أعادت "دار النهار للنشر" طبع أجزاء من أعداد مجلة "المعرض" من سنة 1921 إلى سنة 1937 لصاحبها ميشال زكور 1896 - 1937، اللبناني الصحفي والسياسي اللامع، في مجلدين كبيرين، ضمن سياسة نشرية تلقي الأضواء على بعض الدوريات اللبنانية، بالعربية والفرنسية، التي باتت مفقودة حتى في المجموعات الكبرى للمكتبات الوطنية المختلفة. والسياسة هذه لا تعدم التذكير بمدونات "زاهية" لرواد لبنانيين، في الوقت الذي يدور فيه الحديث حول معنى "التجربة اللبنانية"، بين الخشية من فقدان التجريب نفسه وبين الحنين الراجف إليه. وتقليب صفحات مثل هذه المدونات القديمة يتيح الوقوف، على تقطعه وتبعثره في آن، على معالم بناء وتوليف بالأحرى في ثقافة تستقي جداولها وصورها ومثالاتها من مرجعيات متعددة، وتعرض هذه التوليفات على سوق الجدل والتداول، على أن إنتاجات كهذه "بضاعة ومعنى" في آن: وفي هذا ما يحيي الثقافة ويجددها، وإن يقرنها بالتجارة، إذ يجعل الثقافة مرهونة بأفعال البشر، لا بقرارات خارجة عليهم. ولقد أحسن العاملون على نشر المجلدين عندما قرروا جمع الصورة والكلمة في ما احتفظوا به من مواد المجلة كلها، إذ أن الجمع هذا - ويعني واقعاً الاحتفاظ بالصورة الفوتوغرافية وعدم التخلي عنها، إلى جانب المواد المكتوبة - أضاء "عتمة" الكلمات، إن صحت العبارة، إذ أعطى الكلمات بعضاً من سياقها الناظم لها، أو كشف أحياناً تفاوتاً بين ما تقوله صورة البشر وأفعالهم وهيئاتهم وبين ما تقوله الكلمات عنهم. فصورة "نابغة الفن ومطرب مجالس الملوك والأمراء الأستاذ محمد عبدالوهاب"، المبسوطة على صفحة بكاملها من المجلة تقول عن هيئة الفنان أنه بات يستجمع اللباس الأوروبي الطراز تماماً من معطف إلى ربطة عنق محكمة وشال مقروناً بالطربوش العثماني، بل يصر الفنان في الصورة على الإمساك بعصا، على الرغم من صغر سنه واستواء قامته، في تذكير وتشبه بسلوكات أوروبية معروفة. ولا يتأخر عبدالوهاب عن النظر إلى مصوره مباشرة، أي إلى القارىء لاحقاً، في حركة تعبيرية من العينين تدعو إلى التواطوء اللطيف بينهما، فيما تبقى أم كلثوم في لقاء صحفي معها يجريه الأديب فؤاد حبيش رصينة التعبير، تكتفي وحسب في إحدى الصور بلمس خفيف لحبات العقد على صدرها. وهو عدم عناية بالصورة ما فارق أم كلثوم أبداً، إذ لم تجعل أبداً من هيئتها - إلا ثوبها الطويل ومنديلها الشهير وتسريحتها الثابتة "الملمومة" دائماً - مجالاً لإبلاغ بصري، بخلاف صور السينما الزاهية في ذلك الوقت التي يبلغنا بعض بريقها في عيني آسيا داغر المفتونتين بنداءات الكاميرا. كما لو أن أم كلثوم ظلت وريثة تقليد "أدبي"، إذا جاز القول، كلامي، في الفن مؤداه الصوت ليس إلا. في صورة عبدالوهاب يقوم الفنان برفع ياقة معطفه في حركة هي وحدها التي تخفف من انتظام اللباس، وهي الحركة عينها التي نلقاها في صورة الشاعر صلاح الأسير التي تتصدر إحدى مقالاته، والتي تعود بنا إلى مثالات هيئة وافدة مع الألبسة الأوروبية نفسها. وهي صور ترسم لنا، على اختلافها وتقطعها، شيئاً من الميل، من التشوف ويعني في هذه الحالة التشبه خصوصاً، التي تقوله الكلمات ولكن في صورة أقل، وربما في تباين بينهما. جمع توليفي لما بات ممكن الجمع: الصورة الصحفية والإعلانية أحياناً والكلمة المكتوبة، في سعي إبلاغي، إخباري، نرى فيه أم كلثوم جالسة إلى طاولة مع محدثها الصحفي، و"الزعيم" أنطون سعادة في قفص الاتهام في إحدى المحاكم، أو صورة "مدبرة" أي مصاغة لجبران خليل جبران في الاستديو تذكر بوضعيات التصوير الاستشراقي... وهو ما يبلغنا من الكلمات بدورها، إذ نتحقق من زيارة أمين الريحاني للصرح البطريركي الماروني في بكركي بعد طول قطيعة، أو من دعوة أحمد شوقي لأفراد "عصبة العشرة" إلى غداء، أو من إفراد المجلة لعدد خاص عن محاكمة سعادة، هي التي كانت تناصبه الخلاف حول هوية لبنان إذ نقرأ في افتتاحية هذا العدد الخاص: "ان مبادىء الحزب السوري القومي لا تتفق مع قضيتنا اللبنانية، ولكننا نحترم القائمين بهذه المبادىء" وغيرها. إلا أن هذا الجمع يرسم حدود الإبلاغ أيضاً، إذ تبدو الأخبار كذلك، في بعضها، تعييناً وتثبيتاً للياقات اجتماعية ليس إلا، وتبدو لغة السرد الإخبارية مشوبة بتوقيعات ونبرات "احتفالية"، بعيدة عن التبصر والتدقيق، وطبعاً النقد. إلا أن هذا كله يرسم لنا صورة عن مجال يتسم بمقادير من الحراك: تُقبل فيه الأحزاب على التأسس والاختلاف، بينها وبين السلطة الانتدابية الفرنسية، أو فيما بينها حول البقاء تحت سلطة فرنسا، أو النزعة "اللبنانية" الاستقلالية وغيرها. وهو الخلاف الذي يؤدي في بعض وجوهه إلى محاكمة سعادة الأولى في 1936 وبعض أركان حزبه. ولكن من دون أن تسلم الجماعات المحلية من التجاذب هذا، الذي يبلغ حدود "الحزازات المتفجرة" حسب "المعرض"، عند الحديث عن المناوشات الدموية بين جماعتي عبدالحميد كرامي وعبداللطيف البيسار، بدعم من آل المقدم في طرابلس. خلافات محلية مشدودة في بعضها إلى توازنات القوى بين الجماعات والزعامات، وفي بعضها الآخر إلى أسلحة الدعاوى و"الأفكار" التي دارت في غالبها حول التمثيل والديمقراطية والحرية، والتي تبلغ عند نعمه قسطنطين تابت حدود القول التالي: "الفاشستية نظام ديمقراطي محض. هو نظام يحفظ حقوق الفرد ويصون مصلحته. ويستخدم مواهب الأفراد لمصلحة الأمة. "الدوتشي" الإيطالي يستمد سلطته من الشعب الإيطالي، وستبقى له هذه القوة ما دام الشعب يمنحه الثقة، وهذا ينطبق على حالة إلمانيا و"فوهررها"". وهو حراك تسعفه وتظهره في آن تشكلات ومبادرات اجتماعية، نتحقق فيه من أن نينا طراد زوجة الرئيس اللبناني الأسبق شارل حلو، لاحقاً وبلانش عمون فازتا بإجازة الحقوق من "معهد الحقوق" في بيروت، "وهي المرة الأولى التي يقدر فيها لفتاة أن تنال هذه الشهادة العالية في بلادنا، ذلك أن معهد الحقوق كان قديماً يمنع على الحسان تلقي هذا العلم". القومية في الأدب يمكننا أن نقرأ في مقالة لافتة للأديب صلاح الأسير، "القومية في الأدب" 1936، ما يفيدنا عن التشكلات الأدبية في ذلك العهد، وهي تشكلات تشطر الأدب إلى شطرين رغبة في الدعوة، واقعاً، إلى أدب ثالث، أو التطلع إليه في حساب دعاته: "شطر يطل على الصحراء يستلهم الأطلال الدوارس ويعود إلى عصر الرصيف القديم "بين الدخول فحومل"، وشطر في حضن فرنسا يتنقل بين بودلير وفاليري وسامان وفرلين، أو بعبارة أدق اننا لا نشعر بشيء يقال له الحنين والحدب على هذه القطعة من الأرض الواقعة بين الصحراء والبحر المتوسط" أي "سوريا الطبيعية" في ترسيم سعادة لها. وهو ما لا يلبث الأسير أن يوضحه في دعوة صريحة، هي دعوة الأدب ل"إنشاء النهضة السورية عن طريق وصف البيئة السورية على ما هي عليه تصويراً صادقاً بارعاً، يكسب الأدب السوري روعة الحقيقة، وعندي أن هذا لا يتوفر إلا عن طريق القصة": وفي قول الأسير نقاش كثير، إذ أن دعوته لا تدعو إلى أدب جديد فعلاً، بل إلى تغيير أو "تحبيذ" موضوعات دون غيرها في الأدب، عدا أنه يقرن أو يدعو إلى تطابق بين الحقيقة الإيديولوجية واقعاً والأدب، فضلاً عن أنه يتوقع لهذا الأدب جنساً أدبياً يفضله عن غيره أي القصة، وهو ما لن تؤكده الوقائع الأدبية اللاحقة، بل خلافها، إد أننا لم نعرف "قاصاً" قومياً سورياً واحداً، فيما عرفت هذه الدعوة شعراء بارزين، مثل صلاح لبكي ويوسف الخال وأدونيس وغيرهم قبل افتراق الثلاثة عنها. وهي "مشادة" حامية بين الأدباء، حسب عبارة عبدالله لحود، وتتوزع، بخلاف الأسير، بين عقيدتين "لبنانيتين" في الأدب: "الواحدة تريده أدباً لبنانياً "قومياً" لا قيد يقيده بلغة من اللغات، والثانية تريده أدباً لبنانياً متحداً باللغة العربية على أنها لا تمنع التشجيع عن الأدباء اللبنانيين الذين يكتبون في لغة غيرها". وهو القول عينه الذي نتحقق منه في كتابة الياس أبو شبكة عن الشاعر "الملعون" ميشال طراد، إذ يرى فيه أنه "ينشد بلغة إقليم لبناني". حراك يستبقي عناصر من الحالة العربية - العثمانية المنقضية في الوقت الذي يتفتح فيه ويقتدي بعناصر وافدة، على ما يظهر ذلك في النشاطات التشكيلية التي تكرس لها المجلة مساحات واسعة في سنواتها الأخيرة: ففي عددين مختلفين تتحدث "المعرض" عن الخطاط "الدقيق" نسيب سعيد مكارم، وعن مآثرة الخطية، ككتابته عشرة آلاف كلمة على حبة أرز وقمح، وقصيدة لكشسبير على حبة أرز، وأخرى رسم عليها خلاصة جهود فورد منذ أنشأ الأتومبيل الأول في سنة 1903 مع جمل منسوبة إليه في الإقدام والثبات. وهذا في الأعداد نفسها التي تقودنا فيها المجلة إلى استديو عمر فروخ، أو قيصر الجميل، أو إلى معرض عمر الأنسي وغيرهم الذين يميلون في صورة صريحة إلى تصوير الوجوه الإنسانية، بل الأجساد العارية عند الثاني والثالث منهما. وإذا كانت المجلة تتوقف بإعجاب عند "آثار" مكارم، فإنها تتحدث عن معرض الأنسي بوصفه صاحب "صبغة محلية وطنية"، وهو ما تقوله المجلة عن فروخ بوصفه "أبرز مثال للنبوغ اللبناني". وهي صور ومثالات تتأكد في صورة أجلى في المعروضات اللبنانية في "المعرض الاستعماري وما وراء البحار" في باريس، في 1931، إذ تتبدى لنا مساعي الفنانين التصويريين اللبنانيين فيليب موراني، الأنسي، الجميل ميالة إلى "تثبيت" وجوه لبنانية بدوية، مسلمة... معاصرة، أو غابرة الأمير بشير الشهابي و"قواصه"، و"الفينيقي الأول".... وهو الميل نفسه الذي يدعو ميشال زكور نفسه في حفل تأبين جبران خليل جبران إلى تسمية الفقيد "من أغلى مفاخر لبنان".