القصيدة الأخيرة في مجموعة عبدالوهاب البياتي الأولى، "ملائكة وشياطين"، تحمل تسمية "نهاية"، وهي كذلك فعلاً. ويكفي الانتقال من البيت الأخير فيها إلى السطر الأول من القصيدة الأولى، "أباريق مهشمة"، في مجموعته الثانية التي تحمل عنوان هذه القصيدة، لكي نشعر ونتحقق، من جسارة هذا الانتقال الذي يجعل قلب الورقة على غيرها في الجزء الأول من "ديوانه" قلباً يكاد يكون تاماً للقصيدة العربية في نهاية النصف الأول من القرن الجاري. ومن يعود إلى سنوات طبع مجموعات البياتي الشعرية يتحقق من أن السنوات الفاصلة بين صدور المجموعتين هاتين بين 1950 و1954 هي الأطول في تاريخ إصداراته حتى مطالع السبعينات على الأقل. كما لو أننا ننتقل، بين المجموعتين، من شاعر إلى آخر، طالما أن التباين أكيد وراجح، يطاول تركيب القصيدة العام، ومعانيها، ومبانيها، وتقطيعها الداخلي النحوي القصير و"المموسق" الذي جعل القصيدة "تسيل"، حتى لا نقول "تجري" وفق مبدأ "الجريان" المعروف من بيت شعري إلى آخر... فيما ننتقل، واقعاً، من عهد إلى آخر: من عهد كان فيه للشعر، وإن بشيء من الليونة قبل البياتي، قانون مفروض ومعروض على الشعر والشعراء، إلى عهد بات فيه الشعر قيد عمل الشاعر، ورهن القواعد التي يرتئيها الشاعر له ويقترحها على غيره. في مدى هذه السنوات الأربع أنزل البياتي الشعر من مواضعاته المفروضة، من عليائه البلاغية والموضوعاتية الشعورية، الغزلية... إلى تقلبات الزمن وجدل الإنسان فيه. وهو أشبه بنزول أورفيوس، طلباً ل"سرقة النار"، النار المحيية: النار التي تتأجج بفعل احتراقها نفسه، مثلما تتجدد القصيدة بفعل تعريض بنيتها لما يهددها ويحييها بالتالي. ولقد أسلم البياتي الشعر بذلك لما يكشفه ويعرضه، في لعبة شفافة هي لعبة الحداثة، التي تجعل الشعر شديد النضوح بتقاطيع النفس وصروف الزمن، وفي مواجهة تجعل الشاعر لا يتلهى بقوالب ومراسيم سابقة عليه بل بإنتاج نص له هيئته الأخيرة عند الانتهاء من كتابة القصيدة. هذا النزول، بعد نزاع بين الملائكة والشياطين، من المواضعات إلى المكابدات وسم مسار عبدالوهاب البياتي، وإن اتخذ في سنوات شعره الأخيرة سبيل التأمل، بعد طول تمرس بالإخبار والتعبير والتخاطب. وهو نزول ما لبث أن سلك تعرجات الزمن في أمكنة متعددة، وإن أبقى الجهات الأربع تنعقد حول خط العراق - المنفى. أمكنة وأسماء علم وأحوال ومعايشات لنا أن نرى فيها نقاط استدلاله على المعنى، حتى أن بعض مجموعاته الشعرية، ولا سيما في عهد المنافي، أشبه بمدونات يومية لما عايشه وتاق إليه. وفي هذا لم يعرف الشعر العربي الحديث، منذ قصيدة عبدالرحمن الشرقاوي "من أب مصري إلى الرئيس ترومان" في العام 1951، هذا الانفتاح على سير وأحوال خارجية على سياقه المحلي. فمجموعات البياتي تحفل بوقائع وأسماء علم وأمكنة قلما سمعنا بها، وقد تحتاج، اليوم، إلى دليل كشاف بل إلى عالم آثار طالما أنها تتحدث عن أيام "مشهودة"، وهي اليوم ذاوية بل أشبه بالخرائب، بعد أن طواها معه أفول "الزمن الاشتراكي" بتأكيداته الانتصارية والتفاؤلية. والنزول هذا لم يسلم من عواقب الانفصال، من الشعور بالفقدان، بل بالغربة في العالم الجديد. ذلك أن هذا الشعور الحاد نلقاه في شعره قبل أن يعرف الابتعاد عن بغداد للمرة الأولى في العام 1954، بعد صدور مجموعته الثانية "أباريق مهشمة"، إذ يعين نفسه في هذه المجموعة ك"مسافر بلا حقائب"، خالصاً في نهايتها إلى القول: "في داخلي نفسي تموت كالعنكبوت نفسي تموت وعلى الجدار ضوء النهار ... لا جدوى، سأبقى دائماً من لامكان لا وجه، لا تاريخ لي، من لامكان". لهذا قد يكون تفسير إحسان عباس لغربة البياتي في كتابه "عبدالوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث" الذي كرس "ريادة" البياتي سريعاً، في العام 1955، وتشبيهه لها بغربة إليوت، فيه شيء من الإقحام والتمثل، إذ أن غربة الشاعر الانجليزي حضارية وغربة الشاعر العراقي نفسية - أخلاقية إذا طلبنا التخصيص. إلا أن هذا لا يغيب عنا ضلوع البياتي في تأثرات بينة، منذ مجموعته الثانية، بعدد من الشعراء، وقد يكون إليوت أضعفهم حضوراً. ويبلغ هذا التأثر حداً عالياً في مجموعاته اللاحقة، في عهد المنافي، إذ ينهل مما سبقه إليه شعراء مجربون ومكرسون، مثل ناظم حكمت التركي وبول إيلوار الفرنسي وبابلو نيرودا التشيلياني وحتى الصيني ماوتسي تونغ في شعره. وهو نهل يتخذ من المبثوث الإيديولوجي في الدعاوى الحزبية مصدره الأكيد، كما نلقي ذلك في تأكيدات "إرادوية" تشدد عزم المناضلين، وتمحق "الأعداء" في صورة مسبقة، وتنسب الحياة بأصنافها كلها من الشجر، بزيتونه وأقحوانه وأزهاره، إلى البشر، بشهدائهم ومواليدهم الجدد إلى "الرفاق" وحسب. وهو ما أكده في سلسلة من الكتب التعريفية التي كرسها لهم، مثل كتبه عن ناظم حكمت 1956، وبول إيلوار 1957، ولوي أراغون 1959. وهو ما أخذه عن البياتي شعراء عرب عديدون، منذ محمود درويش في بداياته إلى عدد من الشعراء التونسيين الشباب. شعر شديد اللصوق في بعضه بزمنيته، واجداً في عدد من الأيام والوقائع "المشهودة" محطات ترسم التاريخ الأكيد: فإن كنا نعرف جمال عبدالناصر وفيروز وماوتسي تونغ وجميله بو حيرد وشيلر وبيكاسو ومكسيم غوركي وجواد سليم وغيرهم الكثير، فمن هو غابرييل بيري وهانسن كروتسبرغ وبيتر بابرتز وانكريد فايس وايرين أوبنهار وغيرهم الكثير. ولو شئنا التتبع والتدقيق في هذا الشأن لوجدنا البياتي ينفصل منذ مجموعة "سفر الفقر والثورة" 1965 عن هذه الزمنية الوقائعية إلى زمنية أخرى، أكثر تأملاً واحتراقاً واقتصاداً، تنهل من الكتب القديمة اللزوميات، الرباعيات، ... ، وتتحاور مع الأسماء الأكيدة المتنبي، أبو العلاء، الحلاج، ديك الجن، وخصوصاً عائشة...، وتختفي دمشقوبغداد وفيينا وبرلين التي يكرس لها مجموعة شعرية كاملة، "عشرون قصيدة من برلين" لتحل مكانها نيسابور والمعرة وبابل وغرناطة وشيراز وغيرها. أمعن البياتي في إنزال الشعر من عليائه، بأن ابتعد عن لغته الموروثة والمغلقة، ومدَّه بلغة سارية لا تتورع عن التقاط كلام الجرائد وأحاديث العامة، بركاكتها وهلهلة نسيجها، كما تستعذب تصوير مشاهد وأشخاص قلما دخلوا سابقاً إلى ديوان الشعر العربي. وهو ما نلقاه في حسه الوصفي، بل السردي الذي يقترب أحياناً عديدة من لغة التوليف السينمائي، كما نتحقق منه في قصيدة "سوق القرية": "الشمس، والحمر الهزيلة، والذباب وحذاء جندي قديم يتداول الأيدي، وفلاح يحدق في الفراغ...". أو في قصيدة "القرصان" و"الأفاق" و"الحديقة المهجورة" وغيرها - وهو نوغ ما لبثنا أن فقدناه - للأسف ! - في شعر البياتي. كما عمد في شعره "الساخر" - ما أقله! -، كما في مجموعة "يوميات سياسي محترف"، إلى استعمال العبارات البذيئة والساقطة، عدا تعويله على الصور الظريفة والمفاجئة، كما في حديثه عن "بورجوازي صغير يقرض الشعر": "فإن صحا في الشام باع دم الشهيد في بيروت وسجل الباقي علي الحساب". أو في حديثه عن "المخبر": "له قرون التيس والخرتيت لسانه حبل غسيل في الضحى وفي الدجى منشار تُنشر فيه جثث الموتى وقطع الحديد والأحجار". قدم البياتي من الريف إلى بغداد، ولم ينقطع منذ العام 1944 عن معاشرة المدن، على تعددها واختلافاتها، حتى أنه عاش بعيداً عن العراق أكثر مما عاش فيه، في خط مأسوي جمع معه محمد مهدي الجواهري وبدر شاكر السياب وبلند الحيدري، وغير شاعر عراقي اليوم في المنافي البعيدة. ومعهم وفي أشعارهم بات العراق صورة مستحيلة، بقدر ما هو صورة مشتهاة، ومدعاة "للشعرنة" كذلك. إلا أن هذه "الشعرنة" لا تشبه غنائية بعض الشعر اللبناني "الطبيعية" بوطنه، ولا طلبَ بعض الشعر الفلسطيني ل"استحواذ المكان" وتملكه، بل تشي الغنائية العراقية هذه بنسب ريفي لا يتوانى، قبل الانفصال عن الوطن والنفي بالتالي، عن التحقق المأسوي من القطيعة بين المنبت الطفولي وبين وحشة العالم أينما كان. يصف البياتي نفسه في "تجربتي الشعرية" ب"مسافر بلا عودة"، ولكن بعد أن يحدثنا عن "الصدمة الأولى" في حياته التي تمثلت بهجرته من الريف إلى بغداد، و"اكتشافه"، كما يقول، ل"حقيقة المدينة"، ولكونها "مزيفة"، وقد "فُرضت علينا". وهو يقول في "ذكريات الطفولة" من مجموعته الثانية: "ولربما مات الضياء ولم يَعدْ ونقول: "جاء" كنا نقول كما نشاء حتى النجوم كنا نقول بأنها - كانت - عيون للأرض تنظر في فتون ... ولربما كنا نحدق في الفراغ، ولا ننام وفي الظلام - مأوى الأفاعي والعفاريت الضخام - كانت مدائننا الجديدة في خواطرنا تقام كانت مدائننا الجديدة في الظلام بمنازل الأموات أشبه أو قرى النمل". عبدالوهاب البياتي مسافر بلا عودة، إلا أنه نصب لنا في كل وقفة، في كل استراحة، موعداً لنا معه، ومع صورنا الإنسانية المشتتة.