"خليل جبران فنان ورؤيوي" عنوان لمعرض استعادي يعتبر الأول من نوعه، بسبب شموليته فقد جمع شمل اللوحات والرسوم والوثائق النادرة من عدد من الآفاق بما فيها متحف بشري ومتحف تالفير الأميركي. يكتسب المعرض أهميته ليس فقط من مصداقية جبران الأدبية، وإنما وبشكل خاص من المنهج الذي اعتمده المشرفون على المعرض، بحيث تتم قراءة أعماله ضمن سياقه التاريخي والمقارن بفنانين شكلوا مادة تأثره. فقد خُصص جناح للرسام الفرنسي كاريير وآخر لأودلون رودون ولوحة مائية للنحات رودان، وغابت لوحات وليام بلاك كما كان من المنتظر أن تعار لوحتان لجوستاف مورو، ولم تعد ضرورية بسبب معرضه الحالي المتزامن مع جبران، كما رفدت هذه الشهادة التشكيلية رسوم يوسف حايك التي توثّق للقاء الإثنين في باريس. وقد تحالفت جهود الشاعر عيسى مخلوف المشرف على الكتاب التوثيقي مع جهود ابراهيم العلوي الكوميسير العام في تأكيد العناية التوثيقية والمنهج المقارن في سينوغرافية المعرض. يرسم المعرض ملحمة غربة جبران فبعد ولادته في بشري عام 1883 بإثني عشر عاماً يهاجر مع والدته الى بوسطن، ولم يزر لبنان إلا مرة واحدة قبل وفاته في نيويورك عام 1931، ثم نقل رفاته الى ثرى لبنان. ابتدأت علاقته بالفن التشكيلي من اكتشافه لأدب وليام بلابك ورسومه الرمزية التي كانت تواكبها، كان بلايك مثله مثل جبران هاوياً للرسم وعصامياً لم يدرسه، بل كان يشغل به هوامش نشاطه الأدبي. وهكذا فقد أخذ جبران ينسخ رسومه الطباعية ورسوم من يشبهونه من البريطانيين، وذلك قبل أن يستعير منه الجسد الرمزي، يلقنه ما شاء له من الإيماءات ذات المعاني الرمزية، يدعونا المعرض للسياحة مع حبواته الأولى في ترصده للنموذج الطوباوي المثالي في عائلة التيارات النمطية: الرمزية، ما بعد الرفائيلية، الرومانسية والاستشراقية، وغيرها من الكلاسيكيات المتأخرة. وعندما يمم شطر باريس عام 1908 لم يتحمل صبره تدريبات "أكاديمية جوليان" المعروفة بتدريسها للنموذج الحي بالطرق التقليدية، فتحول مريداً للمصوّر بيرونو أحد تلامذة جوستاف مورو" وعندما تعرف على عوالم النحات رودان، شغلته تجاربه المنمطة الأولى التي كان ينجزها على الطلب مثلها مثل تعهدات تماثيل مقبرة بير لاشيز، عوضاً من الانتباه الى ريادة فكره الإنطباعي المتجسّد في رسومه المائية المذهلة. وإذا كانت الثورة الإنطباعية قد سبقت زيارة جبران الى باريس بأكثر من نصف قرن، فإن جبران لم يكن يملك القدرة ليس فقط على الإطلاع على تجارب الانطباعيين وإنما تجاهل وبتصريحات لا تخلو من الإدانة ما كان يحصل في بداية القرن من تحولات في الفن المعاصر وما تفرع عنها من وحشية وتكعيبية وسواهما. لقد آثر جبران "الأصولية الكلاسيكية" في اختياراته، تلك التي أربكت حركة الفن المعاصر ابتداء من معارضتها للإنطباعية. إن ثورة جبران الأدبية وعنفوان شطحه "المجنون"، ودعوته للانعتاق من قمقم الإتفاقي والأمعي والتقليدي على مستوى اللغة والفعل، يتناقض هذا الموقف بمجمله مع منهجه التشكيلي الإتباعي والذي طبع مادة المعرض بطابع الهواية أكثر من الاحتراف. وحتى لا نظلم جبران علينا أن نقارن رسمه بأمثاله من الأدباء الذين يشغلون فراغ وقتهم باللوحة ابتداء من فيكتور هوجو وانتهاء بجاك بريفير مروراً بجان كوكتو، ورغم تفوّق مستوى هؤلاء بشكل واضح على معرض جبران، فإن ما يجمعه بهم هو عدم الحاق تجربتهم بتاريخ الفن، لأن سياقه لا يقل تعقيداً عن تاريخ الأدب، وإسباغ صفة المصوّر على جبران وسواه من الأدباء لا يقل تعسفاً عن إطلاق صفة الشعر عمن مارسه من الفنانين في أوقات فراغهم ابتداء من ميكيل آبخ وانتهاء بمحمد القاسمي. ربما كان جبران من أنبل رموز المهجر الأدبي وضميره النهضوي، ولكن هذا لا يشفع لتواضع اضاءاته التشكيلية وتعثراته في أصوله وأصالة التعبير بالخط والشكل والصياغة. رسم منهج العرض بالنتيجة الحدود الفاصلة بين التوليف الشرعي والاستعارة التي لا تخلو من التماهي والتبعية، فإذا كانت مشروعية اللوحة المعاصرة تقع في قدرتها على التواصل مع المحترفات العالمية، فإن التقمص الذي نستشعره في المعرض يكشف درجة التفريط بالخصائص الثقافية، يتبدى ذلك ابتداء من صورة بطاقة الدعوة التي تمثل وجه جبران الذي شفت على ملامحه صورة وجه ليوناردو دا فينشي في لوحته المعروفة التي رسمها عن المرآة منذ منتصف القرن السادس عشر، تتناسخ أعمال هذا الفنان في أكثر من لوحة خصوصاً المادونا، وأكثر من ذلك فإن طابع اختلاط مواصفات الذكورة بالأنوثة المعروفة عن وجوه ليوناردو قد صبغت وجوه جبران مما وشحها بطابع "هيرما فرودي" مخنث، استعار جبران الآلية الضبابية ليخفي عيوب التشريح وأغلاطه في العديد من اللوحات، في حين أن هذه الضبابية التي دعيت "بالسفوماتو" كانت تعتبر ثورة تشكيلية في وقتها لأنها تقترح العالم من خلال رفيف تراكمي من الصقل اللانهائي، مما ذوّب الخط في رهافات الظلال، لقد أخرجت هذه السديمية الرسم في وقتها من القرار اليقيني الذي كان سائداً. يكفي أن تسوح العين الخبيرة في المعرض حتى تتلمس تقمصات متناقضة تجمع ما لا يقبل الجمع في طريقة هجينة: محلقاً بأقدام رودان الراسخة في الجاذبية الأرضية ضمن فراغات وليام بلايك المتحررة من هذه الجاذبية، نعثر في نفس اللوحة على سفوماتو ليوناردو الضبابي مع اللمسات اللونية الساخرة المستعارة من حساسية دومييه، أو من واقعية كوربي وهكذا، ولكن مستوى أدائه لم يصل أبداً الى خصائص هؤلاء، والسبب بسيط لا يسيء الى جبران الكلمة بقدر ما يكشف سلطة هذه الكلمة التي تعجن مادة الصباغة بالرموز، تقتصر لوحة "العطاء" مثلاً في تشكيلها على مسرحة مضمون العنوان من خلال بسط يدي الفتاة. دعونا نقارن هذا المنهج باللوحات الموجودة في معرض التظاهرة الثقافية والخاص بالذاكرة الفينيقية، لا شك بأن عطاءات عشتروت تتفوق في خصوبتها وكرمها السحري الامومي على عرائسه الإيمائية، لنتخيل غربة فن جبران عمن سبقوه من الفنانين من مثال دولاكروا وماتيس وعمن عاصروه وعلى الأخص بيكاسو الذي ارتشف المعنى السحري للثور الفينيقي المقدس وأعاد صناعته الحدسية بطريقة تشكيلية ليست أدبية. سيزداد الالتباس بين كلمة جبران وريشته عندما يعتبره النقد الوارد من سلطة الأدب بأنه المؤسس الأول للفن اللبناني المعاصر في بداية القرن. إذا ما تجاوزنا غربته عن خصائص هذا المحترف المتوسطي، وتأملنا مؤسسيه النهضويين عثرنا على الفرق النوعي في الموهبة وأصول الأداء التي تميز بها أمثال جورج قرم، وعدم تخليهم عن خصائص استقلالهم على مستوى الحساسية واختيار المقامات اللونية ذات النكهة الجغرافية المحلية، وذلك ابتداء من حبيب سرور وانتهاء بعمر أنسي مروراً بقيصر جميّل وسواه، وذلك قبل أن نبلغ أصالة المعلم صليبا الدويهي الذي طارد سلطة الكلمة في سطوعاته اللونية الموسيقية المتصلة بشموس لازورد بحر لبنان وأرزه وصقيع جبله والتي بلغت منتهاها مع تجريداته القزحية الأخيرة، ثم تتقاطر لآلىء العقد: روضة شقير والباشا وعبود وماضي وأشقر وشرف والقائمة تطول لترسم شعلة حرائق المحترف اللبناني وسعير ألوانه الخاص. لا يمكن أن نؤسس البراكين والفراديس اللونية بأشباح شاحبة كالتي تمارسها كلمات جبران في اللوحات. يبدو أن وصاية الكلمة على التشكيل أصبحت من تقاليد كبوتنا الثقافية المزمنة.