العودة غير ممكنة إلا عبرها، ولكن يبدو انهم هاجروا غير مكترثين باحتمال العودة.
وكما عيترون، أورثت بلدة عين إبل، المارونية في غالبيتها، انقساماتها العائلية والحزبية لأجيال جديدة، مع تفاوت في حجم الإنخراط في "الجنوبي"، إذ تُعتبر من أقل البلدات في الشريط الحدودي انخراطاً في "الجنوبي"، فسكانها الذين لا يتجاوز عددهم اليوم نحو ألفي نسمة، ليس بينهم اكثر من 20 عنصراً في الميليشيا.
الإنقسام التقليدي في عين إبل كان بين عائلات التحقت بأحزاب مسيحية لبنانية كالكتائب والأحرار، وأخرى رأت أن وجود البلدة في محيط شيعي يتطلب التحاقاً بالزعامات الشيعية، وبينما وجد الإسرائيليون بين الأسعديين في عيترون بيئة مؤاتية لتأسيس جهاز أمني تابع لهم، وجد الفلسطينيون في المدة الزمنية نفسها بين الأسعديين العين إبليين كثيراً من المتعاونين من آل خوري وصادق. أما آل بركات وهم كانوا من المقرّبين من حزب الكتائب فالتزموا موقف الحزب في حينه المعادي للفلسطينيين وألحقوا البلدة قبل إنشاء الشريط الحدودي بالمنطقة الأمنية التابعة لإسرائيل في العام 1977.
وتبدو فكرة العمالة أو الإرتباط بإسرائيل التي يحاول مزاج "لبناني" حصر الحكم على عناصر الميليشيا وأهاليهم بها، فكرة مبسّطة وغير كافية ويلزمها تدقيق وتبصّر في أحوال هؤلاء. ويجمع وجهاء هذه القرى على ان أدنى وجود للدولة اللبنانية، بالمعنى السياسي أو الخدماتي الإجتماعي، يغيّر أوضاعاً كثيرة. وهم يلاحظون تفاوتاً في تعاطي المسؤولين مع منطقتهم وأبنائهم، فحتى أولئك الأسعديون منهم والذين لا تربطهم ب"حركة أمل" أدنى علاقة، ذكروا ان تحرك رئيس المجلس النيابي نبيه بري لجهة تأمين بعض الخدمات لقراهم، كحفر آبار إرتوازية، ووصل القرى بشبكة الكهرباء وإرسال متعهدين من مجلس الجنوب لإقامة بعض المشاريع العامة، ولّد أجواء إيجابية يمكن استثمارها في إعادة ربط أبناء هذه المنطقة بالدولة. ويقولون ان عودة الدولة عن قرارها الإمتناع عن تسلّم محاصيل التبغ، والتي حصلت بعد ضغوط من بري نفسه، قلّل من أعداد العاملين داخل إسرائيل وبالتالي من الحاجة الى الإنخراط في ميليشيا "الجنوبي". لكن هذا الشعور النسبي والمحدود بالإرتياح يقابله شعور آخر بأنهم متهمون. فالمزاج العام خارج الشريط يميل الى اتهامهم بعلاقتهم بإسرائيل. جميع من يقيم في الشريط الحدودي يشعر بضرورة الدفاع عن نفسه، ولعل ما حصل مع كثيرين منهم يعزز لديهم هذا الشعور. ومن الأمثلة على ذلك ما حصل لمدير مدرسة بليدا الرسمية كمال حيدر الذي أجبرته الإدارة المدنية الإسرائىلية على الذهاب في رحلة مع طلابه إلى إسرائيل، فحكم عليه القضاء اللبناني بالسجن شهراً واحداً بتهمة الإتصال بالعدو، وفور سماعه خبر الحكم توجه الى خارج الشريط وسلّم نفسه لينفّذ الحكم، وبعد انقضاء الشهر أفرج عنه ليعود إلى منزله وعمله في بلدته. وصادف أن طلب أحد الضباط الإسرائيليين أن يجتمع بمديري مدارس المنطقة، فما كان من حيدر إلا أن وقف في الإجتماع وخاطب الضابط شارحاً له حجم الإرباك والضغوط التي يسببها لهم إصرار الإسرائيليين على الإتصال بهم، وطلب منه تفهم معنى أن يكون المواطن مرتبطاً بدولة ومحكوم من دولة ثانية تعادي الأولى. وبعد إنهائه كلامه وقف المسؤول الأمني في منطقة بنت جبيل أحمد شبلي وطلب من المدير مغادرة الإجتماع وقرعه على "وقاحته". إنها واحدة من مئات الحكايات التي تروى عن وقوع الحدوديين بين ناري الإحتلال ومعاداته.
ميليشيا مستقلة؟
كانت ذروة علامات تفكك الميليشيا الحدودية وعدم خضوعها لسلطة مركزية واحدة، ظاهرة رياض العبدالله، المسؤول الأمني السابق لبلدة الخيام ومنطقتها. فهو أنشأ ميليشيا مستقلة بالكامل عن الجيش، وجعل من نفسه ومن ميليشياه محور استقطاب شيعي في منطقة مرجعيون. وراحت طموحاته تتجاوز الشريط الحدودي لتشمل رغبة في نيل تأييد الخياميين المقيمين خارج الشريط، ونال بعضاً من هذا التأييد أصلاً، إذ شرع يسهّل الدخول الى البلدة حتى لأولئك المطلوبين منهم، وأعفى أبناء البلدة من ضرائب وخوّات كان يأخذها منهم المسؤول الذي سبقه. كان يطمح إلى أن يكون جزءاً من الوجود الشيعي العام ومعنى من معانيه. لذلك نأى بنفسه قليلاً عن قائد "الجنوبي" أنطوان لحد، وزيّن صورته بعدد من الرموز والملامح الشيعية، فأطلق لحيته ووضع في منزله صورة للإمام موسى الصدر، وجعل المقرّبين منه ينادونه بلقب "أبو الحسنين". جنّب العبدالله أبناء الخيام الخدمة العسكرية الإجبارية في "الجنوبي"، وكانت نواة جهازه الأمني مؤلفة من أقاربه في الدرجة الأولى ثم أبناء بلدته ثم أبناء بعض القرى الشيعية الأخرى في منطقة مرجعيون. وتفاوتت منطقة نفوذه، فاتسعت لتشمل احياناً قرى عدة في محيط الخيام، ثم انحسرت لاحقاً، وكان الإتساع والإنحسار خاضعين لحسابات إسرائىلية، فالتركيب السكاني الطائفي لمنطقة مرجعيون معقّد جداً، ولا بد من أن يكون توسع النفوذ على حساب نفوذ طوائف أخرى.
وهناك من لاحظ أن رياض العبدالله لم يتعرض لأي محاولة اغتيال، ويفسّر خياميون هذا الأمر بأن للمقاومة حسابات أهلية أيضاً، وقتله ليس لمصلحة أي طرف يطمح إلى نفوذ في أوساط العائلات والقرى، وهذا ما يؤكد من جهة أخرى بعض النجاح النسبي الذي حققه هو في تقديم صورة له ليست سلبية في أوساط أبناء جلدته. لكن العبدالله فشل في المكان نفسه الذي دارت فيه طموحاته، فمشروعه كان يتطلب بروداً على الجبهات يستطيع هو من خلاله ان يشكل نافذة للإسرائيليين على الشيعة، ومن جهة اخرى يضمن أن لشيعة الشريط علاقة منتظمة في قراهم. فشل العبدالله في أداء هذا الدور، فالمقاومة فعل شيعي في الدرجة الأولى، وتصاعد عملياتها هو لغة أخرى غير لغة التسوية والمساومة التي يطمح إليها هو.
ويبدو أن الإسرائيليين لم يستمروا طويلاً في تفهم طموحات العبدالله ومشاريعه. وبعدما كان يشكل لهم مشكلة مستمرة مع لحد نفسه من جراء عدم التزامه الدائم قرارات "الجنوبي" وقوانينه، عزله الإسرائيليون، وحل محله تلقائياً مساعده وإبن عمه حسين عبداللطيف عبدالله الأقل حيلة وقوة، وتفكك جهاز رياض شيئاً فشيئاً. وكان لتعيين إبن العم معانٍ أيضاً تدخل في سياق حرص الإسرائيليين على الإمساك بالعائلات الكبيرة، فاستمروا في إعفاء الخيام من الخدمة العسكرية، واستمرت خدمة عدد من أبناء البلدة على معبر كفرتبنيت لتسهيل عبور الخياميين منه، علماً أن المعبر المذكور يسيطر عليه أبناء بلدة القليعة المارونية في قضاء مرجعيون، والذين لا يرتبطون مع أبناء الخيام بعلاقات مودة. والتوتر بين الخياميين وأبناء القليعة كان وما زال مادة استقطاب دائمة للميليشيا الخيامية.
مجموعة ميليشيات
ويضم الفوج الدرزي في "جيش لبنان الجنوبي" بين 250 و300 عنصر جميعهم من بلدات حاصبيا وشويا وعين جرفا والفرديس والماري، ويسيطر هذا الفوج الذي يقوده علم الدين بدوي على البلدات الدرزية نفسها. ويتمركز في مواقع الأحمدي وزمريا وتلة عين قنيا وشويا والشعيرة، مما يؤكد من جديد حقيقة أن "الجنوبي" ليس جيشاً وإنما ميليشيا محلية. فالفوج الدرزي وظيفته الخدمة في المواقع المطلة على مناطق خارج الشريط والقريبة من القرى الدرزية في حين تكمن وظيفته الأمنية في حماية المناطق الدرزية من أي طموحات لأفواج أخرى في الجيش. وشهد هذا الفوج الذي يضم بعض السنّة من منطقة العرقوب خلافات وقلاقل طائفية عدة منها ما حدث قبل سنوات عندما صعد عدد من المجندين الحاصبانيين الى بلدة شبعا وقاموا بأعمال استفزاز وتحرّش بأبنائها. وآخرها ما حدث اخيراً عندما وقع الخلاف بين قائد الفوج بدوي ومسؤول أمن بلدة شبعا محمد نبعا من جراء اتهام الأول للثاني بأنه وراء قتل أحد مسؤولي الإدارة المدنية في البلدة خصوصاً أنهما اختلفا على أموال تعود إلى عمليات تهريب تبغ الى سورية من منطقة العرقوب. نبعا فرّ بعد خلافه مع بدوي هو ونحو 20 شخصاً من عائلته الى خارج الشريط وسلّم نفسه الى الجيش اللبناني. ويروي اهالي بلدة شبعا حكايات كثيرة عن خلافات العناصر السنّة والدروز في منطقة حاصبيا، وعن غلبة الدروز وتصدرهم المسؤوليات الأمنية مما يولّد حزازات وتوترات.
ويحف نفوذ الفوج الدرزي، نفوذ آخر قريب وإنما من الجهة الأخرى للفوج الماروني في "الجنوبي". وهذا ما يحفز الأول على ان يكون مستعداً ويجعل من الجوار الذي يقطنه الآخرون سبباً للتماسك والتطوع الدائم دفاعاً عن النفس على الأقل. ومن الملاحظ أيضاً ان منطقة عمل الفوج الدرزي من اقل المناطق تعرضاً لعمليات المقاومة ما يشير الى ان للمقاومة ايضاً حساباتها في درجة عدائها لأفواج "الجنوبي" وفرقه، علماً ان زائر حاصبيا لا بد له من أن يلاحظ ان الحياة فيها وفي المنطقة اكثر صخباً من باقي قرى الشريط وأكثر كثافة وانتقالاً الى الداخل والخارج.
هذه الحقائق والأحداث والوقائع عن "الجنوبي" التي لا يمكن ضبطها في سياق واحد تؤكد من جديد ان مسألة عناصره لا يمكن تعريفها حصراً بأنها مسألة عملاء ارتبطوا بإسرائيل، وإنما أيضاً تقاذفتهم أقدارهم كما تقاذفتنا. فهل تكون نهاية قصتهم، آخر فصول الحرب اللبنانية، أم أنها ستكون مقدمة لضغائن جديدة؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.