ضمن إصدارات مشروع «كلمة» التابع لهيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة جاء إصدار هذا الكتاب القيم، لاسيما، أنه يجيب عن تساؤلات لا يزال بعضها معلقاً، من نوعية ما الذي جرى في الأندلس؟ ولماذا جرى؟ وما هي الأسباب التي قادت إلى هذا المصير المؤلم، مصير «الدين والدم ... وإبادة شعب الأندلس»؟ الكتاب من تأليف ماثيو كار المؤرخ والكاتب والإعلامي، البريطاني المولد، ومن أهم أعماله الأخرى «الماكنة الجهنمية: تاريخ الإرهاب» الذي يرد فيه الإرهاب إلى جذوره التاريخية الأقدم، ويضعه في سياقه الدولي والثقافي الأوسع، ورواية «بيت أبي» التي تبرز الشوق إلى الجذور، والبحث عنها. والمترجم هو الكاتب الدكتور مصطفى قاسم صاحب الأعمال الفريدة والترجمات العديدة في مصر والمملكة العربية السعودية. تنتهي قصة الأندلس أو أيبيريا الإسلامية، لدى الكثيرين عند عام 1492، ولا يعلمون أن ما يقرب من نصف مليون مسلم ظلوا يعيشون في إسبانيا بعد سقوط آخر الممالك الإسلامية: غرناطة. لكن كيف كانت نهاية الأندلس وماذا حدث لشعبها؟ هل غادروا البلاد إلى شمال أفريقيا أو غيرها من بلاد المسلمين مع حكامهم المعزولين؟ أم بقوا فيها وعاشوا تحت الحكم الجديد؟ وماذا حدث لمن قبلوا العيش تحت حكم الممالك النصرانية؟ وكيف سارت حياتهم؟ وكيف كانت علاقاتهم بالدولة ؟ والكنيسة ومواطنيهم النصارى؟ هل ذابوا في المجتمعات النصرانية وتلاشت خطوط الفصل الدينية والثقافية التي كانت تفصلهم عن النصارى في زمن الممالك الإسلامية ؟ وكيف تعاملت الممالك النصرانية مع الاختلافات الدينية والثقافية للمسلمين الذين خضعوا لسلطانها؟ في نحو ستمئة صفحة من القطع المتوسط، يجيب كتاب «الدين والدم» عن هذه التساؤلات وغيرها عبر تناول تاريخي رصين، ومحايد، ومتوازن، وشامل، كقصة المورسكيين، ومصيرهم المأسوي بداية من سقوط غرناطة عام 1492، حتى طردهم النهائي من إسبانيا عام 1614. علامة الاستفهام الأولى التي تواجه القارئ المعاصر: «من هم المورسكيون»؟ في واقع الأمر تعني كلمة «Moriscos» وهي كلمة إسبانية الأصل، «الأندلسيين الصغار» أو «أنصاف الأندلسيين» وقد استخدمها الأوروبيون بخاصة في شبه جزيرة أيبيريا، للإشارة إلى المسلمين الذين نُصّروا قسراً في إسبانيا والبرتغال، بعد سقوط ممالك المسلمين في الأندلس، ومع الوقت أصبحت الكلمة تستخدم في شكل ازدرائي للإشارة إلى الكاثوليك بالاسم فقط، الذين يشتبه في أنهم يطبقون تعاليم الإسلام وطقوسهم سراً. تبدأ القصة بالحرب «الصليبية» التي غزت لعشر سنوات، مملكة غرناطة الأندلسية، وانتهت بسقوطها عام 1492، الذي كان في الوقت نفسه بداية لعملية طويلة من التطهير الديني والعرقي «لإسبانيا المقدسة» استهلت باليهود الإسبان في هذا العام المشؤوم نفسه، ثم تحوّلت إلى المسلمين على مدى أكثر من قرنين. ترى ما هدف ماثيو كاري من إعادة قراءة هذه القصة بعد خمسة قرون من أحداثها؟ لقد أراد كار وفق مترجم الكتاب، وله في ذلك ألف حق، أن يذكّر القراء الغربيين في الأساس بمأساة شعب حوربت ثقافته بأبشع الأساليب، وأجتثّ من أرضه أخيراً بسبب الاختلاف في الدين والثقافة، كي يبرز لهم أن التضييق على المسلمين وغيرهم من المهاجرين في أمور الدين والثقافة في الوقت الراهن لا يختلف كثيراً عما كانت تفعله الحكومات الدينية في إسبانيا وأوروبا قبل العصر الحديث. والشاهد أنه إذا كان المؤلف «الغربي» وجد أن الدرس الأول الذي يمكن استخلاصه من قصة المورسكيين يكمن في تحذير الغرب من الانسياق وراء الخطاب الشوفيني المعادي للإسلام ومفردات الثقافة الإسلامية حتى لا يجد الغرب نفسه في مربع إسبانيا «الكاثوليكية» إذا كان هذا كذلك، فإن القارئ العربي يمكن أن يستخلص دروساً أخرى من الكتاب منطلقاً من واقع مجتمعه وظرفياته. وأول هذه الدروس هو التماثل الذي يكاد يصل إلى حد التطابق بين حال الهوَس الديني في إسبانيا القرن السادس عشر والخطاب الديني الدعوي الذي فرض نفسه على المجتمعات العربية بعد «ثورات الربيع العربي». يبدأ الكتاب بعد المقدمة التي تحدد الهدف منه بمدخل يوجز تاريخ الأندلس منذ فتحها عام 711 على يد القائد المسلم طارق بن زياد، مطوّفاً بممالكها القوية وحواضرها الزاهرة وحروبها ضد الممالك النصرانية في أراغوان وقشتالة، ثم يتوقف قليلاً أمام سقوط غرناطة فيعرض بإيجاز حروب الاستنزاف الطويلة التي سبقت حصار غرناطة عام 1491. يخبرنا كار كيف أنه في الفترة بين عامَي 1609 و 1614 أي طوال خمسة أعوام أمر فيليب الثالث ملك إسبانيا بطرد السكان المسلمين جميعاً من الأراضي الإسبانية، فطرد زهاء ثلاثمئة وخمسين ألف رجل وامرأة وطفل قسراً من بيوتهم، وأُجلوا عن بلادهم في واحدة من أكبر عمليات إبعاد السكان المدنيين في التاريخ الأوربي، وهي تفوق - كذلك - طرد اليهود من إسبانيا، الذي نفّذ في وقت سابق، عقب غزو النصارى غرناطة في 1492. وعلى خلاف اليهود، عمّد كل المسلمين قسراً في المذهب الكاثوليكي بداية القرن السادس عشر. وعلى مدى أكثر من مئة عام، عاش المورسكيون حياة خطرة وسط مجتمع نصراني، سعى إلى استئصال تقاليدهم الدينية والثقافية، واضطهدهم حين ثبت أنهم غير راغبين أو غير مؤهلين للانصياع لتلك المطالب. يخبرنا المؤلف البريطاني أن حكام إسبانيا، مع بداية القرن السابع عشر، تيقّنوا من أن المورسكيين جميعاً لن يتجاوزوا هذا التحوّل، وتبلور إجماع مؤثر، صوّرهم على أنهم جماعة أجنبية لها انتماءات سياسية ودينية خارج حدود إسبانيا، وأن أعضاءها رفضوا الاندماج في المجتمع النصراني، وأن وجودهم يشكل تهديداً للسلامة الدينية لإسبانيا، وخطراً على الأمن الداخلي للدولة، وفي عام 1609، وبعد أعوام من التردّد والنقاشات الرسمية الملتوية، أصدر فيليب ووزراؤه القرار المتطرّف بإبعاد المورسكيين جميعاً عن التراب الإسباني، ولقد لقيَ قرار الطرد حينذاك ترحيب غالبية المؤرّخين المرتبطين بالدولة، إذ اعتبروه قراراً جذريّاً يحقّق التطهير الديني لإسبانيا، وأن من شانه أن يجلب لها الرخاء والمكانة والنجاح العسكري، لكن كثيراً من الإسبان بعد بضعة أعوام من الإنهاء الرسمي للمرسوم بدا لهم أن الأمر كان خطأ، إن لم يكن كارثة. يلفت كار إلى أن غالبية المؤرّخين يتّفقون على وحشية عملية الطرد، بغض النظر عن مدى قبولهم أهدافها، وكثيراً ما يوصف إبعاد المورسكيين بأنه مأساة تاريخية، حكمت بالضياع على عشرات الآلاف من الرجال والنساء الذين فقدوا بيوتهم وموارد أرزاقهم، فضلاً عن حياتهم في حالات كثيرة. على أن الطرد أيضاً جريمة لا تغتفر وفي عنق التاريخ تبقى ولا تنسى، فحتّى بعد أربعمئة عام لا تزال هذه الجريمة تبدو وكأنها من وقائع العصر الحديث، وتاريخ الدولة القوميّة يحفل بحوادث إبعاد لجماعات زائدة أو غير مرغوب فيها عن أراضيها وبيوتها، أو إبادتها جسدياً لتحقيق تجانس الدولة دينياً أو عرقياً أو ثقافياً. يلقي الماضي دائماً وأبداً بظلاله على الحاضر، هكذا يريد المؤلف أن يبعث بإشارة لا تخطئها العين، فإبعاد المورسكيين ينطوي في أهدافه ودوافعه وفي توليفة التنظيمي البيروقراطي واستخدام الموارد الإدارية والعسكرية والاقتصادية لإبعاد أولئك السكان المدنيين غير المرغوب فيهم، على مكوّنات كثيرة من تلك التي أصبحنا نربطها بظاهرة التطهير العرقي ... هل كان طرد المورسكيين وتهجيرهم وبالاً على العالم الوسيط والجديد في ما بعد؟ هذا ما يراه كار وعنده أن عمليات الترحيل والمذابح التي اقترفت بحق الأميركيين الأصليين في أثناء توسيع الحدود الأميركية غرباً، وحملة «التتريك» الشرسة التي قتلت زهاء مليون أرمني في عامي 1915 - 1916، والنقل الجماعي للنصارى الأتراك إلى اليونان، والمسلمين اليونانيين إلى تركيا بعد الحرب اليونانية - التركية في عام 1923، والمحرقة النازيّة، والعمليات الوحشيّة لتبادل السكان المسلمين والهندوس التي تلت إعلان دولتَي الهند وباكستان الحديثتين، وإبعاد الفلسطينيين عن أراضيهم عام 1948، والحروب الأهلية في يوغوسلافيا السابقة، تعدّ كلّها أحداثاً وقعت على منوال حملة التطهير الكبرى التي حدثت في إسبانيا بين عامَي 1609 و1614.