هل هو التأزم الموسمي، أم انه الهبوط الى أدنى درجات التدهور؟ وما الذي جعل هذا الهبوط يتخذ وتيرته المتسارعة هذه؟ سؤالان يشغلان حالياً بال العدد الأكبر من السينمائيين العرب الذين ينتمون الى ذلك النوع "النادر" الذي يريد من فن السينما ان يقول شىئاً. قبل شهور من الآن، كان الأفق يرسم لهذا النوع من السينما آفاقاً رحبة. من مصر كانت تأتي مشجعته تلك الاخبار التي تتحدث عن "نهضة" في الانتاج، و"ثورة" في انشاء دور العرض. ومن لبنان كانت صحف العالم تتناقل أنباء مثيرة عن بلد يفتتح فيه المزيد من صالات السينما في وقت تقفل فيه الصالات حتى في أعرق البلدان سينمائية. ومن سورية أتى فيلمان معاً لفتا الأنظار، وبشرا ببداية جديدة للسينما السورية التي لم تكف يوماً عن "خوض بداياتها الجديدة" وسمعة السينما التونسية، نوعياً إن لم يكن كمياً، كانت لا تزال طيبة. في ذلك الحين وصل الأمر بمسؤول كبير من محطة فضائية عربية، لأن يعلن، في لحظة حماس، يخيل الينا الآن، انه لم يكن لها غد، بأن محطته سوف تساعد، مادياً، كل سينمائي عربي يقيض لفيلمه ان يعرض في مهرجان دولي. منذ ذلك الحين لم يتناه الى اسماعنا ان سينمائياً استفاد من ذلك "الكرم" المفاجئ والحماسي، على رغم انتشار سينمائيينا العرب في المهرجانات الدولية كافة. ... اليوم، يبدو هذا كله وكأنه صار أضغاث أحلام، أو من نوع "كلام الليل الذي يمحوه النهار" حسب ما تقول اغنية لشهرزاد، أو عنوان فيلم لايناس الدغيدي! والأدهى من هذا، ان الافلام الأكثر نجاحاً ولفتا للأنظار، الأفلام التي سبق ان اشرنا مرة الى انها "الشيء الوحيد الذي بات قادراً على ان يجعل لثقافتنا العربية بشكل عام، سمعة طيبة في الخارج"، هذه الأفلام لا تلقى أي رواج في صالات العرض العربية، ولا تقوى على منافسة "موجة الأفلام الشبابية" التي تسود عالمنا العربي اليوم على غرار "الاغنية الشبابية" وربما في مستويات أدنى منها، واكثر خطورة على الذهنيات والأذواق العامة. وهذا الواقع هو - على الأرجح - ما يجعل أهل المهنة يقلقون على "المصير المحلي لأي فيلم يحقق نجاحاً في الخارج، وتحديداً في المهرجانات". وهذا القلق سمعناه هذا الاسبوع، او سمعنا من يعبر عنه بشكل جدي، حين أتت أخبار مهرجان لوكارنو السويسري لتقول ان فيلم "المدينة" آخر أفلام يسري نصرالله، فاز بجائزة كبرى قدمتها له لجنة تحكيم المهرجان. بعض السينمائيين، فور سماعه هذا النبأ، وقبل ان يبادر الى إعلان فرحه، خبط يداً بيد وقال: "أعانه الله... معنى هذا ان أصحاب الصالات لن يعرضوه، لأن الجمهور سوف يعرض عنه". مرة أخرى نقول، ان هذا يحدث، وتتسع الهوة كثيراً بين الأذواق الجماهيرية والرغبات الفنية والابداعية التي يعبر عنها اصحابها على شكل أفلام ستعيش طويلاً، ولكن بعد ألف موت، وموته يصيب صانعيها ويحبطهم. هل نقول هذا الكلام بأمل ان يساعد على الوصول الى حل؟ أبداً... لأننا نعرف ان الكلام، في مثل هذه الحالات لا يجدي. نقوله فقط على سبيل التحية "المواربة" الى سينمائيين شجعان لا يزالون يصرون بين الحين والآخر على ان في إمكان السينما العربية الجميلة، سينما المؤلف، ان توجد، لا يزالون يصرون على ان سينما الاحلام لم تمت... وربما لن تموت أبداً حتى ولو ماتوا هم. في الأمس كان يوسف شاهين وخوضه عالمية السينما، ومن بعده كان "عرق البلح" لرضوان الكاشف وجوائزه التي لا تنتهي، ثم النجاح "النقدي" الساحق الذي حققه "بيروت الغربية" للبناني زياد دويري. واليوم، ها هو فيلم يسري نصرالله الجديد يبرز جيلاً معافى. وفي باريس يعرض "عرق البلح" كجزء من تراث السينما العالمية، فيما تشارك أفلام عربية عديدة في مهرجان "البندقية" ولو في تظاهرات موازية، وتفعل الشيء نفسه في فالنسيا وغيره. أما الوعود الرسمية والتعهدات غير الرسمية. وأما "الكرم الحاتمي" الذي يتبدى في نهاية الأمر كرماً لفظياً و"خبطة" اعلامية صغيرة لا أكثر... أما كل هذا، فليس أكثر من كلام ليل، والمعذرة من عنوان فيلم ايناس الدغيدي الذي نتمنى له ان يكون على حجم طموحات صانعيه، وألا يلقى المصير الجماهيري للافلام الجميلة التي سبقته.