مثلما صدقت توقعات استطلاعات الرأي الهندية حول فوز بهاراتيا جاناتا وحلفائه راجع حلقة الأمس، فانها صدقت أيضاً حول ما قالته عن تراجع حزب المؤتمر الى مستويات لم يألفها طوال تاريخه الممتد من القرن التاسع عشر، وان كانت قد تنبأت لها بوضع أفضل قليلاً من وضعها الحالي. وأحد أخطاء هذا الحزب العريق أنه لم يتوصل مبكراً الى النتيجة التي توصل اليها فاجبايي حينما اعترف باستحالة تحقيق حزب ما بمفرده مهما كانت قوته وانتشاره لنصر كاسح يؤهله لحكم البلاد بانفراد، وبالتالي ضرورة الرهان على تحالف انتخابي واسع. وبدلاً من أن يعترف "المؤتمر" بالواقع الجديد في الساحة السياسية الهندية وبروز أحزاب اقليمية كثيرة لا يمكن تجاهلها أو تهميش طموحاتها السلطوية، ظل متشبثاً بتاريخه وسجله القديم كحزب جماهيري لا يعرف مبدأ الائتلاف مع الآخرين. وحتى حينما اقتنع في وقت متأخر برؤية فاجبايي فإنه اختار أسوأ الشركاء. وهل هناك شريك أسوأ من حزب السيدة جايالاليتا الموصومة بالفساد المزكم للأنوف أو حزب راشتريا جاناتا دال بقيادة لالو براسادياداف المطلوب في عشرات القضايا المتعلقة بالفساد وسوء استغلال النفوذ بل وسرقة الأموال العامة أثناء رئاسته لحكومة ولاية بيهار، ناهيك عن تلطيخه للديموقراطية الهندية بفرض زوجته الجاهلة بأبسط مفاهيم الحكم وألف باء السياسة كخليفة له في زعامة بيهار حينما اضطر الى ترك السلطة ودخول المعتقل. وهكذا فقد حقق حزب المؤتمر في الانتخابات الأخيرة أسوأ النتائج في تاريخه بحصوله على 112 مقعداً فقط بعد أن كان له في البرلمان السابق 141 مقعداً، فإذا ما أضفنا الى حصيلته مقاعد حلفائه الخمسة صار المجموع 134 مقعداً وهو ما لا يؤهله لأي شيء، علماً بأن شركاءه أنفسهم انخفضت حصصهم من المقاعد كثيراً. فحزب السيدة جيالاليتا لم يعد له في البرلمان الجديد سوى عشرة مقاعد من أصل 18 مقعداً في البرلمان السابق، وكذا حزب راشتريا جاناتا دال الذي لم يفز زعيمه الفاسد وانحدرت حصته من 18 مقعداً الى مجرد ثمانية مقاعد. ويعتقد على نطاق واسع ان حصيلة المؤتمر كان يمكن أن تكون أسوأ بكثير لعوامل عدة سوف نتعرض لها لاحقاً، لولا الحضور الطاغي لبريانكا 27 عاماً ابنة سونيا غاندي والتي سرقت الأضواء من والدتها واستطاعت بادارتها الجيدة لحملة المؤتمر أن تحجب وتصحح الكثير من هفوات سونيا، ناهيك عن أنها استغلت صورتها القريبة من صورة جدتها انديرا غاندي في الهاب حماس الجماهير الهندية ودفعها للاقتراع لصالح حزبها. ولأن حزب المؤتمر هو حزب الاستقلال الذي منح الهنود حريتهم وأعظم ساستهم، ولأنه كان وراء معظم الانجازات التي تحققت خلال السنوات الخمسين الماضية، فإن ما آلت اليه أوضاعه يستأثر بالكثير من الاهتمام ويطرح تساؤلات ملحة حول مصيره في المستقبل خصوصاً وان نتائجه في كل انتخابات صارت أسوأ من سابقتها، مما يعني غياب استراتيجية واضحة عند رموزه القيادية لتطويره وتجديده وضخ دماء جديدة فيه تتلاءم مع متغيرات العصر ومستجدات الساحة الهندية الكثيرة، واهتمامهم فقط بمصالحهم الخاصة. ومن هنا فإن "المؤتمر" سوف يحسن عملاً لو بدأ منذ الآن بتغيير طاقمة القيادي مع التركيز على إعداد بريانكا التي تملك كل ما يفتقده الآخرون سواء لجهة الكاريزما أو النسب أو الثقافة أو لجهة المبادرة. أما المراهنة على التاريخ الماضي أو على بعض النتائج الجيدة نسبياً التي حققها على صعيد الولاياتالهندية مؤخراً، للقول بأن أموره في تحسن فلن تجدي لاخراج الحزب من وضعه المحزن أفضل نتائج المؤتمر كانت في ولاية كارناتكا الجنوبية حيث ضاعف حصيلته من المقاعد لتصل الى 18 مقعداً، اضافة الى ولايتي البنجاب وأوتاربراديش اللتين صار له فيهما ثمانية وعشرة مقاعد على التوالي بعدما كان لا يملك فيهما شيئاً. *** لكن ماذا عن قوى اليسار الهندي ومكاسبها ووضعها على الساحة السياسية؟ لقد أتاحت الانتخابات الأخيرة حصول هذه القوى المؤلفة من خمسة أحزاب مجتمعة على 42 مقعداً، منها 32 مقعداً خاصاً بالحزب الشيوعي الهندي الماركسي بزعامة رئيس حكومة ولاية البنغال الغربية السياسي المخضرم جوتي باسو 86 عاماً. وبهذا استطاع هذا الحزب أن يحافظ على هيمنته على التيار اليساري وعلى ولاية البنغال، ناهيك عن موقعه في البرلمان الجديد كان له نفس عدد المقاعد في البرلمان السابق. ورغم أنه خسر 3 مقاعد في معقله البنغالي إلا أنه تمكن من تعويضها في ولايات أخرى من تلك التي ينشط فيها الشيوعيون مثل كيرالا وتاميل نادو وتريبورا، لكن على حساب حليفه الأقرب، الحزب الشيوعي الهندي، والذي لم يتمكن هذه المرة سوى الفوز بأربعة مقاعد من أصل تسعة مقاعد كانت له في البرلمان السابق. ويمكن القول إن مجرد نجاح حزب بهاراتيا في اختراق ولاية البنغال وفوزه لأول مرة بدائرتين وبالتالي حصوله على مقعدين يمثلان الولاية، اضافة الى نجاح حزب المؤتمر في اضافة مقعدين جديدين الى مقعده الوحيد الذي فاز فيه في انتخابات العام 1998، يشير الى أن رياح التغيير في البنغال قد بدأت تهب وأن هناك من ضاق باحتكار الشيوعيين للسلطة فيه على مدى السنوات العشرين الماضية. *** ويجب ألا تفوتنا هنا الاشارة الى الأحزاب الأخرى غير المصنفة ضمن التحالفات آنفة الذكر والتي تملك مجتمعه 65 مقعداً في البرلمان الجديد. ويأتي على رأس هذه الفئة حزب سامجوادي بقيادة مولايام سينغ ياداف 26 مقعداً والذي كان الى وقت قريب أحد أعمدة ما كان يسمى بالجبهة المتحدة لقوى يسار الوسط قبل انفراط عقدها بسقوط حكومة غوجرال، يليه حزب بهوجان ساماج 14 مقعداً. وكلا الحزبان حصدا مقاعدهما من ولاية اوتاربراديش الشمالية التي تعتبر أكثر الولاياتالهندية سكاناً وبالتالي تبعث الى البرلمان المركزي بأكبر عدد من النواب 85. والفضل في نتائجها الطيبة هذه تعود أساساً الى اقتراع الناخبين المسلمين في شمال الهند لهما بكثافة كخيار أفضل وحيد ما بين بهاراتيا جاناتا المتطرف وحزب المؤتمر المنعوت بالتخاذل أمام حقوق المسلمين. على أن الناخب المسلم في الولاياتالهندية الأخرى التي لم يترشح فيها هذان الحزبان أو ما في حكمهما، اضطر الى التصويت لحزب المؤتمر كثاني أفضل خيار. وطالما فتحنا ملف مسلمي الهند وتمثيلهم البرلماني، فإن أبرز النتائج تحققت لهم في ولاية اوتاربراديش التي صار يمثلها في مجلس اللوك سابها ثمانية نواب مسلمين. ورغم ان هذه نسبة ضئيلة قياساً الى عدد مسلمي الولاية 18 في المئة من اجمالي عدد سكانها فانها أفضل على أية حال من مستوى تمثيلهم في البرلمان السابق. وفي هذا دلالة على أنه كلما انخرط الهندي المسلم بحماس أكبر في العملية السياسية والاقتراعية، ورفض الالتفاف الى نصائح بعض قياداته الدينية بضرورة مقاطعة الانتخابات، كلما تحسنت فرصه للوصول الى قبة البرلمان والمشاركة في صنع القرار والدفاع عن حقوقه. وعند تفصيل ما أسفرت عنه نتائج ولاية اوتار براديش لجهة المنابع السياسية للنواب المسلمين، نجد أن ثلاثة منهم يتبعون بهوجان ساماج الذي رشح 17 نائباً، واثنين يتبعان سامجوادي الذي رشح 35 نائباً، واثنين آخران يتبعان حزب المؤتمر الذي رشح 11 نائباً، أما الأخير فقد نجح على قائمة تضم نائبين وتابعة لحزب راشتريالوك دال الصغير، فيما فشل النائب المسلم الوحيد المترشح عن حزب بهاراتيا جاناتا في الولاية في تحقيق الفوز. *** ولا يكتمل الحديث عن الانتخابات الهندية دون التطرق سريعاً الى الأسباب الكامنة وراء ظهور نتائجها بالشكل المبين آنفاً، وتحديداً لجهة نجاح التحالف الديموقراطي القومي وفشل المؤتمر وحلفائه. لقد اتضح منذ البداية ان نجاح حكومة فاجبايي في التعامل مع أزمة كارغيل سيؤدي الى ارتفاع شعبيتها وبروز زعيمها كأفضل من يستطيع حماية الأمن القومي للبلاد في مواجهة العدو الباكستاني التقليدي. وبدلاً من أن يقف المؤتمر خلف الحكومة ويؤازرها في قضية تمس سلامة البلاد ويترفع عن خلافاته السياسية معها، راحت زعيمته سونيا غاندي تشن حملة شعواء ضدها وتتهمها بالتقصير، الأمر الذي أضر كثيراً بصورة المؤتمر. اضافة الى هذا العامل، يمكن القول إن بهاراتيا جاناتا نجح في العزف على الأصل الأجنبي لزعيمة المؤتمر وجعله مادة انتخابية دسمة الى الدرجة التي جعلت رموزاً كبيرة داخل المؤتمر نفسه من أمثال شاراد باوار ترفع اليافطة ذاتها في وجه السيدة غاندي. اضافة الى ذلك نجح بهاراتيا جاناتا في إثارة جملة من الأمور المتعلقة بغريمها مثل علاقتها بصفقة الأسلحة السويدية المعروفة باسم بوفور، واحتفاظها لسنوات طويلة بجنسيتها الأجنبية دون التقدم بطلب الحصول على الهوية الهندية، وقلة خبرتها السياسية للتصدي لمشاكل بلد قاري السمات كالهند. وأخيراً فإن السؤال الذي لا بد من طرحه هو عن الأثر الذي ستتركه نتائج الانتخابات الأخيرة على توجهات الهند الخارجية والاقتصادية في القادم من الأيام. والجواب ان هذا الأثر سيظل محدوداً على ضوء تشابه معظم القوى السياسية الرئيسية في اجندتها الخاصة بالاصلاح الاقتصادي وتعزيز قدرات البلاد العسكرية والأمنية وعلاقاتها بالدول المحيطة. كما وأن وجود شخصية حكيمة على رأس البلاد مثل فاجبايي يعتبر ضمانة للجم توجهات رفاقه الأكثر تطرفاً حول تفعيل برنامج اقامة دولة احادية الثقافة هندوتفا. * كاتب وباحث خليجي في الشؤون الآسيوية