تقع مملكة نباره Navarra في أقصى شمال اسبانيا، وتمتد اراضيها الى جانبي جبال ألبرت البرانيز الفرنسي والاسباني، وتشمل اعالي وادي نهر إبره، وتُعرف اليوم ببلاد الباسك. وقد اشتهر البشكُنس او البشاكنة او البشاكسة - كما يعرفون في المصادر العربية الأندلسية - عبر التاريخ بنزعتهم الاستقلالية، وبالكفاح للحفاظ على هويتهم واستقلالهم. فقد كان لذُرَيق - ملك القوط - يقود حملة لاخضاعهم سنة 711م لما علم بنزول طارق بن زياد في جنوب الأندلس، فأسرع جنوباً لمحاربة المسلمين، ولذلك فان البشكُنس رحّبوا بقدوم الفاتحين العرب، وسلّموا لهم حاضرتهم بنبلونة صلحاً. كما تحالف البشكُنس مع العرب في صدّ غزوة ملك الفرنجة شارلمان 778م لبلادهم ولمنطقة الثغر الأعلى. وطوال القرن التاسع الميلادي، كانت نبارة تحت حكم بني قسيّ المولّدين، الذين حظوا بشيء من الاستقلال الذاتي عن الامارة الأموية بقرطبة. ويقول مؤرخ معاصر للباسك انه "كان لاتصال نباره بالحضارة العربية والإسلام اثرٌ عميقٌ في القرن التاسع الميلادي، كما يُستدلّ من ظهور اسرة بني قسيّ المولّدة الحاكمة في تُطيلة Tudela وغيرها من المعاقل في المنطقة"1. وفي عهد الخلافة الأموية بقرطبة، تحالفت طوطه Theuda، ملكة البشكُنس مع الخليفة الأموي بقرطبة عبدالرحمن الثالث الناصر لدين الله، واستعانت به للحفاظ على حقوق حفيدها غرسية في المُلك. وكانت صُبح Aurora زوجة الخليفة الحكم الثاني المستنصر، من البشكُنس، وهي والدة الخليفة هشام الثاني المؤيّد بالله. كما ان الحاجب الأندلسي الشهير محمد بن أبي عامر المنصور كان متزوجاً من عبده ابنة شانجه ملك نباره، وأنجب منها عبدالرحمن بن أبي عامر "الملقّب بشنجول Sanchuelo، اسم غلب عليه من قِبل أمه عبده بنت شنجه الملك، تذكراً منها لاسم أبيها، كانت تدعوه في صغره بشنجول"2. المُدجّنون ان المسلمين الذين بقوا في الأراضي التي استولى عليها النصارى في الأندلس تباعاً منذ مطلع القرن الثاني عشر للميلاد يعرفون بالمدجّنين Mudejars أو أهل الدَجْن، وكان عليهم أداء ضريبة او جزية للحكام النصارى. وكانت اعدادهم كبيرة: ففي القرن الرابع عشر للميلاد، كان المدجّنون يشكلون نحو نصف سكان مملكة أرغون Aragon، وأكثرية السكان في اقليم بلنسية بشرق الأندلس. وقد حرص ملوك النصارى - في بادئ الأمر على الأقل - على بقاء المسلمين في أراضيهم للافادة من خبراتهم ومعارفهم في الفلاحة والحِرَف وأعمال التشييد والزخرفة، وهي خبرات كان النصارى الاسبان يفتقرون اليها. وقد ذاع بين النصارى مثلٌ يقول: كلما ازداد عدد المسلمين في حوزتك ازددت ثراء D Mas Moro Mas Oro. ومع الزمن، ولانقطاع هؤلاء المسلمين في شمال اسبانيا عن اخوانهم المسلمين، ظهرت بينهم في الكتابة "الأعجمية" Aljamindo، وهي القشتالية مكتوبة بحروف عربية. وتباينت اراء فقهاء المسلمين بشأن بقاء مسلمين في ذمة النصارى وتحت حكمهم في اسبانيا. فالفقيه المغربي احمد الونشريسي المتوفى سنة 914ه/ 1508م أفتى بضرورة هجرتهم الى دار الاسلام، بينما نجد الإمام المالكي التونسي أبا عبدالله محمد المازري المتوفى سنة 536ه/ 1141م لا يشجع على هجرة مسلمي صقلية بعد استيلاء النورمان على الجزيرة بل يدعوهم الى البقاء في اوطانهم. مدجّنو نباره يقول باتريك هارفي ان المرء قد يندهش اذا علم انه في اواخر القرون الوسطى كانت ثمة جماعة اسلامية مهمة وذات شأن في مملكة نباره بجبال البرانيز، الا انه ينبغي ان لا يغيب عن البال بأن تطيله ثاني مدن نباره جنوبي البرانيز اختطها الفاتحون العرب في القرن الثامن الميلادي. ان مسلمي نباره لم يكونوا بمعزل عن بقية مسلمي الأندلس، اذ هم امتداد للمستوطنات الاسلامية بوادي ابره بمملكة ارغون3. ويقول صاحب "الروض المعطار" ان تطيلة "من اكرم تلك الثغور تربة، يجود زرعها، ويدرّ ضرعها، وتطيب ثمرتها، وتكثر بركتها"4. وينتسب الى تطيلة الشاعر الوشّاح، الأعمى التطيلي، صاحب القصيدة المشهورة التي مطلعها: ألا حدّثاني عن فُلٍ وفُلانِ لعلّي أرى باقٍ على الحدثان بعد سقوط تطيلة في يد صاحب أرغون الفونس الأول - المعروف بالمحارب - سنة 1119م، بقيت في المدينة جماعة اسلامية ذات بال، وكانت تحيط بالمدينة قُرى زراعية غنية معظم سكانها من المسلمين. ان الشروط التي منحها صاحب أرغون لمسلمي تطيلة كان يُستهدف من ورائها بقاءهم للاستفادة من خبراتهم. وقد تمتّع هؤلاء المسلمون بامتيازاتهم طوال أربعة قرون، أي طالما بقيت نباره مملكة مستقلة، بخلاف ما حدث في غيرها من المناطق الاسبانية. ولعلّ حُسن معاملتهم يعود الى كثرة اعدادهم في الأرياف، والى كون المسلمين مصدر رخاء البلاد وازدهارها، والى عُزلة نباره وبعدها عن أراضي المسلمين، بحيث لم يكن يُخشى من غاراتٍ للمسلمين او تواطؤ مسلمي نباره معهم. ويرى هارفي ان الرخاء النسبي لمدجّني نباره، واختفاء الاضطهاد الديني، وكون هؤلاء المدجّنين شغلوا مناصب سامية في خدمة التاج وفي الجيش... كل ذلك جعل من هذه الجماعة جماعة فريدة بين مدجّني اسبانيا5. الا ان هذا الوضع انتهى سنة 1516م بعد استيلاء قشتالة على نباره وضمّها لأراضيها. ومما أضفى على الاسلام في نباره صفة مميزة وجود جماعة Aljama مهمة منهم في مدينة تُطيلة في حي خاص بهم Moreria داخل أسوار المدينة. وفي هذا الحي كان للمسلمين مسلخٌ وأفران خاصة بهم، وحوانيت وأسواق للحاكة والسمّارين وصانعي السروج والحُصر والفخار والآجر والقشاني، كما ان الحي لم يكن معزولاً عن بقية المدينة. كما سُمح للمسلمين بموجب شروط التسليم بامتلاك الجنان المعروفة في الأندلس بالمُنيات في ظاهر المدينة وإقامة المنازل فيها. وثمة وثيقتان تدلاّن على المزايا التي تمتعت بها هذه الجماعة من المدجّنين من حرية الانتقال وقرب من التاج النباري، أولاهما وثيقة من الأرشيف الارغوني، وهي عبارة عن امان منحه سنة 1375م ملك ارغون بدرو الرابع - بطلب من صاحب نباره كارلوس الثاني - ينص على انه "يُسمح - تحت رعاية الملك - للمسافرين محمد القرطبي وعبدالله التونسي من مسلمي تطيلة وأفراد أسرتيهما التسعة، بالعبور، في طريقهم الى مكةالمكرمة، مع امتعتهم ودوابهم، ويُسمح لهم بالذهاب والإياب سالمين في كافة الأراضي الخاضعة لنا براً وبحراً دون اعتراض"6. وكان هؤلاء بين النخبة في بلاط نباره. فموسى القرطبي كان طبيباً للملكة، ثم ولي منصب القضاء، وكان يوقّع إيصالاته باللغة العربية. ومما يذكر ان اللغة العربية كانت مقبولة لجميع الأغراض الرسمية حتى نهاية استقلال نباره 1512م، فكان الموظفون المسلمون يوقّعون الايصالات بالعربية، ويصدّقون على الوثائق والمستندات بالعبارة المألوفة "صحّ". أما الوثيقة الثانية فمؤرخة في سنة 1314م، وفي هذه السنة توجّه أحد أمراء البيت المالك بنباره في حملة صليبية لمساندة ملك قشتالة الفونس الحادي عشر في الهجوم على مدينة الجزيرة الخضراء القريبة من جبل طارق، وكانت الحملة تضم عناصر من الفرنسيين المتعصبين خشيت سلطات نباره من قيامهم بالاعتداء على مسلمي تطيلة، ولذلك فانها اعدّت حرساً من عشرين رجلاً "لحراسة حي المسلمين بتُطيلة من أذى الفرنسيين الى ان بارح الفرنسيون المدينة"7. مهارات مدجّني نباره التقنية كان حيّ المسلمين بمدينة تطيلة المركز الحيوي لجماعة المدجّنين، الا ان معظم مسلمي نباره كانوا يزاولون الفلاحة، وبخاصة في الأراضي المروية. ومن بين اهم الغلاّت التي كانوا ينتجونها الحبوب والكتّان والحلفاء والخضروات، الا انه يبدو انهم تخصّصوا بزراعة اشجار الفاكهة، حتى ان احدهم كان المتعهد الملتزم بتزويد الملكة بالفاكهة. كما احتكر مسلمو نباره وسائل النقل من بغال وخيول، وهي الوسائل الرئيسية للنقل في اسبانيا آنذاك. فاذا تنقّلت الأسرة المالكة من مكان الى آخر، كان المسلمون هم المتعهدين لتوفير وسائل النقل اللازمة. كما كانوا يتولّون نقل السلع من شموع وتوابل. أضف الى ذلك ان المسلمين كانوا يستأثرون بالتنظيم والخبرة في الأسواق، فمنهم كان البياطرة والسمّارون والحدادون. ويُذكر ان احدهم البيطري ابراهيم مديشة ؟ Madixa اجزل الملك مكافأته سنة 1401م بعد ان أقام بعيداً عن تطيلة مدة ست سنوات في خدمة الملك حدّاداً في القلعة الملكية في شيربورغ المطلة على القنال الانكليزي. وتخصص المسلمون كذلك في صناعة وصيانة الأعنّة والسروج وكافة متطلبات الفارس آنذاك، من مهاميز ودروع وسيوف ورماح وأقواس رمي، ثم بنادق. ونظراً الى اشتغالهم بصناعة الاسلحة والفولاذ، فان هؤلاء المسلمين وجدوا انفسهم في طليعة التقنيات الجديدة التي كانت آنذاك آخذة في التطور بسرعة. كان أحمد الهذيلي في العقد السابع من القرن الرابع عشر للميلاد كبير قوّاسي الملك، والمسؤول عن الأعتدة في قلاعه. وكانت اسلحة القذف تطورت في تلك الفترة من الأقواس الى المدفعية ذات القذائف من الكُرات الحديدية8. ولما كان البيت المالك بنباره في حروب متواصلة مع الفرنسيين في شمالي جبال البرانيز، فانه كان في حاجة الى افضل الأسلحة وأنجحها. ولهذا الغرض، فإن جلّ اعتماده كان على الخبراء المسلمين الذين كان يجزل لهم العطاء وينعم عليهم بالرتب. فعليّ بن أحمد الهُذيلي كان المسؤول عن المدفعية في قلعة مدينة إستيلّة Estella - الى الغرب من بنبلونة - وقد كوفئ بإعفائه من الضرائب. وأسرة الهذيلي هذه من الخبراء الحربيين توارث ابناؤها المناصب في هذا المضمار أباً عن جد. وبهذه الطريقة "دلّل مسلمو نباره على قُدرتهم على المساهمة في التغييرات التقنية في عصرهم، بل وفي المحافظة على مكانتهم في الصدارة"9. وكانت الأسرة المالكة بنبارة كثيراً ما تلجأ في العلاج الى الأطباء المسلمين، والى القابلات المُسلمات. فالملكة ليونور تراستامارا استعانت بقابلة مسلمة اسمها مريم، ودفعت لها 150 فلورين، وأهدتها قطعة من القماش. كما استخدمت ليونور مسلمين لتشييد قصورها وزخرفتها وتجهيزها. وكان كبير النجّارين من المسلمين. ويمكن القول ان الأسرة المالكة بنباره كانت تزهو بأن قصورها وتجهيزاتها من صنع المدجّنين. كيف انتهت هذه الجماعة المسلمة من مدجّني نباره؟ في سنة 1512م، اجتاحت جيوش ملك قشتالة مملكة نباره، واتخذ ملك قشتالة فردناند لنفسه لقب ملك نباره. وقد بقي مسلمو نباره على حالهم حتى سنة 1515م حينما اتُخذ القرار بضم نباره الى تاج قشتالة، وبدئ بتطبيق كافة قوانين قشتالة في نباره، ومن بينها القانون الجائر الذي كان قد صدر في غرناطة سنة 1502م، والقاضي بأن على المسلمين في كافة أراضي التاج القشتالي إما التنصّر وإما النزوح عن البلاد. وهكذا، فانه في سنة 1516م - وبعد انذار مهلته شهر واحد - كان على مدجّني نباره ان يقرروا مستقبلهم، فقام بعضهم - لتجنب الإكراه على التنصّر - بالنزوح الى اراضي مملكة ارغون المجاورة لنباره، والتي كانت غير خاضعة بعد لقانون 1502. هوامش 1 - Collins, R. The Basques, Oxford 1986, P.140. 2 - ابن عذاري المراكشي: البيان المغرب في اخبار الأندلس والمغرب، الجزء الثالث، بيروت 1980، ص38. 3 - Harvey,L.P. Islamic Spain 1250 - 1500, Chicago V.P 1990, P 139. 4 - الحميري، محمد بن عبدالمنعم: كتاب الروض المعطار في خبر الأقطار، بيروت 1975، ص133. 5 - هارفي، ص139. 6 - نفسه، ص141. 7 - نفسه، ص142. 8 - انظر ابن الخطيب، لسان الدين، اللمحة البدرية في الدولة النصرية، بيروت 1978، ص85. 9 - هارفي، ص145. * أستاذ جامعي فلسطيني في أكسفورد.