الاشارة الى كوني كنت موجوداً في ليبيا في يوم اعلان استقلال برقة الذاتي في الأول من حزيران يونيو 1949م، لم اكن موجوداً بالمصادفة، في الواقع اني في تلك السنة عملت نحو خمسة شهور في بنغازي في ادارة المعارف، وحضرت الحفل بوصفي من كبار الموظفين. قبل ان أتحدث عن السنوسية اود ان اشير الى امرين مهمين في التاريخ الاسلامي، لأن لهما علاقة وثيقة بالسنوسية. الأول الاجتهاد، والثاني التصوف .... تبدأ الحركة السنوسية بالسنوسي الكبير، السيد محمد بن علي السنوسي، المولود في قرية اسمها الواسطة على مقربة من مستغانم على مقربة من وهران في الجزائر. وأنا زرت الواسطة والتقيت ببعض اقاربه الموجودين هناك. كانوا يذكرون بعض الأشياء التي سمعوها عن اجدادهم. اول من علّمه كانت عمته فاطمة، وهي التي اشرفت على تعليمه وتحفيظه القرآن الكريم. ثم انتقل الى بعض العلماء بالواسطة الصغيرة، وبعد ذلك انتقل في شبابه الى جامع القرويين في فاس، وهناك بدأت حياته الفكرية، لا تتفتح ولكن تلمع. لأن الرجل كان ذكياً جداً، وكان اخذ الكثير من الأمور التقليدية من علماء بلده. ففي جامع القرويين، كان من الممكن عندئذ ان يحصل على علم غزير. وكان جامع القرويين في فاس من أقوى المدارس. وقضى هنالك عدداً من السنيين، لا اذكر تماماً كم كان عددها، ولكن بعد هذه المدة لم يبق تلميذاً في الجامع، وانما اصبح اساتذته يرجعون اليه في بعض المسائل التي تستصعب عليهم. ثم خطر على السنوسي الكبير ان يتعرف على بقية العالم الاسلامي. على الأقل الذي له ارتباط بشمال افريقيا. وأراد ان يمر بكل مركز علمي في شمال افريقيا، ويقضي هناك بعض الوقت مدرساً، وناصحاً، ومرشداً، ومتعلماً، ومتحدثاً، لا يهمه شيء. هو يريد في النهاية ان يذهب الى الحجاز وهو ليس على عجل من امره. ومن هنا استطاع ان يزور اكثر مراكز التعلم، داعياً الى اصلاح حال المسلمين. وهذه دعوته. السنوسي الكبير اصبح عضواً في كل الطرق الصوفية التي كانت موجودة في شمال افريقيا، وكتب من بعد عن هذه الطرق، ووصفها وصفاً دقيقاً، فمن الممكن ان يكون عضواً في جميع الطرق أملاً في ان يوحد هذه الطرق، وهذه الفكرة الأصلية عنده. مر، كما قلت، في الشمال الافريقي، وأعجبته الجزائر لأنها وطنه الأصلي، بينما في تونس لم يقبلوا به لأنه كان هناك المعهد الحفصي الزيتونة ولم يريدوا مزاحمين. مر السنوسي الكبير، فوجد في ليبيا ان الزوايا كانت قليلة وضعيفة. انتقل الى مصر. في مصر لم يعجبه شيئان: اولاً ان علماء الأزهر اصبحوا يتبعون رغبات محمد علي، فلم يظلوا علماء للعلم، اصبحوا نصحاء ومؤيدين للسلطة. ولم تعجبه طريقة محمد علي. اعتبر أن محمد علي كان يأتي بالشؤون الغريبة الغربية بشيء من السرعة. على كل حال قام خلاف بينه وبين الشيخ فأصدر فتوى ضده والمعروف ان احدهم همّ بقتله. فترك مصر وذهب الى الحجاز، وإقامته في الحجاز كانت طويلة. اقام هناك نحو 20 سنة. فلم يكن هنالك مكان افضل من مكة والمدينة للاجتماع بمسلمي العالم والاتصال بهم وتعليمهم، ويأخذ معهم ويعطي. وهناك بدأ حياة الطريقة السنوسية في سنة 1873، فأنشأ أول زاوية سنوسية في مكة في جبل أبي قبيس. وإذا تذكرنا ان السنوسي الكبير ولد سنة 1787، فمعنى ذلك انه كان رجلاً ناضجاً 50 سنة، عالماً، عرف الزمن، عرك الأمور .... وهو ينوي ان يرجع الى الجزائر ووصل الى اطرافها. لكن معرفته وإدراكه مكناه من ان يرى ان الجزائر لم تعد البلاد التي يمكن ان يقيم فيها، فقد احتلها الفرنسيون سنة 1830، في تونس ما كان ثمة مجال فيها، اما المغرب فبعيد جداً. فوجد المحل المناسب له ليبيا وبرقة. في طرابلس كانت هنالك الدولة العثمانية وما لها من سلطة اكثر من المناطق الاخرى. أنشأ الزاوية الأولى في البيضاء سنة 1843. هذه هي السنة التي يمكن اعتبارها بدء السنوسية في ليبيا. وبدأ ينظر للقضية من ناحيتين: الأولى احياء الاسلام بالطريقة التي فهمها هو. والثانية نشر الاسلام في الاماكن التي لم يصلها. ولكن هذا لم يتم في أيام السنوسي الكبير. السنوسي الكبير وجد ان زاوية البيضاء قريبة اكثر من اللازم الى الشاطئ والمكان الذي فيه سلطة العثمانية بنغازي - درنة لذلك نقل المركز الى الجغبوب. غير انه عندما انتقل الى الجغبوب لم يعش بعدها طويلاً فتوفي سنة 1859 بعد ان انتقل اليها بمدة قصيرة ودفن بها. جاء دور السيد المهدي. السيد المهدي تولى الأمر وهو في السادسة عشرة من عمره، وكان نشأ مع جماعة متشربين بالروح التي كان السنوسي الكبير يريد ان يشيعها. وكان علماء، نصحاء، مؤمنون، صالحون، كلهم ساندوه ولذلك استطاع ان يقوم بعمل كبير. السيد المهدي تولى شؤون السنوسية في ليبيا لمدة 43 سنة الى ان توفي سنة 1902. ما هو العمل الأساسي للسنوسية؟ العمل الأساسي هو انشاء مراكز حتى تنتقل افكارك اليها. هذه المراكز بطبيعة الحال زوايا مثل الزوايا في الطرق القديمة على الأقل من حيث الاسم. لكن هناك نقطتان مهمتان. الأولى ان هذه الزوايا، وسكان الزوايا لا يحصلون على الرزق وهم قاعدون، كان يجب على كل زاوية ان تنتج ما يكفيها من الحبوب والخضار، وتربي من المواشي ما يلزمها. وبالامكان ان تكون زاوية اغنى من الاخرى فتساعد. ولكن الأصل فيها حتى بناء الزاوية كان يقوم به أهل القبيلة. وكان الناس يسمعون اخبار الزاوية المبنية هناك، فيتعرفون على الناس فيها، ويدركون اهميتها، فيطلبون هم ان تبنى زاوية عندهم ويرسل اليهم من يعلمهم. كان الامر تبنون انتم الزوايا، وأنتم ستقومون بالأمور الضرورية من زراعة وصناعة الى آخره. وعلىه فالسنوسية لم تكن طريقة صوفية كسولة بل فيها حيوية ونشاط وعمل وهذا كان مهماً جداً. الأمر الثاني الذي كان يتصل بهذا، لم يكن هناك عدد كبير من الناس الذين يفرضون انفسهم معلمين ولذلك لا يشتغلون. هناك عدد معين يعين من الرأس، من القمة، الباقون يشتغلون ويقومون بالأعمال الدينية، يصومون ويصلون الى آخره، ويحضرون الأوراد وحلقات الذكر. كذلك كانت تقام في احيان كثيرة مثل الجغبوب، والكفرة لاحقاً، المراكز التجارية الرئيسية، فأصبحت هذه مراكز تجارية اساسية، وأصبح يتوجب على هذه القبائل التي تعيش في اجواء هذه الزوايا وطرقها ان تحمي التجار لا ان تنهبهم كما كانت تفعل من قبل. انتعشت التجارة، وانتعشت الزراعة، وانتعشت الحياة الاقتصادية بين الناس، فأدرك الناس فعلاً ان العمل الخير يؤدي الى الخير أكثر من نهب القوافل. في عام 1961 كنت في زيارة الى مرزق في اواسط جنوب فزان، وجاء وقت المساء، وجاء وقت الطعام، ولم اكن يومها في زيارة الى زاوية، هذه قصة ثانية. فوجدت بين أكل المساء بذنجان وطماطم، فسألتهم كيف وصلت هذه الى هنا. فقال احدهم هذه من آثار السنوسية. هم جاؤوا لنا بالخضار لنزرعها في هذه المناطق النائية. وما أردته بهذا المثل هو ان أؤكد على فكرة الانتاج والعمل. السنوسيون الذين كانوا يقودون هذا الأمر يعرفون انهم يريدون ان يدخلوا في العالم الاسلامي روحاً جديدة، ويمكن تسميتها احياء، اصلاح، المهم ان يكون المسلمون مسلمين، لا ان يكونوا تابعين، الى آخره. فالأساس الذي كان السنوسي استنه هو ان الاجتهاد ممكن الآن. كما كان في القرون الأولى، وكل عالم يستطيع ان يجتهد، وأما حدود الاجتهاد هي القرآن الكريم والحديث الشريف، لأن هذا هو الذي يقوم عليه الاسلام. هذا الشيء مهم فعلاً، لم يقم به من دعاة اصحاب الطرق وأصحاب الحكم سوى السنوسية. الأمر الآخر الى جانب فتح باب الاجتهاد، انه لا يوجد هنالك عبادة غير الخالق. كل ما عدا هذا اخطاء. واذا كنت تريد ان تنشئ مجتمعاً او تصلح مجتمعاً فأنت بحاجة الى اشخاص. لذلك أنشأ في الجغبوب معهداً خاصاً لتدريب هؤلاء الناس، وجاء الطلاب من جميع انحاء شمال افريقيا، وأكثرهم من ليبيا، ومن مناطق حوالي بنغازي. عدد الزوايا التي تم انشاؤها في فترة السنوسي الكبير والسيد المهدي مختلف فيها بين الباحثين. لكن تأكد ان برقة لوحدها كان فيها 123 زاوية. وبرقة تشمل الكفرة معها. الأمر الآخر الذي كان من بين اهتمامات السنوسي الكبير نفذه ابنه السيد المهدي هو نشر الاسلام. حتى المغرضين الذين كتبوا عن السنوسية ذكروا ما لا يقل عن 3 - 4 ملايين انتقلوا من الوثنية الى الاسلام في اواسط افريقيا. وهذه بحد ذاتها مهمة جداً. فأواخر ايام السيد المهدي، او على الأصح في الفترة التي كان فيها السيد المهدي يشرف على السنوسية حدثت اشياء كثيرة في العالم المتصل بالشمال الافريقي. أولاً فرنسا استمرت في احتلالها للجزائر. ثانياً فرنسا وإيطاليا تنافستا على تونس بغية استعمارها، بطبيعة الحال، ولكن هنالك شيئاً ما. كانت الدولة العثمانية في نهاية القرن ال18 امل المسلمين في الاصلاح. فالدولة العثمانية في القرن ال19 بدأت تتدهور. اذن لم يكن ثمة مجال لأن تصبح الدولة العثمانية المنقذة للمسلمين. لكن السنوسي الكبير والسيد المهدي يعرفان انك لا تستطيع ان تدعو الى اصلاح الاسلام وتحارب الدولة العثمانية، وهي تمثل المسلمين. وهذا الفرق بين السيد المهدي والمهدي السوداني الذي حمل الحرب وقاتل، وكانت النتيجة انه تم احتلال السودان على يده. والمهدي السوداني كتب الى السيد المهدي رسالة يدعوه فيها الى الالتحاق به، وقال انه يعينه الخليفة الرابع. ففي الرسالة الأولى رد عليه السيد المهدي رداً لطيفاً حكيماً، وقال له ما هكذا تضرب الإبل، ولا يجوز لك ان تحارب الدولة العثمانية اي المصريين. والرسالة الثانية التي بعثها مهدي السودان للسيد المهدي لم يجب عليها. قاطعه مرة واحدة. لذلك كان السيد المهدي حريصاً. وكان يحرص على المشي والمضي بسلامة. في اواخر عهد السيد المهدي تقدمت فرنسا من غرب افريقيا الى الوسط. فأصبحت السنوسية في عداء عسكري، اي حرب، ويجب ان تتقدم للدفاع عن النفس. وكانت الحروب في أيام السيد المهدي وأيام ابن اخيه السيد احمد الشريف. وعندما توفي السيد المهدي 1902، وقبيل ذلك، بدأ الفرنسيون في التقدم. المهدي مات، وحارب الفرنسيين ولم يستطع دحرهم. عندما توفي السيد المهدي ترك ابنه السيد محمد ادريس طفلاً عمره 12 سنة. والأمور لم تكن كما كانت ايام تولي السيد المهدي وهو في سن ال16 من عمره. فتولى السيد احمد الشريف الذي كان ابن اخ السيد المهدي. فالسيد احمد الشريف تولى الأمر وحارب هو الآخر في افريقيا، لكن السنوسية فشلت، فانسحبت. ثم تأتي الفترة الملعونة لأنها لما وجدت ايطاليا ان فرنسا احتلت تونس، ولم تعطها حصتها، لم يبق امام ايطاليا سوى ليبيا. وبدأت تهتم بها، والدولة العثمانية لا تستطيع ان تدافع عنها. فأعلنت ايطاليا الحرب على الدولة العثمانية بإرسال قواتها في ايلول سبتمبر 1911 الى اجزاء منها وتم احتلالها. وبعدها تم توقيع معاهدة اوشي 1912 بين ايطاليا وتركيا. ومن الطف المواد التي نعثر عليها في المعاهدة: اولاً تمنح الدولة العثمانية ليبيا استقلالها، ثم يبعث السلطان العثماني آنذاك الى السيد احمد الشريف تفويضاً بأنه هو نائبه في ليبيا وقد اعلن استقلالها، في الفترة التي كانت السنوسية فيها تحارب فرنسا في اواسط افريقيا، ومن ثم الجهاد ضد الطليان. صحيح انه في ايام الحرب العالمية الأولى، ارسل الأتراك والألمان جماعة ساعدت السنوسية ضد الايطاليين، وأقنعت السيد احمد الشريف ان يهاجم الانكليز في مصر، فهذه الأشياء لا قيمة لها. ولكن ايطاليا احتاجت 20 سنة حتى تحتل ليبيا في النهاية، اي من 1911 الى 1931 حين احتلوا الكفرة. * من محاضرة ألقاها الدكتور نقولا زيادة في لندن بدعوة من "مركز الدراسات الليبية" في مدينة اكسفورد في 9 تموز يوليو الماضي. والدكتور زيادة مؤرخ واستاذ جامعي سابق زار ليبيا ست مرات وحضر تنصيب ادريس السنوسي أميراً على برقة سنة 1949. وكتب عن السنوسية باللغة الانكليزية وألقى محاضرات عنها في الجامعة الأميركية في سنة 1958، وكان صدر له "برقة الدولة العربية الثامنة" طبع في العام 1950.