يعرض لنا جبران في مقالته "الاستقلال والطرابيش" نوعاً من الاحتجاج الشرقي، المعروف في زمانه: يعترض الشرقي على من أجبروه على خلع الطربوش التقليدي أثناء جلوسه إلى طاولة الطعام، وهو ما يعده جبران في باب الاحتجاج على النتائج، الذي لا "يحفل بالأسباب"، ويخلص من ذلك إلى قول طريقته، هو، في الاحتجاج: "ألا فاصنعوا طرابيشكم بيدكم ثم تخيروا في ما تفعلونه بطرابيشكم". هذا الاحتجاج الجبراني نلقاه في صيغ ومدونات مختلفة تُظهر لنا، منذ كتابات جبران الأولى، قيام الكتابة على أنواع من المعارضة ذات الأسباب والتجليات المختلفة. فهو احتجاج اجتماعي وسياسي، ويبلغ دوماً حدود العنف، ولكنه يصيب - وهو ما لا ينتبه إليه الكثيرون - رواد الاحتجاج أنفسهم: هو مصير "مرتا البانية" الفاجع، وهو جنون يوحنا "الكافر"، ومصير الثلاثة في "صراخ القبور"، ومصير العروس في "مضجع العروس" ومصير سلمى كرامة في "الأرواح المتمردة"، أما السيدة وردة فتضطر على الابتعاد، على نفي نفسها عن الجماعة. ولا نجد في هذه السلسلة المتمادية سوى استثناء وحيد، هو "خليل الكافر"، إذ أنه لا يستسلم ولا يكتفي بالاحتجاج، بل نراه "يسكب سرائر روحه في قلوب أولئك القرويين، محدثاً إياهم في كل يوم عن غوامض حقوقهم وواجباتهم"" وهو ما ينجح به خليل، بخلاف رواد الاحتجاج المذكورين، إذ "أصبح كل فلاح في تلك القرية يستغل بالفرح الحقل الذي زرعه بالأتعاب ...، فصارت الأرض ملكاً لمن يفلحها". وهي تجليات ثورة أو احتجاج سلبي، إذ لا يؤدي إلى قلب الأوضاع، بل يخلف وراءه إرثاً روحياً، وأمثولة للتمثل والاقتداء: "جئت لأقول كلمة، وسأقولها" ، هذا ما قاله جبران منذ العام 1914. وفي ذلك بطله مسيحي بالمعنى الرمزي والتأليفي، إذ أن بطل الاحتجاج في حساب جبران هو "الفادي" الذي ينقذ البشر الضالين، لا الذي يقودهم إلى تغيير الأوضاع. لم يرسم جبران "خطة" أو منهجاً للاحتجاج، على الرغم من أننا نلقاه يتحدث، هنا وهناك، عن مواقفه من مسائل سياسية كانت "ساخنة" في زمانه ولا تزال، طالما أن لبنان كان في عهد جبران - كما أطلق عليه - "مسألة دولية"، ولا يزال. وهو ما دعا العديد من الأحزاب والقوى إلى سحب مواقف جبران لتجنيده في هذه الدعوى الحزبية والإيديولوجية أو تلك، من النزعة القومية-السورية إلى النزعة الفينيقية، ومن الحديث عن "أمته" إلى الحديث عن جبله "الجليل".. إلا أن جبران متكلم إلى جماعة، وصاحب "كلمة" لا واضع خطة وبرامج" وهو الذي أنشأ فكرة "الملهم"، صاحب الرؤيا، "ضمير الأمة" بمعنى ما. وذلك لأول مرة، في عالم اللبنانية والعربية في آن. إذ كان الأديب أضعف من أن يتنطح إلى مثل هذا الدور، ومدونته الكتابية أوهن من أن تحمل مثل هذه التطلعات الرؤيوية. وكان جبران في ذلك المبشر الذي يلهم، والشاعر الذي يرى المجهول، والمصلح الذي ينشىء الأجيال. وهو في ذلك نموذج أول لما آلت إليه تجارب وسلوكات أخرى، سواء في السياسة أو الأدب أو المجتمع. بل هو النموذج الأول، والقاعدة التي استندت إليها دعاوى لبنانية عديدة: هو المهاجر النابغة الأكيد، وهو في الأدب مثل "بياع الكشة" المقدام في التجارة، فيما يتم التستر على إخفاقات بلد في الاحتفاظ بأبنائه بدل "تخريجهم" الدوري والمنتظم إلى بقاع الدنيا، مهما كانت نجاحاتهم وتميزاتهم. وهو النموذج الأول، بل الصورة التي أخذ منها الشعراء والمصورون لتدبيج "أدب القرية اللبنانية"، و"التغني الطبيعي" بأرض لبنان، فيما يستر الخطاب قولاً "مركنتيلياً" في تشجيع السياحة وتعمير الفنادق. وجبران كذلك هو المربي الأول للناشئة اللبنانية، ولا سيما لطالبي "التَّفَرْدُن" والتميز منهم، مثل طالبي الشعر خصوصاً في سنوات الفتوة... وهو، قبل غيره، بل معه وبعده الكثيرون، جعل الكلام يقوم على "لبناني" و"لبنانكم"، إذ جعل "لبنان" موضوع شقاق، وموضوع صياغة بقدر ما هو موضوع خلاف، على أن لبنانه يبقى ريفي الطلة والتقاسيم، لا أثر فيه لمدينة، ولما هو أجرد أو قاحل. وهو ما يدعونا إلى الالتفات إلى أننا قلما شهدنا شعوباً وآداباً أولت تعيين كيانها هذه العناية التجميلية بل الأسطورية الفائقة، فنحار في توجيه المديح بالتالي: من يستحق من؟ من هو أجدر بمن؟ هل الأرض اللبنانية فاتنة بسحرها الطبيعي، وهي "هبة من الله"، كما يقولون عنها، أم فاتنة بفعل البشر المتمادي في تضاريسها إذ جعلوا صخورها مشاتل ووديانها جنائن؟ أم أن في التجميل المتبادل للأرض والإنسان ما يعلي ويخفي في آن مصاعب التكوين التاريخي لهذا البلد؟ والاحتجاج، في حسابي، لا يعين فقط الاعتراض، خاصة وأن ما دعا إليه جبران صراحة وضمناً في كتاباته يتعدى الاحتجاج إذ يدعو إلى الثورة والتمرد والجنون والكفر والخروج على منطق الجماعة. وإنما يعني الاحتجاج كذلك - كما تقول العربية القديمة - الاعتداد بالشيء، الاستقواء به والتسلح به، دعماً لحجة ولرأي، وإحداثاً لغلبة في الجدل والمواقف. وهو ما بلغ حدود الرؤيا والرسالة في كتبه الانجليزية، التي أجمل فيها حكمه وأمثاله وقصصه المأثورة. ثوري، احتجاجي، من دون أن يبلغ في ذلك دعوة إيديولوجية، أو حزبية، مثلما فعل المتهافتون على تركته الرمزية الكبيرة في بلادنا وخارجها - وهي تعني استثماراً وتمكيناً لمواقعهم في سوق التنافس والتبادل. هو أبعد من أن يندرج في أي حزب، طالما أنه طلب شيئاً آخر، هو ما أسميه بالثورة الروحية. ذلك أن جبران بقدر ما كشف مثالب الأجنبي في بلادنا وعقولنا خصوصاً دعا إلى التفاعل مع الآداب الأجنبية، لأن "الأمم المسنة التي لا تكتسب مما تثمره الأمم الحديثة تموت أدبياً وتنقرض معنوياً". وبقدر ما دعا إلى حماية الفقراء والمعدمين لم يغفل وجود "الخوف والجبانة والجهالة" في منازلهم. ذلك أنه نظر إلى العالم، بعد الكافر والمجنون، نظرة النبي والسابق والتائه، أي نظرة القادر على الحوار مع نفسه، على الاختلاء بها، وهو ما يسميه جبران ب"حرية الانفراد". ولقد قلب جبران النظر إلى الوجود، فما عاد يراه وفق ظاهره، بل باطنه، في حيواته السابقة أو اللاحقة التقمص، ما يتيح نظراً مقلوباً يجعل السجين حراً والسجان مقيداً: هو الوجود الروحي الذي للكائنات، أياً كانت، والوجود النفسي الذي يعوض النفس عن عذابات المواجهة والخيبة من الوجود نفسه. وفي خطاب جبران توجيه أو إرشاد أخلاقي ونفسي، "نهضوي" بهذا المعنى، أي تثاقفي يشير إلى اضطلاع المثقف ب"دور تبشيري" في الجماعة، ولكن من دون أن تكون للدور فعالية أو كفالة في شروط المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كيف لا وقد تحول حديث جبران عن "الوديان الساحرة" سنداً للمطاعم، وحرية المغامرة سنداً للوساطة التجارية، ولبنانُ "المنفتح" لبناناً يتملك فيه الأجانب وقوى النفوذ، أياً كانت، من القوة والامتيازات ما يعرض استقلاله يومياً للانتقاص. لهذا أجد أن جبران أسلوب، طراز، نَفَس في الحياة، مثل حقيقة هذا البلد الذي يتمايز فيه أبناؤه عن غيرهم، حتى أنك تتعرف عليهم في مشيتهم وسكناتهم وصخبهم، ولكن من دون أن ينجحوا في بناء بلد، ولا ينجح غيرهم في بلعهم أو تدجينهم: حالة قيد النزاع والصراع، قيد التشكل المتمادي، ما يعكس دورة الحياة ويحمل إيقاع الزمن، وما يجعلها خصوصاً مشكلة عالقة، وتركة ثقيلة من جيل إلى جيل. ولكن ألا تقوم الدول على وكالة من أبنائها وجماعاتها لها، وعلى تسليمها مقاليد أمرهم، وعلى الإذعان لها بدل العصيان عليها والاختلاف الدائم على صياغتها؟ ألا نكون ننشئ أفراداً، متمايزين، خارجين على الجماعة، أفراداً منفصلين، مهاجرين، لا في هيئة مواطنين؟ ألا يكون في ذلك بطلُ جبران الانشقاقي الأصلَ الذي استعاده أمين معلوف في هيئة "طانيوس"، المهاجر والمنفصل عن قومه؟ ألا نكون ننتج عباقرة ملهمين، لا مواطنين ينضوون مع غيرهم في شراكة، في عقد طوعي؟ لعلي أخون في كلامي، في تساؤلاتي هذه، بعضاً من "كلمة" جبران، إلا أنني في ذلك أقترب أكثر من فكرة بناء الدولة - الوطن، على ما أظن، وفي ذلك ما يشفع بمحاولتي. ويبقى لي، ختاماً، أن أنهي قولي في جبران بما قاله هو في "التائه": "وعندما تركنا ... لم نشعر أن ضيفاً رحل عنا، بل واحداً منا لا يزال خارج المنزل في الحديقة، ولما يدخل". * ألقيت هذه الكلمة في إحدى الندوات التي يتضمنها الاحتفال بالكاتب اللبناني جبران خليل جبران في قريته بشري شمال لبنان.