بعد أن تناولت حلقة الأمس الحياة الرحبانيّة على جمر القلق، بين «هنا» و«هناك» وبين «ليل» و«نهار»، هنا الحلقة الثانية والأخيرة: في فندق دانا، في إبل السقي المجاورة لجديدة مرجعيون، والذي افتُتح بسبب إقامة الجنود الدوليّين هناك، ثمّة ما يذكّر بالمنطقة الخضراء في بغداد: فتيات أجنبيّات يسبحن في «البيسين»، وجنود من القوّات الدوليّة يتوزّعون طاولات البهو، وأزيز طائرات حربيّة إسرائيليّة تُسمع في عموم المنطقة، تتخلّلها أصوات المروحيّات التي تستخدمها القوّات الدوليّة. إذاً، نحن لسنا في سويسرا كما تتخيّلها جديدة مرجعيون. فهناك يواجهنا فيلم سينمائيّ عن قيامةٍ قد لا تكون الآن. وإذ لا تتبدّى الحياة المدنيّة على ما يرام، يلوح كما لو أنّ قبضة من حديد تمسك بكلّ شيء وتؤجّل حدوثه. فوق هذا، يتراءى أنّ تلك الرقعة المنتزَعة من الحرب والمنتزَعة في الآن نفسه من السلم، مُصفّاة أيضاً من الأمم والشعوب والأوطان والهويّات. إنّها، بالتالي، وحتّى إشعار آخر، «نومانز لاند». يضاعف الشعور هذا ندرة البشر الذين تقع العين عليهم، وذاك الهدوء المريب في حركة السيّارات والشاحنات القليلة والبطيئة. وهو ما يزيد في تظهيره انخفاض نسبة السكّان وفراغ الطبيعة المشرّعة بسهولها وجبالها المحيطة، فكأنّها فائضة عن بشرها أو مُخبّئة إيّاهم في مكان ما. فحين تغنّي فيروز في بهو الفندق، يتراءى كأنّ الصوت لا يشبه المكان ولا مزاج أهله «اللبنانيّين». فهو هناك يأتي مجرّداً من كلّ أوجه الطبيعة والاجتماع، الفعليّة أو الوهميّة، التي حفّت بالغناء الرحبانيّ. هكذا تغدو فيروز - إبل السقي محاولة تقرّب من «لبنان الذي كنّا ننزل إليه» في سنوات الاحتلال، كما يقول سكّان القرى الحدوديّة. ولا يطرد القلقَ الآتي من طبيعة الأشياء اتّفاقُ معظم الناس على أنّ «منطقتنا - التي يعيش فيها الشيعة والمسيحيّون والسنّة والدروز - منطقة تعايش نموذجيّ». فهذه اللازمة المتكرّرة، والتي ربّما كانت العبارة الوحيدة التي تردّدها أكثريّة اللبنانيّين، لا تصمد، هنا أيضاً، أمام اختبار جدّيّ. أحزاب المسيحيّين وبالتسميات يبدأ الخلاف الذي يصفه الفولكلور الوطنيّ بأنّه اتّفاق. فمسيحيّو المنطقة الحدوديّة يسمّون «سهل مرجعيون» ما يسمّيه شيعتها «سهل الخيام». ولا تكاد تُذكر بلدة أو قرية في المنطقة، ما بين الخيام وشبعا، إلاّ ويُذكر أنّ نسبة كبيرة من سكّانها كانت مسيحيّة ذات يوم ثمّ تقلّصت، كما في الخيام، أو اندثرت، كما في شبعا. بطبيعة الحال، لا يجهر موارنة المنطقة بولائهم للأحزاب المسيحيّة ال 14 آذاريّة. فالانتساب إلى «القوّات اللبنانيّة» أقرب إلى العمل السرّيّ، وهو ما يبدو أنّ «الكتائب» استفادت منه، لاعتبارها «أكثر اعتدالاً» من القوّات، فباتت أقوى تلك الأطراف الضعيفة وأشدّها علنيّة. أمّا ميشال عون، فلم يُقلع تيّاره في المنطقة الحدوديّة، على رغم الوجود التقليديّ والكثيف للمؤسّسة العسكريّة في قرى مارونيّة كالقليعة. ووفقاً لأحدهم، كان أكثر ما أساء إلى «التيّار الوطنيّ الحرّ» اختياره رموزاً محليّين هم إمّا معروفون بالتعاون مع الإسرائيليّين إبّان الاحتلال، وإمّا وافدون إلى الجنوب بعد قطيعة وغياب مديد. لكنّ مسيحيّي تلك المنطقة لا يفوّتون فرصة إلاّ يعبّرون فيها عن إعجاب ما ب «حزب الله»، إعجابٍ يتاخم الحبّ أحياناً. وهنا أيضاً يستدرجنا التمحيص. ذاك أنّ إزعاج الحزب للمسيحيّين يبقى من النوع غير المرئيّ. فهو اكتفى، في عموم المنطقة، بتشكيل المناخ المضبوط على إيقاعه السياسيّ الذي ينفي إيقاعات سواه. ويعرف الجميع أنّ ذاك المناخ محميّ بتوازن قوى شديد الاختلال، يخفض موقع الآخرين ويعدم خياراتهم. هكذا لا يكتفي المسيحيّون بكلام ذمّيّ عن حسن نصر الله يكاد يكون ودّيّاً، بل يمدّون لطفهم ليشملوا به نائب القضاء والوزير عن «حركة أمل»، علي حسن خليل، الذي «يزفّت طرقات في القرى المسيحيّة». ف «حزب الله»، وبذكاء يُحسب له، آثر أن يبتعد عن التفاصيل الأخرى، الاستفزازيّة والثأريّة. ولمّا كان وحده الممسك بلبّ السلطة، فلماذا، بعد ذاك، التمسّك بقشورها؟ يعزّز إيجابيّةَ الأمر الواقع حياله أنّ ما من شيء جدّيّ يحصل، منذ صدور القرار 1701 في 2006، مع إسرائيل. فلا الحزب يزجّ السكّان في حرب، ولا إسرائيل تجبرهم على اختيار. ويبقى أهمّ من كلّ ما عداه ما يفعله خطر «داعش» المستجدّ. فالمسيحيّون هناك، كما في مناطق لبنانيّة أخرى، يسكنهم خوف هذا التنظيم المخيف. إلاّ أنّ الأعرف بينهم والأكثر تجربة أو حنكة يضيفون في غرفهم المغلقة: لكنّ «حزب الله» يبالغ في نشر هذا الخطر، وهو قائم، لإشعارنا بأنّ «داعش» أقرب ممّا هو فعلاً. وعلى العموم يُلحظ أنّ لغة سياسيّة مسيحيّة - شيعيّة يتمّ تأليفها هناك، لغةً تغرف من الهواجس الأقلّيّة حيال السنّة، والتي درج نقّادها في الماضي على وصمها ب «الانعزاليّة». دروز وسنّة وبعض ما يرتّبه الهلع الذي استثمرت فيه صحف ومحطّات تلفزيون غير بعيدة عن «الحزب» شيوع لغة حربيّة وسلاحيّة. فأحد سكّان الشريط الحدوديّ، مثلاً، حدّثنا عن «الحماية الضروريّة التي يوفّرها حزب الله»، ليضيف كما لو أنّه يطرد خوفه: «ثمّ إنّ الدروز الذين يتسلّحون في حاصبيا يشكّلون خطّ دفاعنا الأوّل في وجه داعش». وتسلّح القرى الدرزيّة لم يعد سرّاً على أحد، خصوصاً وقد استولت «جبهة النصرة» على أجزاء واسعة من القنيطرة. فالمؤيّدون لطلال أرسلان، وهم كثر بين دروز حاصبيّا، كرهوا الثورة السوريّة منذ بداياتها، وكان من السهل إقناعهم بأنّ الأمر كلّه لا يعدو التعبير عن تعصّب سنّيّ مقلق. ومع التحوّل الأخير لوليد جنبلاط واعتباره أنّ العداء ل «داعش» يعلو كلّ عداء آخر، وهو ما عاد وعدل عنه، صارت غالبيّة الدروز الكاسحة في صفّ متجانس. فالمناطق هنا، في حاصبيّا الدرزيّة وفي العرقوب السنّيّ، امتداد جغرافيّ للجولان، وعلى الضفّة السوريّة قرى كعرنة وبيت جنّ ومجدل شمس وسواها، كانت دائماً على تواصل، ودّيّ أو عدائيّ، مع بعضها ومع مثيلتها على الضفّة اللبنانيّة. ووفق محمّد أبي سمرا، «راح أهل شبعا السنّة، مع نشوب الثورة السوريّة، ينقلون على بِغالهم جرحى الجيش الحرّ، لا سيّما أبناء قرية بيت جنّ، إلى مستشفيات لبنانيّة. غير أنّهم ما لبثوا أن تعرّضوا إلى مكمن نصبته لهم في الجبل مجموعة مسلّحة من أبناء قرية حضر الدرزيّة السوريّة قتلت عدداً من النازحين». ويبدو أنّ العداء قديم بين القريتين اللتين لا يخلو تاريخهما من أعمال ثأريّة متبادلة. وهذا لئن فاقمه تباين موقفيهما من الثورة، فقد تولّى المكمن المذكور، ومن بعده مهاجمة «جبهة النصرة» قريةَ حضر، وضع المنطقة كلّها على حافّة الاحتراب. وإذ أُمعن في انتهاك الحدود بين البلدين حتّى أضحت لزوم ما لا يلزم، بات الحدث السوريّ حدثاً لبنانيّاً، مثلما صار دروز حاصبيّا امتداداً آليّاً لدروز سوريّة، وغدا سنّة العرقوب أيضاً امتداداً للسنّة السوريّين. والراهن أنّ علاقات السنّة في قرى شبعا وكفر حمام وكفر شوبا والهبّاريّة بالسوريّين وراء الحدود، قديمة ووثيقة، بعضها شرعيّ وبعضها غير شرعيّ، فيما بغال المكاريّين تبقى أدات تواصلها الأنجع. وهم، الذين يعيشون في زاوية منزوية نسبيّاً، وجدوا أنفسهم دائماً يختارون في السياسة خيارات تتعارض مع ما تختاره بقية طوائف المحيط الأعرض. فلقد تعاطفت أكثريّتهم مع الثورة السوريّة في مقابل التعاطف الشيعيّ الغالب مع نظام الأسد. وكانت العلاقات بين الجماعتين قد شرعت تتدهور مع مقتل رفيق الحريري في 2005، فيما كان «تيّار المستقبل» أقوى الأطراف السياسيّة في العرقوب السنّيّ. فلم يكد الغضب يخبو قليلاً حتّى جاءت حركة أحمد الأسير وذيولها تؤجّجه. آنذاك، ووفقاً لعلي ضيا، طبيب الأسنان ومدير «المركز الإعلاميّ»، بات «النفور» يهيمن على العلاقات الأهليّة التي أصابتها الثورة والحرب السوريّتان في الصميم. واليوم، ومن دون أن يخلو الأمر من تهويل يعزوه بعضهم إلى «التضخيم الإعلاميّ»، يتردّد على ألسنة كثيرين تشبيه شبعا وجوارها السنّيّ بعرسال. فإلى التجاور مع سوريّة، يوصف آل الزغبي الذين كانوا أكثر الشبعاويّين حضناً للاجئين السوريّين وأبكرهم، بتعاطف سلفيّ أحدثته لديهم هجرة بعضهم إلى الخليج. وثمّة من يشير إلى عناصر من «الجماعة الإسلاميّة» في الهبّاريّة، من آل عطوي، تحوّل بعضهم إلى تكفيريّين، وكان أحد هؤلاء، حسين عطوي، من أطلق الصيف الماضي صاروخاً على إسرائيل. وفي المعرض هذا يشار إلى دور دعويّ نشط اضطلع به عدد قليل من المشايخ المصريّين انتقلوا، في 2006، إلى لبنان، وأقاموا في تلك المنطقة تحديداً. وثمّة محطّات سابقة في التنافر: ففي الستينات والسبعينات كانت شبعا أساسيّة في حضور المنظّمات الفلسطينيّة المسلّحة وفي تمدّدها، وهي ظلّت على ولائها هذا بعد انفجار التنازع الشيعيّ - الفلسطينيّ. وإبّان الحرب الأهليّة الصغرى في 1958، منح العرقوب السنّيّ قلبه لعبد الناصر و»الجمهوريّة العربيّة المتّحدة»، ومن دمشق وصل إليه المدعوّ علي الوحش، الذي يُرجّح أنّه كان يعمل لمخابرات «العربيّة المتّحدة»، فجنّد شبّاناً من شبعا وقتل بعض القوميّين السوريّين المسيحيّين من إبل السقي ممّن كانوا يحالفون كميل شمعون الذي التفّت حوله عصبيّة المسيحيّين. العدوّ: «السوريّ» تحت هذه الأرض، وفي موازاة صدوعها، تنهمك اللغة المسيحيّة - الشيعيّة في صنع العدوّ الذي يراد التوحّد حول عداوته، وهو «السوريّ». وهنا يُلحَظ تقسيم عمل ينمّ عن توازن القوى القائم، من دون أن يخفى خبث أحد طرفيه وسذاجة الطرف الآخر. ذاك أنّ «حزب الله»، وهو طبعاً السلطة الفعليّة، يتولّى تأليف القاموس، فيما يتولّى المسيحيّون ترداد مصطلحاته وإعلانها. وأغلب الظنّ أنّ الأخيرين، لا سيّما أبناء القرى المارونيّة الذين شُهّر بهم بذريعة «العلاقة بإسرائيل»، يجدون في هذا العداء الجديد ما يصالحون به جوارهم فيما يكفّرون عن الذنب الإسرائيليّ الذي يؤاخَذون وحدهم عليه. وطبعاً يجتمع الطرفان، الشيعيّ المتحفّظ والمارونيّ المجاهر، عند اشتقاق صورة السوريّ «الغريب» من صورة الفلسطينيّ «الغريب» في الستينات والسبعينات. ف «الناس متخوّفون لأنّ السوريّين جاؤوا مثلما جاء الفلسطينيّون قبلهم، لاجئين وهاربين، وإذا بهم يحملون السلاح ضدّنا». أمّا القاسم المشترك الثاني فالولاء المتفاوت الفولكلوريّة للجيش اللبنانيّ. وهذا، بدوره، كلام يبيعه «حزب الله»، وهو جيش نفسه الذي لا يحتمل جيشاً فعليّاً آخر، للمسيحيّ الذي لا يملك إلاّ أن يشتريه. وهذا ما يبدو على أجلى صوره في القليعة حيث النزاع الراهن مع السوريّين، والشراكة فيه مع الشيعة، هو وحده ما قد يساعد في طيّ صفحة الماضي. ذاك أنّ أبناء القليعة الذين انتسبوا بكثرة إلى الجيش اللبنانيّ حملتهم الظروف المعروفة على الانضمام إلى قوّات لحد، قبل أن ينتهي بعضهم في إسرائيل. وليس بلا دلالة أنّ تلك البلدة التي انصبّ عليها معظم النقمة، هي اليوم الأشدّ عداءً للسوريّين. فقد طالب أهلها بجلائهم كلّهم، وهم 13 عائلة، عن بلدتهم. ومن دون أن ينفّذوا ذلك، استقبلوا عائلات مسيحيّة من العراق قيل إنّهم سيحلّون محلّ المنبوذين من أبناء الملّة الأخرى. وإذ نتحدّث إلى شابّ من القليعة آثر عدم ذكر اسمه، يُخيّل إلينا أنّنا نتحدّث إلى واحد من المزارعين البيض المستوطنين في جنوب أفريقيا إبّان الستينات. فهو لا يجد ما يجمعه ب «هؤلاء السوريّين» بتاتاً، لا في الملبس ولا في السلوك ولا في العادات والتقاليد ولا في النظافة والترتيب ولا في معاملة النساء والأطفال. ولحسن الحظّ لا يبدو صاحبنا على بيّنة من الأفكار العلمويّة التي كان في وسعها أن تؤدلج مشاعره البدائيّة وتحوّلها «عِلماً» عنصريّاً. في المقابل، يزوّدنا علي ضيا بمطالعة تحاول أن تكون على شيء من التماسك. فهو يقول إنّ ظاهر المنطقة هادىء إلاّ أنّ ثمّة توتّرات تقيم تحت أرضها. وفي استطراده يذكر محدّثنا الهمّ المعيشيّ والهمّ الأمنيّ، لأنّ «جيرة إسرائيل ليست مسألة بسيطة. يكفي أنّ المنطقة تفرغ بمجرّد أن يسمع الأهالي بأنّ أحداً قصف إسرائيل». إلاّ أنّه لا يلبث أن يتوقّف مطوّلاً عند كثرة السوريّين. تسييس العداوة يقول ضيا: «في كلّ الجنوب لا توجد مخيّمات للسوريّين إلاّ عندنا. فهنا تجمّعُ خيم مرج الخوخ القريب من إبل السقي، والذي يضمّ 170 خيمة يقيم في واحدتها ما بين الأربعة أشخاص والسبعة. إنّهم سوريّون من المناطق كلّها وأكثرهم من إدلب، ومن الرقّة جاءت آخر الدفعات. في البداية كانت العلاقة ممتازة بوصفها ردّ جميل على استقبالهم الجنوبيّين في 2006، أمّا اليوم فسيّئة، خصوصاً وأنّ ما ظُنّ أنّه موقّت طال كثيراً». وإذ نسأل محدّثنا عن تسييس هذه العداوة، يردّ بأنّ التسييس بدأ مع إعدام التنظيمات السوريّة المتطرّفة جنوداً لبنانيّين. وفي مجملها كان لأحداث عرسال دور أساسيّ في ذلك كلّه. لكنّ ضيا لا يلبث أن يضيف: «كون منطقتنا فقيرة يجعل التنافس حادّاً في مجالَي الزراعة والبناء. لقد باتوا في القطاعين يطردون اللبنانيّ ويأتون بالسوريّ الذي يرضى بأجر أقلّ. وهناك أيضاً الغيرة من مساعدات المنظّمات غير الحكوميّة للسوريّين، وهو ما لا يصيب المعوزين اللبنانيّين شيء منه». والحال أنّ الجيش يدهم تجمّعات السوريّين في الجنوب، لا سيّما خيم مرج الخوخ. وفوق هذا، توزّع يوميّاً مناشير ضدّهم في معظم القرى والبلدات على اختلاف ألوانها الدينيّة والمذهبيّة. ويبدو أنّ السوريّين في المنطقة باتوا كلّهم ممنوعين من التجوّل بعد الثامنة مساء. فهناك في ساحة الجديدة يافطة تقول: «يمنع تجوال العمّال غير اللبنانيّين في جديدة مرجعيون من الثامنة مساء حتّى السادسة صباحاً»، والتوقيع: بلديّة مرجعيون. وحين سألنا أحد أعضاء البلديّة عن ذلك، ردّ بأنّ النهار عندنا ينتهي في الخامسة، وهذا يعني أنّ السوريّين يتمتّعون بفائض من الحريّة!. لكنّ المدهش، وبسبب العدوى والمزايدات، أنّ بلدة كشبعا، أيّدت وتؤيّد الثورة السوريّة، باتت في عداد ال 45 قرية وبلدة التي تمنع تجوّل السوريّين بعد الثامنة. فأن تكون مؤيّداً لثورة ما شيء، وأن تكون مؤيّداً لناسها شيء آخر. تحوّلات التذكّر لقد نجح «حزب الله»، ومن دون أن يتدخّل مباشرة، في أن يحوّل الناس عن العداء لإسرائيل إلى العداء للسوريّين. وشيئاً فشيئاً يتبدّى اليوم كأنّ العداء الأوّل ينضمّ إلى الأرشيف أو ينسحب إلى الخلفيّات. وربّما لم يكن من المصادفة البحتة أن يترافق التحوّل هذا مع ظهور اعتراضات أوّليّة بين سكّان مدينة النبطيّة، وربّما في سواها، على مشاركة الحزب القتاليّة في سوريّة. إلاّ أنّ علامات الاستياء ما لبثت أن خبت تباعاً، واستأنفت بيئة الحزب الأعرض سيرها وراءه، خصوصاً مع ظهور «داعش» الذي جعل الجمهور أشدّ تطلّباً وأكثر جذريّة من حزبه. إلاّ أنّ التحوّل هذا ينهي محظوراً يتعلّق بالكلام عن الاحتلال الإسرائيليّ وسنواته. فإلى الإشارات المتفرّقة إلى القسوة والعدوانيّة الإسرائيليّتين، لم يعد من المحرّم الإشارة إلى دورة اقتصاديّة أحدثها ذاك الاحتلال في تلك المنطقة ونجمت عنها بحبوحة لم تتكرّر. ذاك أنّ حديث الأجور التي كانت تُدفع للمنضوين في جيش لحد، ومعها الأجور الأخرى التي تُدفع للعمّال اللبنانيّين في إسرائيل وتُنفق في الشريط الحدوديّ، بدأ يصير تذكّراً مشروعاً ومستقلاًّ عن التذكّر السياسيّ للاحتلال. ف «الناس كانوا يذهبون إلى إسرائيل للطبابة وقضاء شهر عسل والتسوّق وقضاء ما يلزم، أكان في الخيام أم في حاصبيّا»، لكنْ أيضاً «لا يزال اليوم في إسرائيل ما بين ألفين وثلاثة آلاف لبنانيّ أوضاعهم معلّقة مثل أوضاع السلام في المنطقة». لقد كتب أنتوني شديد، وأصله من جديدة مرجعيون، عاش في أوكلاهوما سيتي وغدا مراسلاً ل «واشنطن بوست» ثمّ ل «نيويورك تايمز»، كتاباً عنوانه «بيت من حجر: مذكّرات منزل وعائلة وشرق أوسط مفقود». وعاجل الموت شديد في نوبة ربو على الحدود السوريّة - التركيّة، فيما لم يكتمل بناء البيت، وبقي الشرق الأوسط «مفقوداً»، على ما تُظهره، ببلاغة وشفافيّة، قرى الشريط الحدوديّ وبلداته. ماذا يُعمل؟ «ما من شيء يُعمل»، كما تقول العبارة التي افتتح بها صموئيل بيكيت «في انتظار غودو». أمّا سكّان جنوبيّ الجنوب فلا يعرفون ماذا ومَن ينتظرون.