علي كافي. مذكرات الرئيس علي كافي من المناضل السياسي إلى القائد العسكري 1946-1962. الناشر: دار القصبة، الجزائر. 1999. 448 صفحة. كشف السيد علي كافي، وهو من قادة ثورة التحرير الجزائرية البارزين في مذكراته الصادرة أخيراً في الجزائر، كثيراً من الأحداث والحقائق المثيرة للجدل التي ظلت من "المحرمات" المسكوت عنها في تاريخ الثورة الجزائرية. فبعد انقضاء ما يقارب أربعين سنة من الاستقلال، لا تزال قليلة جداً الكتابات التاريخية الموثقة حول الثورة الجزائرية بأقلام من عايشوا أحداثها وتحملوا مسؤوليات فيها. وظل الكلام حول الثورة خطاباً لا يخلو من التقديس، يكرر السنوات باجترار في المناسبات. وفي هذا الإطار تأتي مذكرات علي كافي القائد الثاني للولاية التاريخية الثانية ورئيس المجلس الأعلى للدولة خلال 1992-1994 بعد اغتيال محمد بوضياف، كواحدة من المساهمات المتفردة، التي تلقي الضوء على العديد من الأوجه المجهولة في تاريخ الثورة الجزائرية، باعتبار أن الرجل من قادة الثورة الفاعلين ومن الذين عايشوا عن قرب مختلف مراحلها في الداخل والخارج، ومن العارفين بخفاياها. وجاءت المذكرات مدعمة بصور ووثائق ثمينة وافتتحها صاحبها قائلاً، بما يشبه إعلاناً للون ما سيأتي فيها، "الإنسان مهما كانت وظيفته ومنصبه في الحياة فهو كتلة من الأحاسيس والمشاعر وليس معصوماً من الخطأ". أفرد كافي جزءاً كبيراً لمشواره النضالي من حزب الشعب في نهاية الاربعينات إلى التحاقه بصفوف جيش التحرير سنة 1955 وصعوده السريع في درجات رتبه، حيث أصبح بعد سنة على ذلك عقيداً وعيّن قائداً للولاية التاريخية الثانية في الشمال القسنطيني بعد مقتل الشهيد زيغود يوسف، ثم تحدث عن عمليات 30 آب اغسطس 1955 في الشمال القسنطيني والتي عرفت عالمياً بالثورة الجزائرية بصفتها ثورة شعبية وليس كعمليات معزولة لخارجين عن القانون، كما يقول. بعدها تطرق بالتفصيل والنقد إلى مقررات مؤتمر الصومام لعام 1956 مركزاً على القرارات التي لم تطبق، ومنتقداً بشدة السياسيين الذين كا يدافعون، في رأيه، عن المدن والبورجوازيين، وقد رأى، هو ابن الريف، في ذلك تجاهلاً وخيانة ل"دور الريف الحصين مهد الثورة ومعقلها الشامخ، مربض الفلاحين والعمال الصغار والجماهير الشعبية المتسابقة على الفداء". كما انتقد بشدة، بما يشبه الإصرار القديم، تيار السياسيين، الذي كان غالباً في المؤتمر والذي أقر "أولوية السياسي على العسكري، مما تسبب في شرخ كبير وأليم في صفوف الثورة، فأصبح هناك من يقول: أنا من جيش التحرير، والآخر يقول أنا من جبهة التحرير". وبعدما اعتبر ان من النتائج السلبية "تصدع الجبهة الثورية العسكرية في الداخل"، ذهب إلى اتهامات خطيرة حول فتح اتصالات سرية لقادة الثورة في الخارج مع فرنسا ومحاولة التفاوض معها من دون استشارة الداخل. كما ذهب إلى عدم استبعاد ان يكون اختطاف فرنسا لطائرة تقل خمسة من أبرز قادة الثورة بينهم الراحل محمد بوضياف والحسين ايت أحمد وأحمد بن بلة، داخلاً في هذا الإطار، إذ "ليس من المستبعد أن يدرج في إطار محاولات التفاوض ومسايرة ما جرى على الجناحين تونس والمغرب، حتى لا تذهب الثورة بعيداً ولا تحقق الاستقلال الكامل الحقيقي والتحولات الاجتماعية والعدالة والديموقراطية وفق أهداف أول تشرين الثاني نوفمبر". غير أن أهم ما ميز مذكرات علي كافي، الأجزاء الأخيرة منها والتي تطرق فيها إلى أحداث وقضايا كان الحديث عنها في ما مضى مستحيلاً، من صراعات على السلطة أثناء الثورة وعشية الاستقلال ومن تصفيات جسدية. ولعل أخطرها على الاطلاق "مؤامرة لا بلويت" المأسوية التي ذهب ضحيتها ما يقارب ألفي مثقف ممن التحق بالثورة. وكانت المؤامرة قد حدثت في تموز يوليو 1958 بتدبير من المخابرات الفرنسية والتي أوعزت عبر أحد عملائها إلى العقيد عميروش، قائد الولاية الثانية في منطقة القبائل، بأن عناصر من ضباطه وجنوده وبالأخص المثقفين والمتعلمين منهم، وهم من طلبة الثانويات والجامعات الذين التحقوا بصفوف الثورة بعد إضراب الطلبة في آيار مايو 1956، على اتصال وثيق بالجيش الفرنسي، "فتمكن سرطان الشك من نفسية العقيد عيمروش وبعض مساعديه فسارع دون تحر ولا تعمق وتدبر بإقامة محاكمات صورية واستعجال الاعدامات، فكانت النتيجة إعدام حوالى 1800 من الضحايا أغلبهم من المثقفين". وعندما بعث العقيد عيمروش برسالة إلى قادة الولايات موجودة في الملحق الخاص بالوثائق يعلمهم فيها باكتشاف المؤامرة المزعومة، منبهاً إياهم إلى ضرورة الحيطة والحذر لأن المؤامرة دبرت لكافة الولايات، فإن علي كافي يذكر أنه اختار التريث عوض التسرع في محاكمات وإعدامات. وكتب: "نبهت العقيد عميروش إلى ضرورة الرجوع إلى لجنة التنسيق والتنفيذ قبل الشروع في الإعدامات، فهذا ليس من صلاحياته طبقاً لقرارات مؤتمر الصومام... وعلى لجنة التنسيق والتنفيذ ان تبعث بلجنة تحقيق". ويذكر قائد الولاية التاريخية الثانية أن ظاهرة المحاكمات الصورية والإعدامات المتسرعة تفشت بشكل خطير في الولايتين الثالثة والرابعة، وقد ارجع ذلك إلى هروب القيادة إلى الخارج وصراعاتها على السلطة وعدم تحمل مسؤوليات ما يجري في الداخل. وقد ذكّر في هذا السياق بموقف الحكومة الموقتة التي "وعبر وزيرها للدفاع كريم بلقاسم ووزير الاتصالات بوصوف بعثت إلى العقيد عميروش برسالة تهنئة لاكتشافه المؤامرة". ومن القضايا التي تطرق إليها علي كافي، والتي ظلت من الألغاز الشائكة في تاريخ الثورة الجزائرية، ظروف وملابسات مقتل عبان رمضان أو مثقف الثورة كما كان يدعى. فلأول مرة يعلن قائد من قادة الثورة صراحة ان هؤلاء هم الذين أمروا بقتله، بعدما كان التاريخ الجزائري والرسمي يسجله شهيداً سقط في ميدان الشرف بتاريخ 31 كانون الأول ديسمبر 1957. وفي ما يشبه الحكم على عبان رمضان يكتب كافي: "لم يكن للرجل توجه يساري، وليست له هواجس فكرية، وإنما كان هاجسه الأساسي هو بسط سلطته على الثورة"، ويضيف: "وكانت لعبان رمضان اتصالات سرية مع العدو لم يكاشف بها زملاءه في القيادة حتى اكتشفوها بمجهوداتهم ووسائلهم الخاصة، وعندما قامت حوله الشكوك أدت بزملائه إلى استدراجه بالذهاب معهم إلى المغرب بحجة مقابلة الملك محمد الخامس، وهناك تمت محاكمته ونفذ فيه الحكم". غير أن كافي لا يعطي تفاصيل أخرى عن هذه المحاكمة ومن وقف وراء قرار الحكم بالإعدام. مذكرات علي كافي التي اعتبرها الكثيرون كتاب الصيف، إن لم يكن كتاب هذا العام 1999 في الجزائر، أثار صدورها مباشرة نقاشاً أسال حبراً كثيراً وما زال يسيل، نقاشاً يساهم حتماً في فك ألسنة أخرى ستكشف معالم أخرى ظلت خفية أو مخفية من تاريخ الثورة الجزائرية. وأول رد على علي كافي جاء من أرملة الراحل عبان رمضان عبر جريدة "الوطن" الجزائرية، حيث اتهمته بداية بإصدار الكتاب عشية الاحتفال بالذكرى السابعة والثلاثين للاستقلال التي قام بمناسبتها الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بمنح أرفع أوسمة الجمهورية الجزائرية، "الأثير"، للراحل عبان وتم اطلاق اسمه على مطار مدينة بجاية. واتهمته بتزوير التاريخ وتضليل الشباب الذين لا يعرفون تاريخهم، معتبرة ان عبان تمت تصفيته لأنه كان شخصية عظيمة تلقي بظلالها على الآخرين، اتهمته في الأخير بالجهوية ومحاولة زرع الفتنة في منطقة القبائل الأمازيغ. وبعد هذا الجزء الأول من مذكرات علي كافي 1946-1962، ينتظر الكثيرون الجزء الثاني من المذكرات الذي يشمل فترة بداية التسعينات الحرجة في الجزائر، باعتبار ان علي كافي عايش عن قرب أحداثها، من وقف المسار الانتخابي في كانون الثاني يناير 1992، إلى اغتيال محمد بوضياف في حزيران يونيو من السنة نفسها، حيث كان عضواً في المجلس الأعلى للدولة الهيئة الرئاسية التي حكمت الجزائر بعد وقف المسار الانتخابي، وعُيّن رئيساً له خلفاً للرئيس المغتال محمد بوضياف، في الفترة من 1992 إلى 1994.