يأخذ السيناريو شكل العمود الفقري في الأفلام السينمائية والتلفزيونية عموماً، وهو يعتمد على القصة أولاً، وقد اكتشف الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز متعة توليد القصص من أفكار غير مكتملة، تُطرح في جلسات ورشة عمل من مجموعة من الهواة والمحترفين في كتابة السيناريو، وكان اهتمام ماركيز بالسينما قد أخذ شكلاً واضحاً منذ أن درس السينما في إيطاليا في الخمسينات، لمدة عام، وانصبّ اهتمامه على طاولة المونتاج - بعيداً من المحاضرات المكرورة - لأن هذه الطاولة هي الأقرب الى عملية التفكيك والتركيب في العمل القصصي، قبل أن يأخذ شكله كسيناريو جاهز للتصوير، سينمائياً او تلفزيونياً. قام ماركيز بإدارة ورشات لكتابة السيناريو في المكسيك وكوبا، وصدرت وقائع أعمال ورشتين في كتابين، الأول بعنوان "كيف تحكى حكاية" والثاني بعنوان "نزوة القص المباركة". وصدر الكتاب الأول في العام الماضي، بينما صدر الكتاب الثاني حديثاً - وكلاهما بترجمة صالح علماني - في سلسلة الفن السابع، عن المؤسسة العامة للسينما بدمشق. آلية عمل الورشة وفي كتاب "نزوة القص المباركة" طرحت مشروعات سيناريوهات مختلفة من المشاركين العشرة الذين ينتمون إلى كل من كولومبيا وبنما والأرجنتين والبرازيلوالمكسيك وكوبا وإسبانيا، وكالعادة كان أكثرهم من النساء، وكان ماركيز حريصاً على وضع بعض الملاحظات حول آلية عمل الورشة، وأكد على ضرورة استعداد المشاركين لتوجيه الإنتقادات الجريئة وتلقي "الصفعات" الكلامية بروح طيبة، كما أكد على أهمية نسيان الموضوعات المطروحة بعد الخروج من الجلسات المحددة. يفتتح ماركيز أعمال الورشة بأفكار واعترافات، حيث يؤكد أن علاقته بقيادة ورشات كتابة السيناريو تحولت الى حال إدمان، وإذا كان الشيء الوحيد الذي يتقنه هو رواية القصص، فإنه لم يكن يتصور أن المشاركة الجماعية في روايتها ستكون اكثر امتاعاً: "وأعترف لكم بأن سلالة الحكواتية - اولئك الشيوخ الموقرون الذين يرتلون حكايات ومغامرات مشكوك بها من "ألف ليلة وليلة" في الأسواق المغربية - هي السلالة الوحيدة غير المحكومة بمئة عام من العزلة، ولا بلعنة بابل..". ويتصف عمل الورشة، كما يرى ماركيز، بمتابعة عملية الإبداع، خطوة خطوة، مع قفزات مفاجئة، والدخول في التفاصيل، مع محاولة الإمساك باللحظة الدقيقة التي تنبثق، أو تولد، فيها الفكرة، في ما يشبه حالة الصياد الذي يرصد من منظار بندقيته اللحظة الدقيقة التي يقفز فيها الأرنب، فالقصة تولد في اللحظة المناسبة، أو المفاجئة، ولا تُصنع، وولادتها تشبه كسر قشرة البيضة لخروج الفرخ الصغير إلى مسرح الحياة. بين الموهبة والخبرة وفي مجال كتابة القصص التي تتحول الى سيناريوهات للسينما او التلفزيون ثمة كيفية لتركيب القصص وتوليدها، فالموهبة لا تكفي وحدها، فالذين يملكون الإستعداد الفطري للقص يحتاجون الى الثقافة والتقنية والخبرة، والناس عادة ينقسمون بين من يعرفون كيف يروون القصص ومن لا يعرفون ذلك، وقد يكون للوراثة والظروف المنزلية في طفولة كل شخص دور في تكوين موهبة القص، ويشير ماركيز الى تجربته الشخصية، فيقول ان نصف تكوينه الأدبي اخذه عن أمه التي لم تسمع شيئاً عن الخطاب الأدبي، ولا تقنيات السرد، ولكنها تعرف كيف تسدد ضربة مؤثرة في حكاياتها، فالقصص تشبه ألعاب الأطفال، وتركيبها يشبه تركيب هذه اللعبة او تلك، والطفل الذي يجد نفسه امام مجموعة من الألعاب المختلفة يبادر الى محاولة اللعب بها كلها، اولاً، ولكنه سيختار لعبته المفضلة في النهاية. لعبة الحاوي ان التعامل اليومي مع القصص غواية، او نزوة مباركة، تتلبس صاحبها في كل ساعات يومه، حينما يكون وحيداً، او حينما يتحدث مع الآخرين، ولكن هل يمكن نقل هذه النزوة الى الآخرين، من خلال تبادل التجارب؟ ان الروائيين في قراءتهم للروايات يعمدون الى تفكيك كل رواية لمعرفة تركيبها، والقارئ العادي لا يستطيع ان يتعلم هذه العملية في صفوف الدراسة الجامعية، وإنما من خلال العمل في ورشة مفتوحة، يكتشف فيها لعبة الحاوي، ولعبة اختلاق القصص وصياغة قواعد اللعبة. ويرى ماركيز ان كتابة القصص، او روايتها قد جعلت منه رجلاً حراً، حيث انه ليس مرتبطاً بأي شيء آخر، وليس ملتزماً بشيء حيال الآخرين، وتظل نزوة القص تعيش معه حتى حينما يتحدث عن امور اخرى، او يجيب عن اسئلة حول مشكلة طبقة الأوزون، او مسارات السياسة في اميركا اللاتينية. حرية التخيّل إن كاتب القصة التي تتحول إلى سيناريو يقوم بعمل إبداعي، ولكنه محكوم في الوقت نفسه بما سيفعله آكل اللحم البشري - المخرج الذي يستحوذ على القصة، ويفرض عليها وجهة النظر النهائية، ليقدمها في عمل سينمائي أو تلفزيوني، يحمل بصماته الخاصة، ويحدد الإطار الذي ستصل فيه هذه القصة إلى المشاهد، وليس القارئ، فالمشاهد ليس لديه خيارات في استقبال الصورة التي تعرضها عليه الشاشة، أما القارئ فإنه يتمتع بحرية تخيل الوجوه والأمكنة والإضاءة والألوان، ولهذا السبب لم يسمح ماركيز نفسه بنقل روايته الشهيرة "مائة عام من العزلة" إلى السينما، لكي لا يحرم القارئ من تخيلاته الخاصة لأجواء هذه الرواية وأحداثها وشخصياتها. الإثارة في الواقع يتذكر ماركيز حادثتين واقعيتين مثيرتين، الأولى هي حادثة تحطم طائرة في خليج غوانا نارا في البرازيل، حينما زار الرئيس الأميركي أيزنهاور مدينة ريو، وكانت الطائرة المنكوبة تحمل الفرقة الموسيقيةالتي رافقت الرئيس، وقد غرقت بكل ركابها، ولكن الآلات الموسيقية طفت على سطح الماء، وانتشرت في الخليج، وكان هذا المشهد النادر مثيراً، ويمكن أن يكون أرضية لقصة سينمائية. أما الحادثة الثانية، فهي محاولة اغتيال الجنرال ديغول، وقد تحولت إلى رواية كتبها فريدريك فورسيت بعنوان "يوم ابن آوى" وتحولت الرواية إلى فيلم سينمائي مثير، وتتمركز الإثارة في الترتيبات الدقيقة التي أنجزها شخص بمفرده لاغتيال الجنرال عندما يلقي خطابه، وحينما جاءت اللحظة المناسبة كان كل شيء جاهزاً بتفاصيله الدقيقة، ولكن الجنرال أحنى برأسه بشكل غير متوقع في اللحظة التي انطلقت فيها الرصاصة، ولم تكتمل الجريمة، ومات الجنرال ديغول بعد سنوات وهو في سريره، يشاهد أخبار التلفزيون، وهذه هي المفارقة التي تحمل الإثارة. الحقيقة التي لا تُصدّق طرحت في لقاءات الورشة أفكار ومشروعات متعددة ومختلفة، يمرّ بعضها في شكل عابر، يثير بعض التداعيات والأسئلة، قبل أن يختفي، لتظهر أفكار ومشروعات ساخنة تستقطب اهتمام المشاركين، كما هو الحال في فكرة "القصة الحقيقية التي لا تُصدّق لرجل مقيت" التي طرحتها "اليزابيت" وتقول: إن الشرطة قامت بتفتيش بيت جوزيه كارلوس ألفيس، في مدينة برازيليا، عام 1993، ووجدت تحت فراش سريره ثمانمئة ألف دولار، كان بينها ثلاثون ألف دولار مزيّف، وكان جوزيه اقتصادياً مشهوراً، وموظفاً كبيراً يتحكم بميزانية البلاد، وهو أستاذ جامعي أيضاً، وفي فترة الديكتاتورية العسكرية في البرازيل لم يكن أحد يستطيع أن يعطي رأياً أو يتساءل حول الميزانية العامة، ومع ذلك كانت هناك لجنة للميزانيات برئاسة جوزيه نفسه، صار النواب في ما بعد يطالبونها بتنشيط الإصلاحات في ولاياتهم، وبسبب أهمية نفوذ جوزيه وافقت الحكومة على تعيينه مستشاراً للبرلمان بعد أن أجبرته على تأجيل تقاعده، ومدّدت له الخدمة. كان السبب الأول وراء تفتيش الشرطة للمنزل هو اختفاء زوجة جوزيه، وتأخره في الإبلاغ عن الحادث، ولكن هذا الحادث يصبح ثانوياً، أمام الفضائح التي كشفتها التحقيقات، حيث تورط أربعون نائباً وثلاثة حكّام ولايات وأربعة وزراء سابقين ووزيران في الحكومة الجديدة، ومن بين النواب سبعة من أعضاء لجنة الميزانية التي يديرها جوزيه كارلوس ألفيس. ومن المصادفات الغريبة أن هؤلاء السبعة كانوا من قصار القامة، وقد أطلق عليهم الناس بعد فضيحة الفساد إسم "الأقزام السبعة" وبينهم جواو ألفيس الذي كان يرسل حقائب الدولارات إلى جوزيه كارلوس، وكان قد حرّك في حساباته المصرفية مبلغ ثلاثين مليار دولار، بينما كان جوزيه يشتري كميات كبيرة من أوراق اليانصيب ليغسل بأرباحها أمواله التي لا تحصى. المسلسلات الثعبانية إن صناعة المسلسلات التلفزيونية والإذاعية الطويلة في أميركا اللاتينية تخفي وراءها أسراراً مثيرة، وكانت هذه المسلسلات المشحونة بالعواطف موضوعاً للمناقشة في إحدى الجلسات، وقد أعطاها ماركيز إسم المسلسلات الثعبانية. تقول غابرييلا، التي تعمل في مطابخ المسلسلات المكسيكية، انها وزملاءها اضطروا الى اضافة مئة حلقة الى مسلسل "ماريا ببساطة" بعد بداية بثّه، لإرضاء المشاهدين، بعد أن تعاظم إعجابهم بالمسلسل قبل أن ينتهي بثّه. ويذكر ماركيز ان مسلسل "الحق بالولادة" لفيكس كايغنت كان يضم شخصية تدعى "دون رافائيل"، وقد طلب الممثل الذي يؤدي دور هذه الشخصية في المسلسل بزيادة أجره، بعد أن وصلته أصداء الإعجاب بالحلقات الأولى، فقام كايغنت الذي لا يخضع للضغوط بجعل هذه الشخصية تصاب بانحباس الصوت، وحيث أن هذه الشخصية تحمل سراً كبيراً وخطيراً فقد ارتفعت اصوات الجمهور تتساءل: متى سيتكلم دون رافائيل؟ ولكن هذا الصمت استمر حتى اتفق كايغنت مع الممثل على مقدار الأجر، وكان كايغنت يقول: "انني انطلق من قاعدة تقول: ان الناس يريدون البكاء، وأنا أعطيهم الذريعة لذلك". وتساءل احد المشاركين في المناقشة عن كمية الأمتار المكعّبة من الدموع التي أريقت في بوغوتا مع بث مسلسل "الحق بالولادة"، وقال ماركيز: انه لا يتجرأ على حساب الكمية التي أريقت في أميركا اللاتينية كلها، في فترات بث المسلسلات، أو عرض الأفلام. اللحظة المناسبة طرح "غوتو" مشروع قصة سيناريو، عن حادثة واقعية حصلت له، فقد سافر منذ سنوات مع أسرته للإصطياف في أحد المنتجعات البرازيلية، وهناك تعرفت العائلة على زوجين لطيفين جداً، ونشأت بين العائلتين بداية صداقة، وبعد فترة سافر غوتو الى بوينس إيرس لدراسة السينما، ثم لحق به والداه في زيارة له، وكان يسكن في فندق، وقرر والدا غوتو الإتصال بالزوجين اللذين تعرفا عليهما في المنتجع، فجاء الزوج بيتر بمفرده، وقال انه قد انفصل عن زوجته، وأنه يعيش وحيداً في شقة من غرفتين، واقترح ان ينتقل غوتو من الفندق ليعيش معه، ولكنه يحتاج الى شراء "صوفا" لينام عليها في الصالة، وهذا ما حدث، ولكن بيتر طلب من غوتو ان يغيب عن المنزل في الفترة من الظهيرة حتى الساعة العاشرة ليلاً، بحجة ان هناك طبيبة نفسية تستخدم الشقة كعيادة في هذه الفترة، فوافق غوتو، وصار يعود الى المنزل في الحادية عشرة ليلاً، وفي إحدى المرات عاد غوتو الى المنزل في الموعد المألوف، وحينما فتح الباب رأى مشهداً غريباً لا يخطر له على بال، وكان ذلك كافياً لكي يترك البيت ويسكن في مكان آخر. نظرية داروين مقلوبة تبدو نظرية داروين حول تطور القرد الى انسان مقلوبة في مشروع قصة "حول لاتطور الأنواع" الذي طرحته البرازيلية اليزابيت، فقد رأت - في الواقع او في الحلم - في حديقة حيوان قفصاً ضخماً، في داخله غوريلا، كانت تلك الحديقة جزءاً من مدينة ألعاب في نيويورك، وكان الغوريلا يجلس على حجر، متخذاً هيئة الإنسان المفكر، وحينما يمر بجانبه السائحون يقفز ليمسك بقضبان القفص ويبدأ بالصراخ، وكان في صراخه يردد كلمات محددة، هي اسماء مدن برازيلية، وهذا ما أثار دهشة اليزابيت وحزنها وخجلها معاً، حيث خطر لها ان هذا الغوريلا كان مواطناً برازيلياً ولكن ما هي المراحل التي مرّ بها قبل ان يتحول الى غوريلا في نيويورك؟! أوديب في كولومبيا اقتصرت احدى جلسات الورشة على مناقشة سيناريو فيلم "اوديب عمدة" الذي كتبه ماركيز، وأخرجه خورخي علي الذي حضر الجلسة، وساهم في المناقشة، وفي هذا الفيلم حاول ماركيز إسقاط مسرحية "أوديب ملكاً" لسوفوكليس على كولومبيا، أو العالم. وذكر ماركيز انه قرأ هذه المسرحية وهو في الثانية والعشرين من عمره، حينما بدأ حياته كصحافي وكاتب قصص، أي قبل نصف قرن، وقال: ان هذه المسرحية كانت اول هزة ثقافية كبيرة في حياتي، كنت اعرف بأنني سأصير كاتباً، وعندما قرأت ذلك الكتاب قلت لنفسي: هذا هو النمط من الأشياء التي أريد كتابتها. ويمكن أن نتذكر ان هناك اكثر من خمسة وعشرين اقتباساً معروفاً عن هذه المسرحية، وكان بازوليني ابرز المخرجين السينمائيين الذين قدموا "أوديب" في اسقاط عصري، ولكن ما جدوى تقديم عمل أدبي كلاسيكي في ثياب عصرية وإلى أي مدى يمكن للمؤلفين والمخرجين أن يضيفوا ويحذفوا، في الأسماء والأحداث والعلاقات المعروفة بين الشخصيات؟ هذا ما يحاول ان يجيب عنه المخرج السينمائي خورخي علي الذي يبدو منسجماً مع ماركيز، حيث يقول: "كم من المرات يذهب احدنا لمشاهدة "هاملت"، على رغم انه يعرف ما سيحدث؟ قد يذهب احدنا لمشاهدة "عطيل" وهو يعرف ان عطيل سيقوم في المشهد الأخير بخنق ديدمونة، ولكن ما أهمية ذلك؟ فما يريد أحد مشاهدته هو كيف يحدث ذلك، وبأي أسلوب، وبأي طريقة يتصرف الممثلون، وما هي العناصر الإخراجية الجديدة التي تدخل اللعبة..؟!". إن الوباء الذي يعم البلاد في مسرحية سوفوكليس يتحول الى المجازر التي تحدث في كولومبيا في سيناريو ماركيز الذي لا يرى أملاً قريباً في الخلاص، بينما يحتفظ خورخي علي في ذاكرته بأرشيف من الصور التي بثتها وكالات الأنباء عن كولومبيا" إنه أرشيف مليء بالجثث، بأجساد مهجورة في الممرات، في مدرجات القرى بعد هجمات حرب العصابات.