أصبح من الواضح أن ما يسمى ب"جيش لبنان الجنوبي" ليس جيشاً نظامياً يخضع عناصره وضباطه لقوانين الجيوش ولصرامة نظمها. فقد ثبت أنه ميليشيا محلية خاضعة، اضافة الى المعادلة السياسية المستقرة عليها، للاعتبارات الأهلية للمناطق التي تنتشر فيها، وهي متأثرة الى حدٍ كبير بأوضاع السكان المحليين وبميولهم وتطلعاتهم. وقد تحمل محاولة توصيف هذا الجيش أو أي فرقة من فرقه، تعقيدات لا تقل كثافة وتداخلاً، عن تلك التي شهدتها المنطقة التي حلت فيها هذه الفرقة. فالفوج العشرون من هذا الجيش، وهو الفرقة التي تولت أمن منطقة جزين، أنشئت في العام 1985، بعد أحداث شرق صيدا، وما أدت اليه من عمليات تهجير واسعة لأبناء قرى مسيحية في قضاءي صيدا وجزين، وبلغ عدد النازحين عن قراهم في تلك الأحداث ما يزيد عن ثلاثين ألف مواطن، توجهوا جميعاً الى جزين وأقام معظمهم في قراها. الفوج العشرون تشكل في الدرجة الأولى من أبناء هذه القرى الذين هجروا، ثم من أبناء مناطق أخرى مهجرة أيضاً في ساحل الشوف ومناطق لبنانية مختلفة معظمها خارج الشريط الحدودي المحتل. وتغذت هذه الفرقة من أبناء بعض القرى في قضاء جزين، التي سبق أن شهدت علاقات متوترة مع محيطها، كالعيشية. وكان الاستقطاب في البداية يتم عبر قنوات عدة، منها نشوء خط تماس بين قضاءي صيدا وجزين، أو ما كان يسمى بجبهة كفرفالوس - لبعا - عين المير، وشعور المهجرين الهاربين الى جزين بأن الاقتلاع قدر سيلاحقهم الى مهاجرهم، إذا لم يتعبأوا للدفاع عن القرى التي حلوا فيها. ومن جهة أخرى كانت مشاعر العداء التي أشعلتها خطوة حرق منازلهم ومصادرتها، مستعرة في تلك المدة وللوضع الاقتصادي دور في انخراط المهجرين في الفوج العشرين إذ ترك معظمهم أعمالهم وأرزاقهم في قراهم ووصلوا الى مناطق نائية أيضاً معدومة فيها فرص العمل والعيش، فكان "الجنوبي" أحد الحلول. واستعمل قائد "الجنوبي" اللواء انطوان لحد لغة حاكى فيها مشاعر المهجر الراغب في العودة الى قريته فرفع شعار العودة المسلحة الى شرق صيدا. كل ذلك ركب على وجود جبهة متقطعة الاشتعال استمرت من العام 1985 الى العام 1991 على خط كفرفالوس، وكانت دائماً في حاجة الى وقود من الطرفين. وفي السنوات التي تلت العام 1992، التحق بالفوج العشرين عدد من عناصر أحزاب لبنانية محظورة كال "القوات اللبنانية" تعرض أعضاؤها لملاحقات، لم يجد كثيرون منهم أمامهم سوى الفرار الى الشريط الحدودي. كانت البيئة الأهلية والسكانية التي أسس فيها الفوج العشرون وتحرك، بيئة تهجير واقتلاع، وبيئة عدم انسجام وتجانس، يمكن فيها تأجيج مشاعر متفاوتة المصادر، منها الطائفي والسياسي والمناطقي والاقتصادي. والملاحظ هنا ضعف الانخراط الجزيني في هذه الفرقة منذ نشوئها، سواء على مستوى أبناء المدينة، أو في أوساط أبناء القرى الثلاثين في محيطها. فمنذ تأسيس الفرقة في العام 1985 الى اليوم لم يتسلم أي من أبناء منطقة جزين أدنى مسؤولية أمنية أو عسكرية أو حتى سياسية في هذا الفوج، باستثناء أميل نصر وهو من قرية العيشية التي لها وضعها الخاص في علاقتها بمحيطها، إذ ومنذ بداية الحرب اللبنانية شهدت أحداثاً جعلتها أكثر قابلية للانكفاء عن محيطها. أما أسماء مسؤولي الفوج الآخرين، فقد ترمز الى التركيبة التي سبق توصيفها، فالمسؤول الحالي للفوج جوزيف كرم علوش من منطقة شكا شمال لبنان. ونائبه الذي قتل قبل أشهر أميل توما هو أيضاً من خارج جزين، وقبلهما تسلم المسؤولية انطوان نصار من شمال لبنان، ثم ريمون نهرا من بيروت. لقد كان معظم عناصر هذا الفوج ممن دفعتهم تلاطمات الحرب في لبنان، وتناقضات مساراتها، من حزب الى حزب ومن متراس الى آخر حتى استقر بهم الوضع في جزين. الضربة الأولى التي تعرضت لها هذه الفرقة في منطقة جزين، كانت في تفكيك محاور الاشتباكات اليومية مع المنظمات الفلسطينية واللبنانية في شرق مدينة صيدا، إذ خسر الفوج حيوية عسكرية كانت تملي حالاً من التعبئة في صفوف السكان، وترفده بمقاتلين وبأجواء دفاعية تمسك الجماعات المختلفة وتكتلهم في مواجهة عدوٍ واضح، مواقعه أمام أعينهم. أما الضربة الثانية فجاءت عبر مشروع عودة المهجرين وان متعثراً. وقد باشرته الحكومة اللبنانية عام 1992. فقد بدأ النزف يصيب تلك التركيبة السكانية الهجينة التي انبثقت منها نواة الفوج، عبر عودة الكثير من العائلات الى قراها التي هجرت منها، ولم يبق في المنطقة إلا من استمر من أبنائها في الإقامة فيها اضافة الى عدد ممن لم تحل مشكلاتهم مع الدولة اللبنانية، ومع قوى ظلت نافذة في ظل هذه الدولة. وثمة حدث كبير في هذا السياق جعل من امكان العودة الى قرى شرق صيدا على المستوى النفسي أمراً ممكناً، إذ لطالما اعتبر أبناء هذه المناطق أن الوجود الفلسطيني الكثيف الذي يحف بقراهم هو سبب تهجيرهم وسبب تعقيد عودتهم، فكان أن دخل الجيش اللبناني عام 1991 قرى شرق صيدا، وحصلت معارك عنيفة بينه وبين المنظمات الفلسطينية التي رفضت في ذلك الوقت تسليم أسلحتها واخلاء المنطقة. حصلت هذه المعارك تحت أنظار المهجرين المقيمين في قرى قريبة جداً من قراهم، وتواجه من كان قبل ساعات في متراس مقابل مع جيش قادم آت من الشمال حيث عيون الجزينيين شاخصة الى دولة مدعوة منهم الى المجيء. التركيب الاجتماعي الذي استمر الفوج العشرون منبثقاً منه بعد العام 1991، أصبح من جهة مترهلاً ومتعباً ومن جهة أخرى كان الرفض المحلي لأبناء المنطقة بدأ يتبلور في صيغ واضحة. وكانت ذروته عندما جمع أحد كبار الضباط الإسرائيليين عام 1997 وجهاء المدينة وقرعهم بسبب عدم انخراط أبنائهم في "الجنوبي" وطلب منهم لائحة بأسماء ثلاثمئة شاب يجب أن يتطوعوا "للدفاع عن المنطقة" وهذا ما لم يحصل طبعاً. ونجحت فاعليات جزين، من المقيمين خارجها، في حركتهم تلك التي ظهروا فيها أنهم يشاغبون على الموقف الرسمي اللبناني المتنصل من تبعات أي انسحاب، في اشاعة أجواء نفسية في منطقتهم تحول دون حسم ارتباطها بالجيش "الجنوبي". فظلت جزين على مدى السنوات الثماني الفائتة على مرمى حجر من الانسحاب، وبقيت محاولات تحييدها على رغم كل ما وصفت به محفزاً أساسياً لعدم قبول أبناء المنطقة بالأمر الواقع، وبدا كأن الجزينيين وخصوصاً السياسيين منهم يقاومون أمرين واقعين: أولاً دعوات لحد لهم الى الانخراط في وضع الشريط الحدودي والانتماء الى جيشه، وثانياً تحفظ الدولة اللبنانية عن تبني قضية بلدتهم في حال انسحبت ميليشيا لحد منها. أما الوهن الذي بدأ يصيب الفوج العشرين فلم يتوقف، ولم تحل دونه حوافز جديدة لا أحد بريئاً منها. ولم ينفع التجنيد الإجباري الذي شرعت الميليشيا في تطبيقه. إذ ساهم في فرار المزيد من الشبان من المنطقة الى خارج الشريط، كما حصل في بلدة بكاسين وهي ثاني أكبر بلدة في القضاء، حيث راح عدد من شبانها المجندين بقرع أجراس كنائس البلدة، احتجاجاً على تجنيدهم فاقتحمتها قوة من الفوج العشرين. وفر الشبان عبر الأحراج الى خارج الشريط الحدودي، لكن بعضهم عاد بعد مضايقات تعرضوا لها خارجه. المقاومة كانت عامل تقويض لهذا الفوج، وعملياتها أدت الى مزيد من التذمر في أوساط الجنود والمجندين. لكن لأعمال المقاومة أيضاً في منطقة جزين مضاعفات أخرى، فهي شكلت أحياناً عنصر تماسك داخل الفوج الذي جعلت ضربات المقاومة له تضاعف الغرائز الدفاعية لدى مجنديه الضعيفي الانتماء اليه، وعززت ذلك تلك العبوات الناسفة التي سقط فيها مدنيون كثر على طرق المنطقة، مما أشعر المقيمين والسكان بأنهم هدف، وأن لا تمييز بينهم وبين الجنود. لكن الرغبة في التفلت من الانتماء الى الشريط الحدودي بقيت أقوى، وجاء حادث القرى الست ليتوج هذه الرغبة، فقد رفض المجندون من أبناء هذه القرى الواقعة بين بلدتي روم غرب جزين وعين المير شرق مدينة صيدا، وعددهم نحو 20 مجنداً الاستمرار في الخدمة في موقع المشنقة وهو على تلة تتوسط المنطقة، فكان أن انسحب الجيش "الجنوبي" من الموقع ومن القرى الست المحيطة به. لكن تجربة الانكفاء السلمي عن "الجنوبي" في تلك القرى لم تكن ناجحة كثيراً، إذ لم يؤد انسحابه منها الى حلول أي قوة محله، وهذا ما يتخوف أبناء جزين من حصوله في حال انسحبت الميليشيات من بلدتهم. اليوم لا يتجاوز عديد الفوج العشرين، المئة وخمسين جندياً معظمهم من خارج منطقة جزين، وطبعاً لا يخلو الأمر من بعض المسلحين المحليين، لكن دافع هؤلاء الى التسلح ليس الانخراط في مهام "الجنوبي"، فهم عملياً خارجه، لكنهم يشعرون أن الفراغ الذي سيشكله انسحابه سيجعل مصائرهم في غموض مرعب.