الديموغرافيا، التي تتناول تركيبة السكان والتغيرات التي تطرأ عليها، ليست علماً دقيقاً، ويمكن لخبراء الديموغرافيا ان يعطوا تقديرات لاحتمالات المستقبل ولكن لا يمكن لهم التنبؤ دائماً بدقة. ومع ذلك، يتوقف أي فهم للنزاع الفلسطيني - الاسرائيلي، ضمن اشياء اخرى، على تقديرٍ صائب لديموغرافيا المشكلة. فكلا طرفي النزاع يدرك هذه الحقيقة. وهناك ايضاً الكثير من التلاعب في المعلومات الديموغرافية لأغراض دعاوية. عبّرت مصادر اسرائيلية اخيراً، على سبيل المثال، عن قلقها العميق في شأن الاحصاءات الرسمية لعام 1998 التي تظهر انه للمرة الاولى منذ 1967"انخفضت نسبة اليهود في القدس الى أقل من 70 في المئة" وان اسرائيل تفقد النسبة الديموغرافية الأمثل بان يكون هناك ثلاثة يهود مقابل كل عربي في المدينة. وعلّق رئىس بلدية القدس إيهود اولمرت قائلاً انه "لا يرغب في ان تتنامى أبعاد النزاع السياسي بسبب تزايد السكان العرب في المدينة". وردّ ميرون بنفنيستي، وهو نائب رئيس بلدية سابق وخبير له كتابات واسعة حول الموضوع، بأن التغيير الفعلي الوحيد هو انه جرى في الاحصاء الرسمي الاخير للسكان تغيير تصنيف الزوجات والازواج غير اليهود للمهاجرين اليهود من الاتحاد السوفياتي السابق. فبدلاً من "اليهود وغير اليهود" حلّ "اليهود والعرب وآخرون"، فأدت فئة "آخرون" الجديدة الى خفض نسبة السكان اليهود من الناحية الاحصائية. وبأي حال اشار بنفنيستي الى انه حسب "مكتب الاحصاء المركزي الفلسطيني" فان عدد العرب في القدس في 1998 بلغ 217 ألف شخص، مقابل 196 ألفاً في الاحصاءات الاسرائيلية - أي يهوديان وليس ثلاثة يهود مقابل كل عربي تقول اسرائيل ان عدد السكان اليهود في القدس هو 433 ألفاً و600 شخص. ولا يعرف بنفنيستي أي رقم هو الصحيح بالنسبة للفلسطينيين، لكنه يعتبر ان الشجار الاحصائي لا معنى له لأن الحدود البلدية للقدس رُسمت من قبل الاسرائيليين في 1967 بشكل اعتباطي "لاغراض التلاعب الديموغرافي"، وهو ما يستمر منذ ذلك الحين. ويقتضي التعامل مع المسألة بشكل جدي ان تؤخذ في الاعتبار ثلاث مجموعات على الاقل من الاحصاءات. اولاً، يبلغ عدد سكان اسرائيل الآن ستة ملايين نسمة، يؤلف اليهود 80 في المئة منهم والعرب 20 في المئة. وتضاعف العدد سبع مرات منذ 1948، وشكلت الهجرة مصدر اكثر من 40 في المئة من هذه الزيادة 7،2 مليون. واكبر مجموعة من المهاجرين جاءت من الاتحاد السوفياتي السابق، ويبلغ عددها حوالى مليون شخص، يليهم المهاجرون من بولندا والمغرب. ويبلغ متوسط النمو السكاني سنوياً 5،2 في المئة 9،1 في المئة لليهود، وهو أعلى من نظيره في البلدان الغربية لكنه اوطأ بكثير مما هو عليه لدى جيران اسرائيل. وولد اكثر من 60 في المئة من الاسرائيليين اليهود في البلاد. يشار الى انه حسب ارقام الاممالمتحدة فإن عدد سكان البلدان العربية المجاورة، الذي كان 28 مليون نسمة في 1950، يبلغ الآن 87 مليون نسمة. ثانياً، يبلغ عدد سكان الضفة الغربية وقطاع غزة حالياً اكثر بقليل من ثلاثة ملايين نسمة. ويتوقع "مكتب الاحصاء المركزي الفلسطيني" ان يبلغ عددهم 4،7 مليون نسمة بحلول العام 2025 - حوالى 5،4 مليون في الضفة الغربية و 3 ملايين في قطاع غزة. ومن ضمن مصادر هذه الزيادة النصف مليون فلسطيني الذين سيعودون، حسب الاحصاء السكاني الفلسطيني، الى ديارهم خلال العشرين السنة المقبلة. لكن السبب الاساسي هو معدل زيادة سنوية تراوح من 5،3 في المئة الى 5،4 في المئة. ويراوح متوسط عدد الاطفال في العائلة من ستة الى سبعة. ولا يتوقع مدير مكتب الاحصاء الفلسطيني حسن ابو لبده، الذي يقر بأن هذا الوضع يمثل "قنبلة موقوتة ديموغرافية"، أي سياسة تُعاقب بموجبها العائلات الكبيرة بأي شكل. ثالثاً، يقدّر بنفنيستي انه في العام 2020، في داخل ما كان "فلسطين تحت الانتداب" في السابق، سيكون حوالى 55 في المئة من السكان موجودين في دولة اسرائيل و45 في المئة في دولة فلسطين. لكن اخذاً في الاعتبار الفلسطينيين الاسرائيليين عرب اسرائيل الذين يبلغ عددهم 6،1 مليون نسمة، سيكون هناك 2،8 مليون عربي و 6،6 مليون يهودي. وهناك سلسلة اخرى من الاحصاءات التي سيكون أي تحليل ناقصاً من دونها. وربما كان اهمها له صلة بمشكلة اللاجئين الفلسطينيين. ففي الوقت الذي رحل او شُرّد من ديارهم بين 700 الف و 750 الف فلسطيني في 1948، يبدو انه ليس هناك أي اجماع على العدد المضبوط للاجئين الفلسطينيين في الوقت الحاضر. ووفقاً لتعريف وكالة الاغاثة والتشغيل التابعة للامم المتحدة اونروا، فان عددهم كان يبلغ ثلاثة ملايين ونصف مليون لاجىء في 1948. وتعريف اللاجىء هو "شخص كانت فلسطين مقر اقامته الطبيعي لمدة لا تقل عن سنتين قبل النزاع عام 1948، وفقد نتيجة للنزاع داره وسبل عيشه على السواء ولجأ الى احد البلدان حيث تقدم "اونروا" مساعدات اغاثية له الاردن، لبنان، سورية، الضفة الغربية، غزة، والاشخاص المتحدرين منه بشكل مباشر". ويتحدث الباحث الفلسطيني سلمان ابو ستة، في وثائق "مركز موارد البديل لحقوق الاقامة واللجوء"، عن خمسة ملايين لاجىء. سبق ان أشرنا الى ان خبراء الديموغرافيا قد يخطئون عندما تؤثر تطورات مفاجئة على تقديراتهم المستقبلية، لكن لا ينبغي لهذا الأمر ان يقود احداً الى التقليل من شأنهم. واذا كان للمرء ان يتساءل في الختام كيف ستفسّر اطراف النزاع المعطيات التي يقدمها خبراء الديموغرافيا، فالارجح ان الجواب سيكون انه لا يُتوقع ان يسمح الناس للتوقعات المستقبلية ان تقرر الايديولوجيا او السياسة. فبالنسبة الى الفلسطينيين يمثل "حق العودة"، على سبيل المثال، احدى العقائد الرئيسية في ايديولوجيتهم، بينما هو بالنسبة الى الاسرائيليين اشبه بكلمة مشفرة مرادفة لتدمير اسرائيل. وعندما تحدث الرئيس بيل كلينتون عن رغبته في ان "يكون الفلسطينيون احراراً في ان يعيشوا في أي مكان حيثما يشاؤون"، كان رد الفعل الاسرائيلي غاضباً. ويعتقد بنفنيستي انه بالنسبة الى اسرائيل فإن "كابوس العودة" لا يكمن في عالم الديموغرافيا بل في عالم السيكولوجيا. فينبغي للاسرائيليين والفلسطينيين ان "يفكروا معاً في الطريقة التي سيتمكن بها حوالى 15 مليون شخص من العيش سوية في وطنهم المشترك"! * كاتب يعيش في القدس، رئيس تحرير مشارك لمجلة "فلسطين - اسرائيل".